الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةدراساتشؤون خليجيةمقالاتملفات مميزة
سلمان العودة والفكر اليباب (الجزء السادس)
العودة والجهاديون السعوديون.. وحقيقة انتمائه لتنظيم الإخوان المسلمين بعد 2001

كيوبوست
الجهاديون من البداية.. منشور وسؤال وجواب
في يوم من أيام أغسطس 1995، عزمت أنا وثلة من الأصدقاء على قضاء بعض الوقت في رحلة خلوية، وفي طريقنا إلى المكان، توقفنا أمام أسواق الفاخرية (دخيل ماركت الآن) في حي الفاخرية في مدينة بريدة، وبعد شراء بعض الحاجيات، وأثناء خروجنا من الأسواق كانت أمامنا مجموعات متناثرة من الأوراق صغيرة الحجم والتي تعودنا على رؤيتها في تلك الأيام، إذ كانت عبارة عن منشورات إما من المسعري أو غيره التقطت واحدة منها، وكانت فحوى تلك الورقة عبارة تهنئة لولي الأمر بمناسبة استئصال شأفة الشر والإجرام والمتمثل في تنفيذ حد الحرابة في أحد المفسدين في الأرض، وليس هذا مكمن الغرابة، وإنما مكمنها أنَّ الموقعين على تلك التهنئة هم: الشيخ حمود العقلاء الشعيبي، والشيخ محمد بن صالح المنصور، والدكتور صالح بن محمد الونيان، والدكتور سليمان بن حمد العودة، والدكتور علي بن إبراهيم اليحيى[1]، أما مَن نُفِّذ فيه حد الحرابة فهو: عبدالله بن عبد الرحمن الحضيف.
وفي يوم الأحد التالي لرحلتنا المذكورة، وفي درس شرح التدمرية، للشيخ حمود العقلاء الشعيبي، في جامع الجاسر، في حي بن صبيح (حي السلام حاليًا) في مدينة بريدة، وبعد توجيه الشيخ بأن يقوم أحدهم بإرسال سؤال حول المنشور الموزع في وسط الدرس ليجيب الشيخ العقلاء عنه، استباقًا للأسئلة التي عادةً تكون في نهاية الدرس، حتى يتسع الوقت للإجابة على هذا السؤال، وبالفعل أتى السؤال وأجاب عنه العقلاء بتكذيب ذلك المنشور، وقال كلامًا قويًا جريئًا، لا يقوله أحد حينها، وألقى باللائمة مباشرة على جهاز المباحث السعودي، وأنه من تدبيرهم، ولا يمكن للمشايخ المذكورين بالمنشور وهم من عرفوا بجهادهم في سبيل الدعوة والصبر على الأذى فيها، أن يداهنوا الظلمة -كما ذكر-.
أولى شرارات العنف الصحوي أو التخلق الجهادي الصحوي الأول
اقتنع الصحويون بأن ما يجري ما هو إلا قمع من قبل الحكومة السعودية، وأن الاحتجاج السلمي لا جدوى منه، إذن فلا خيار إلا اللجوء إلى العنف، وهو الأمر الذي سبق أن هدد به مشايخ الصحوة قبل إيقافهم، وأكد عليه أتباعهم بعد الإيقاف.
فانطلقت أول شرارة لهذا العنف في 11 نوفمبر 1994، عندما قام عبد الله الحضيف، وردًا على حملة الاعتقالات ضد الصحويين، وما جرى لهم في التحقيقات كما يبررون، بمحاولة فاشلة لخطف الرائد-حينها- سعود الشبرين أحد ضباط المباحث العامة ثم قتله، ولم تفلح تلك المحاولة، ونجم عنها سكب مادة حارقة على الرائد الشبرين، و بعد فترة وجيزة من هجومه هذا أُلقي القبض على الحضيف، ثم نُفذ فيه حد الحرابة، لمحاولة الخطف والقتل في 12 أغسطس 1995، وتلقى الصحويون خبر إعدام الحضيف بغضب شديد وأطلقوا عليه لقب الشهيد، وأصبح رمزًا عندهم، وأتهموا الحكومة السعودية بفتح “باب الدم”، وأدى جموع غفيرة عليه صلاة الغائب في عدد من مدن المملكة، في البيوت والاستراحات وخارج المدن، خوفًا من الملاحقة الأمنية.
اقرأ أيضًا: سلمان العودة والفكر اليباب
وعلى ضوء ذلك قررت مجموعة من الصحويين مختلفي المشارب -كما ذكرنا في الجزء الرابع من هذه السلسة- وهم: رياض الهاجري، وخالد السعيد، وعبد العزيز المعثم، ومصلح الشمراني، الانتقام لعبد الله الحضيف على الرغم من المعرفة الطفيفة بينهم، من خلال استهداف مجمع تستخدمه “شركة فينيل” التابعة للجيش الأمريكي، والتي تعمل على تدريب الحرس الوطني في وسط العاصمة الرياض، بسيارة مفخخة بمواد متفجرة تزن (100 كيلوغرام) في (13 نوفمبر 1995)، وكانت نتيجة الهجوم مقتل (5) جنود أمريكيين وهنديين، وأصيب ما يقارب من (60) شخصًا آخر بجروح.
وتعتبر حادثة الإرهاب التي قام بها هؤلاء الأربعة، أول باب يدخل منه الدم في مسيرة الصحوة السعودية، إذا اعتبرنا أن حادثة الحرم المكي (1979)، المعروفة بحادثة جهيمان، إرهاصة لانطلاق الصحوة من مكامنها، وليست صحوية صميمة، وهذا ما يجزم به الكاتب.
الجهاديون السعوديون وسلمان العودة
كل القريبين من سلمان العودة يعلمون أنه عانى الأمرين من الجهاديين بعد خروجه من السجن بفترة غير طويلة، والذين كانوا ينتظرون منه كلمة ولو من بعيد لنصرة الجهاد السعودية، وعلى الأخص القيادي القاعدي الأبرز على مستوى الداخل السعودي الهالك يوسف العييري، والذي اتضح له مدى بُعد وتحول سلمان العودة عن الخط القديم، خصوصًا بعد الخطاب الشهير المعروف “بخطاب التعايش” والذي كان بعنوان: “على أي أساس نتعايش؟” والذي نشر في موقع الإسلام اليوم في (مايو 2002)، الذي قلب به العودة ظهر المجن لرفقاء الأمس بحثًا عن موطئ قدم مع الرفقاء الجدد القرضاوي والإخوان المسلمين والسلطة القطرية، والذي بدأ بمغازلتهم فور خروجه من السجن.
اقرأ أيضًا: سلمان العودة والفكر اليباب (الجزء الثاني)
جاء الخطاب المعروف باسم خطاب التعايش ردًا على ما طرحه (مركز القيم) في الولايات المتحدة الأمريكية، ووقع عليه ستون مثقفاً أمريكياً، منهم: صامويل هنتنغتون، وفرانسيس فوكوياما، والذي كان بعنوان: “على أي أساس نقاتل؟”
استطاع البيان الذي وقع عليه العودة ومجموعة كبيرة من الشخصيات مختلفة المشارب من الرجال والنساء، أن يحدث انقسامًا عنيفًا داخل التيار الصحوي، كونه يعد أول محاولة لصياغة مفاهيم حديثة في إطار الصحوة، بإشراك تيارات كانت مُكفَّرة بالأمس من التيار الصحوي ورموزه.
تلقى الجمهور الصحوي البيان بغضب شديد، وتنديد، وحملوه أخطاء عقائدية مهلكة، وكانت الحملة موجهة أساسًا ضد الصحويين الذين وقعوا البيان بالمقام الأول، وعلى الأخص سلمان العودة وناصر العمر وسفر الحوالي.
وقاد الشيخ عبد الرحمن البراك، هجومًا كاسحًا على الرموز الصحوية الثلاثة، مؤازرًا بعدد من التكفيريين، على رأسهم المنظر البارز للتيار التكفيري والجهادي، ناصر الفهد، واتهموهم بمداراة الكفار والدعوة للحوار معهم بصورة استرضائية وانهزامية، وأن البيان غلب عليه جانب لغة الحوار وقفز على مفاهيم ثابتة كالجهاد، مع غياب تام لمفاهيم الولاء والبراء ومعاداة الكفار.
وأمام هذا الضغط، وانسحاب الكثير من الشرعيين وتبرؤهم من البيان، أصدر هؤلاء الثلاثة ما أسموه (بيانًا توضيحيًا) تخلوا فيه عن بيان (على أي أساس نتعايش؟)، ولكن بعد أن حقق الغرض المطلوب منه، ولربما كان أحدها، تقديم صحويي الأمس ومتطرفيه، وجهًا متسامحًا مستعدًا للتغير والمهادنة أمام الإدارة الأمريكية، أقول ربما ولا أجزم جزمًا، ولهذا القول ما يبرره في القادم من القول.
وعلى كلٍ لم ينجح بيان الاعتذار الذي أصدره الثلاثة في تبديد الحنق والاحتقان في صفوف الشباب الصحوي، مما مكَّن الجهاديين السعوديين من حيازة مواقع متقدمة في عملية احتلال بعض المواقع التي غادرها رموز الصحوة.
اقرأ أيضًا: سلمان العودة والفكر اليباب – الجزء الثالث
العودة والجهاديون السعوديون.. نقاط التقابل ونقاط التدابر
سلمان العودة كانت له جهود حركية لا تخفى في حينها، وكانت كل الشخصيات الجهادية السعودية قريبةً منه بلا استثناء، وحتى تلك الشخصيات المعارضة في الخارج الآن، وليس سرًا، أن من زكَّى الفقيه والمسعري عند القطريين بواسطة القرضاوي، هو سلمان العودة، وفي وقت مبكر جدًا، بعد خروجهم من السعودية، ما جعل السلطة القطرية تدعم لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية في لندن، بل هو من زكاهما عند شيخه القديم محمد سرور بن نايف زين العابدين، ولتلميذ سرور في الكويت الإخواني عزام التميمي، واللذَين -سرور والتميمي- استطاعا بناء كيان اللجنة في لندن بالمال القطري من لا شيء، ولو بقي الأمر على جهد الفقيه والمسعري، لخمدت نارهما في الأيام الأولى لوصولهم بريطانيا.
وذات المواقف فعلها العودة مع المجاهدين، بدءًا بالرأي والفتوى والمساندة المادية والمعنوية.

العودة والجهاديون السعوديون.. نقاط التقابل
ضمن فعاليات الحفل السنوي لحفظ السنة النبوية الأول والمقام في (أكتوبر 1992)، بمدينة بريدة، أقيمت على هامشه عدة محاضرات في مختلف محافظات القصيم، منها محاضرة في الرس بعنوان: (الجهاد في سبيل الله[2]) ألقاها ثلاثة من الرموز الصحوية، وهم: الدكتور عبد الله بن جبرين، والدكتور عبد الله بن حمود التويجري، والدكتور سلمان العودة، وقدمها الدكتور خليفة البطاح، أحد أهم الرموز السرورية في مدينة الرس، وكعادتهم مرروا المعاني المناقضة لكل ما هو مواطنة ووطن، وفي البداية وفي النهاية، حصروا دواء الأمة من كل أدوائها بالجهاد والجهاد فقط، والمحاضرة موجودة صوتًا ومفرغة كتابيًا كذلك.
يزعم الدكتور سلمان العودة، مرارًا وتكرارًا، أنه كان ضد ذهاب الشباب للجهاد، وهذا صحيح بقدر معين، غير أنه ذكر السبب سرًا وجهارًا عدة مرات، وهو أن رفضه لذهاب الشباب هناك نابع من عدم التفريط بالقوة المحركة للشارع المحلي، فإنه -كما يذكر- حينما يحض على ذهاب الشباب إلى مناطق الصراع فإنه كمن يضع بيضه كله في سلة واحدة، فنحن بحاجتهم هنا أكثر، ولك أن تفسر هذه العبارة على ضوء ما حدث لاحقًا.
اقرأ أيضًا: سلمان العودة والفكر اليباب – الجزء الرابع
في محاضرته (حي على الجهاد[3])، تكلَّم الدكتور سلمان العودة عن الجهاد وأهميته وبقائه إلى يوم القيامة، وأن مَن قال بنسخه بأي اعتبار فهو كافر؛ ثم ذكر واقع الأمة وتركها الجهاد وسقوط الخلافة وأثره في الجهاد، ثم ختم بأنه لابد من إقامة حركة إسلامية جهادية، وفي ما يلي ملخص لأهم أفكار المحاضرة:
- شعيرة الجهاد، شعيرة محكمة، باقية إلى قيام الساعة، أي أن الجهاد مستمر شرعًا، وواقعًا.
- قضية الإقرار بشرعية الجهاد؛ هذه قضية مفروغ منها في الدين، ومسلمة، وهي من القضايا المعلومة من الدين بالضرورة، لو أنكرها إنسان؛ فإنه يكون مرتدًّا، ويُقتل مرتدًّا.
- بعض الفقهاء، وبعض المفكرين المعاصرين، يطرحون قضية الجهاد طرحًا ميتًا متماوتًا، مخذولًا مهزومًا، يقول لك: الأصل المسالمة مع الكفار، والأصل أننا ندعو وننشر الإسلام بالحكمة، والموعظة الحسنة، وبالسلم، وبالدعوة السلمية، أصبح كثير -لا أقول من عامة المسلمين بل من دعاة الإسلام في هذا العصر- يتصورون أنه من الممكن عن طريق الدعوة السلمية، والوسائل السلمية، أن أمريكا تسلم، ثم بريطانيا، ثم فرنسا، ثم ألمانيا، ثم روسيا، والحمد الله رب العالمين، وتنتهي هذه القضية، ولا نحتاج إلى رفع راية الجهاد، ولا نحتاج إلى حمل السيوف للقتال، يتصور بعض البله والمغفلين مثل هذا الأمر.
- لو أتيت إلى جمهور المسلمين؛ الجمهور فقط، لا تذهب إلى العلماء والفقهاء والمختصين، اذهب إلى العامة، اجلس معهم، انظر إلى كثير من هؤلاء، قُل لهم: ما رأيكم في النصارى؟ ما رأيكم في اليهود؟ ما رأيكم في الشيوعيين؟ تجد كثيرًا من عوام المسلمين اليوم أصبحوا يجهلون وجوب عداوة الكفار والبراءة منهم، والولاء والبراء لا يعرفونهما.
- قد تجد المسلم يعيش إلى جنب اليهودي، وإلى جنب النصراني والمشرك والشيوعي، سواء بسواء، وتحت سقف واحد، يأكلون طعامًا واحدًا، ويشربون ماءً واحدًا، وبينهم من الألفة والمودة الشيء العظيم كأنهم إخوة؛ حتى عوام المسلمين اليوم ضاعت منهم معاني الولاء والبراء، وفقدوا إحساسهم بالتميُّز بالدين.
- من السذاجة بمكان أن نتصور أن الطبيعة- التي حكاها الله، عز وجل، عن الكفار واليهود والنصارى والمشركين في القرآن الكريم- يمكن أن تتغيَّر، ويمكن في يوم من الأيام أن نفرض الإسلام عليهم، عن طريق السِّلْم، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والبرلمان، والمجالس، ثم إذا بهم بقدرة قادر يتحولون إلى مسلمين! هذه سذاجة وبلاهة يطول منها العجب! ولست أعجب أن تنطلي على سُذَّج ومغفلين؛ ولكنني والله أعجب أن تنطلي على مفكرين، ويُقال لهم فقهاء، ويكتبونها في كتب وتنشر في دوريات، ونشرات، وقد آلمني هذا جدًّا.
- طبيعة الكفر واحدة؛ فالكفر الذي واجهه الأنبياء هو الكفر الذي نواجهه الآن.
- قضية ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنع الجهاد ويحرمه -ومع الأسف- يوقِّع عليه المسلمون، وهو يعتبر أن الجهاد نوع من القرصنة الإقليمية، والاعتداء على حقوق الآخرين، وأن المنازعات بين الدول يجب أن تُحل بالطرق السلمية؛ لأن النـزاع يُهَدِّد الأمن والسلام الدوليين كما يقولون.
- الواجب وما أكبر هذا الواجب: الواجب حركة إسلامية جهادية في كل صعيد، عدونا حاربنا بالمرض، فنحن نحتاج إلى حركة جهادية تسعى إلى إعادة الصحة والقوة إلى المسلمين، وحتى حين يكونون ضعفاء {لعل الله أن يخرج من أصلابهم مَن يقول لا إله إلا الله}؛ حتى حين نكون ضعفاء، حاربنا العدو بالجهل. فنحن بحاجة إلى حركة تعليمية واسعة النطاق، ترفع الأمية والجهل عن المسلمين، عدونا حاربنا بالفقر، فنحن بحاجة إلى حركة اقتصادية صحيحة سليمة تسعى لتوفير المال بأيدي المسلمين من خلال الطرق والوسائل الشرعية، ثم نحن بحاجة إلى حركة جهادية تقاتل الكفار على الثغور، في فلسطين، وفي أفغانستان، وفي كل بلد يهيمن عليه الكفار، وترفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله. نحن بحاجة إلى حركة جهادية شرعية تنشر العلم الشرعي والفقه والمعرفة؛ وهي الضمانة لكل التحركات السابقة، تضمن أن لا تنحرف ذات اليمين أو ذات الشمال، ثم مع ذلك نحن بحاجة -كما أسلفت- إلى حركة جهادية، إعلامية، تصنع الإعلام الإسلامي الذي يكون بديلًا عن الإعلام المنحل، وهذا يحتاج إلى أُمم من الناس. القضية في الواقع -أيها الإخوة- ليست قضية يسيرة -كما يبدو لنا- أحيانًا نقول مجرد مجموعة في بلد من البلدان النائية تقوم بحركة ثم تدعم ثم تقوم دولة الإسلام، ثم يهاجر إليها المسلمون، ثم تبدأ تتوسَّع، هذا تصور فيه سذاجة، فيه غفلة، نحن بحاجة إلى حركة جهادية في كل بلد، وفي كل مجال، وعلى كل صعيد، ونحن بحاجة إلى جهد كل مسلم؛ كل مسلم يجب أن يكون إيجابيًّا، مرحلة الغثائية يجب أن نتعداها، كن إيجابيًّا فعالًا مؤثرًا بقدر ما تستطيع.
- وفي الأسئلة جاءه فأجاب عنه بالتالي: “أما مسألة هل تجلس هنا أم تذهب إلى هناك؟ فأقول: يختلف الأمر: إن كان لك بلاء هنا كأن تكون داعية مفيدًا هنا؛ فاجلس هنا، أما إن كان لك بلاء هناك -أنت متخصص في الأمور العسكرية- عندك خبرات قد لا توجد عند غيرك؛ فاذهب إلى هناك، أو كنت إنسانًا داعية وليست لك هنا قيمة. ولكن تقول: هناك أريد أن أنشر الدعوة بينهم، والتوحيد، والعلم الصحيح، فهذا شيء طيب وجيد، أو طبيب تذهب لتعالج، أو ممرض للتمريض، أيضًا هذا جيد، تذهب ولو شهرًا أو شهرَين هناك، وإلا فابق هنا، وجاهد ما تستطيع، ونحن يجب أن لا نعتقد أن هناك مجالًا واحدًا تنصب فيه جهود المسلمين، فلا نضع البيض في سلة واحدة، يمكن تسقط هذه السلة فيتكسَّر البيض كله، لا، بل نعمل على كل الثغرات، وفي كل المجالات، ونسأل الله أن ينصر الإسلام في أفغانستان، وفي كل مكان.
هذه المحاضرة وضعت كملف صوت وفُرِّغت كتابيًّا ونُشرت على الشبكة العنكبوتية بالصيغتَين، ثم أعاد العودة نشرها في الموقع المسمى “موسوعة الدكتور سلمان العودة”، مرة أخرى، وكما تشاهد هي ذات الأفكار التي يراوغ في مسألة التراجع عنها ونفيها، والاعتذار عنها، بينما ما زال ينشر هذه المواد بكل نشاط.
اقرأ أيضًا: سلمان العودة والفكر اليباب – الجزء الخامس
وفي التالي بعض نماذج لأفكار[4] أراد العودة غرسها في وجدان الشباب الصحوي على ما أسسه من قواعد هو ورفاقه في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
- قال الدكتور سلمان العودة في محاضرته الأشهر: (أسباب سقوط الدول[5]): “نحن نُغزى منذ سنين ويُحفر لنا في جوانب عديدة؛ في جانب السياسة، الإعلام، الصحافة، الراديو، الإذاعة. حتى إنك إذا استمعت إلى بعض البرامج في إذاعة المملكة؛ سواءً كانت إذاعة الرياض أو إذاعة البرنامج الثاني، والله لتقول إن هذه الدولة وكأنها لا تدين بالإسلام، والمخطط جار منذ سنوات”.
- وقال في محاضرة بعنوان (يالجراحات المسلمين[6]): “الرايات المرفوعة اليوم في طول العالم الإسلامي وعرضه إنما هي رايات علمانية!”، والعلمانية عند الصحويين كفر مخرج من الملة[7]؛ وهذا يعني أن كلام العودة هنا تكفير بالجملة.
- وقال في محاضرة بعنوان (الأمة الغائبة[8]): “فالشعوب الإسلامية تعيش في وادٍ، وحكامها يعيشون في وادٍ آخر؛ لأنهم لا يعبرون عن حقيقة مشاعرها التي في قلبها ولا يمثلون حقيقة الدين الذي تنتسب إليه …”.
هذه بعض النماذج التي تستعصي على التتبع لكميتها الهائلة، فإن لم تكن هذه الأفكار، التي شرعنت للشباب الصغير التكفير ثم استباحة الدماء، فما هي إذًا؟
الصغير يسمع ويعي، ويلقن على عدة مستويات، وبعدة أشكال، حتى يصل بنفسه إلى نتيجة زبدتها كفر الحاكم والدولة وكل من يواليهما، وبالتالي يصل إلى نتيجة أخرى بالضرورة هي حتمية المواجهة وفعل أي شيء لتغيير الواقع، ثم يصل إلى مقارفة الفعل ذاته، وها هو سلمان العودة يرى أنه لا بأس بأن يذهب الشاب إلى أفغانستان كما مر معنا للتدريب ولكن بشرط أن يرجع، ولا يبقى، لأن في بقائه هناك اختطاف له من مسار الصحوة والسرورية، فالدور المطلوب تنفيذه هنا، لا هناك.
ويظل السؤال قائمًا، لَم لم يقم العودة بمراجعة تراثه وتنقيحه والاعتذار عما فيه من بواقع؟ ولمَ قام بنشره مرة أخرى، حتى بعد ادعائه الرجوع والتراجع؟!
العودة والجهاديون السعوديون.. نقاط التدابر
بعد انتهاء أزمة الخليج في (فبراير 1991)، نادت الصحوة يقودها الثلاثي الأشهر (العودة والحوالي والعمر) بإخراج المشركين من جزيرة العرب، ويقصدون بجزيرة العرب، المملكة العربية السعودية، وبعد أن تم اعتقال الصحويين، استلم الراية ابن لادن والأفغان العرب، وأدواتهم، وفي (1998)، وبعد شهور من تأسيس الجبهة الإسلامية العالمية لمحاربة اليهود والصليبيين، بدأ التيار التكفيري الجهادي ينشط في السعودية بشكل ملموس عبر الفتاوى والرسائل والاستقطاب المباشر، ولاحقًا عبر مواقع الشبكة العنكبوتية.
اقرأ أيضًا: سلمان العودة: من “ملتقى النهضة” إلى السجن
وكان الحركيّون السروريون يُحذرون شبابهم، وأتباعهم من الفكر الجهادي، حيث كانت الفترة بين عامي (1998م و 2003م)، مُمتلئة بالنشاط الفكري و العملي للجهاديين السعوديين، خصوصاً بعد أحداث(11 سبتمبر)، وكانت الرسائل والفتاوى التي كتبها ناصر الفهد، وعلي الخضير، وأحمد الخالدي، وعبدالعزيز الجربوع، ويوسف العييري، وفارس بن شويل الزهراني، وعبد الله الرشود، وغيرهم، جسرًا ممهدًا لخلق أرضية وبيئة جهادية في الداخل السعودي، وتداولها الشباب الذين راجت بينهم أيضاً كتب أبي محمد المقدسي “ملة إبراهيم” والكواشف الجليّة في كُفر الدولة السعودية”، وكتب أبي قتادة الفلسطيني وسيّد إمام (الدكتور فضل) وسواهم، وصار التيار الجهادي يستقطب ويستهوي المِئات من شباب الصحوة.

خرجت الرموز الصحوية من السجون في منتصف المدة المشار إليها، والتي نشط فيها الجهاديون، وكان الكل ينتظر ماذا سينجم عن خروج الرموز، التربويون الحركيون ينتظرون من العودة ورفاقه ضبط المسار وإعادة توجيهه مرة أخرى، والجهاديون ينتظرون التأييد والمؤازرة من مؤسسي هذا الفكر والتوجه ابتداءً.
تلوُّن العودة وسبب ارتدائه لباس المفكر الحر.. عوض القرني يُفَسِّر السبب
كان المفاجئ للجميع، وبعد ترقب لم يتأخر كثيرًا، ظهور تحولات منهجية على خطاب سلمان العودة، والذي بدأ يأخذ مسار النجوم والمشاهير، ولجأ العودة إلى أسلوب التلون بشكل أصرح مما كان عليه قبل دخول السجن، وتحول خطابه إلى خطاب براغماتي مغرق في النفعية، وأعزو ذلك إلى انفتاحه على جماعة الإخوان في السعودية، الجناح أو التنظيم الحجازي، بشكل أكبر، والذي يرأس فيه الدكتور عوض القرني مجلس الشورى، وهي وظيفة تماثل المراقب العام في بعض التنظيمات الإخوانية في بلدان أخرى، بعد أن تنحى الدكتور عبد الله المصلح، تقريبًا عن رئاسة التنظيم، واكتفى بموقعه في التنظيم الدولي للإخوان.

وقد ذكر لي الدكتور عوض القرني بنفسه أن سلمان العودة قال له: “أنه لو استقبل من أمره ما استدبر لانضم للجماعة، وأنه مع الجماعة قلبًا وقالبًا” ويضيف القرني أن العودة مع الجماعة، ولكن بشكل غير رسمي، ويقول القرني: “المشكلة أننا لا نستطيع خرق نظام الجماعة، وإعطاء العودة المكانة والمنصب الذي يستحق، ولن نقبل على أنفسنا أن نضع الشيخ سلمان في أول درجات السلم التنظيمي”، وأذكر في الصدد، وبعد صدمتي مما قاله الدكتور عوض القرني، بحكم أن التيار السروري بأكمله في ذلك الوقت يرى أن جماعة الإخوان أقل من أن تكون ندًّا للصحوة[9] كما يطلق السروريون على أنفسهم، فكيف يتحول أكبر رمز سروري إلى إخواني؟! ولذا كان علي أن أحاول التأكد مما قاله القرني ولو بأسلوب مخاتل، فبعد أيامٍ من لقائي بالقرني والذي كان في مدينة جدة، كنت في ضيافة العودة في منزله في بريدة مع مجموعة من الزوار، ولما حانت صلاة المغرب خرجت أنا والعودة متجهين إلى المسجد لوحدنا، فسألته عن الدكتور عوض القرني، وكيف لمثله علمًا وعقلًا وحكمة أن يكون مرتهنًا لتنظيم وحزب، فقال لي العودة: لو جاء الكلام من غيرك لعذرته، نحن لا تفرقنا تصنيفات الأعداء، نحن يد واحدة نعمل لهدف واحد، ومثل هذه المعاني، فلما رأيت أن الإجابة كانت محتقنه من قبل العودة فضلت تغيير الموضوع إلى غيره، وتأكدت من صدق كلام القرني، والطريف أنه بعد هذا الحديث بمدة بسيطة، التقى الدكتور سلمان العودة، بالأمير نايف بن عبد العزيز-رحمه الله- في مكتبه بالوزارة، وحدثنا لاحقًا ببعض ما جرى مع الأمير قائلًا: أتيته-يقصد الأمير- قبيل العصر، فصليت به العصر، ثم صليت به المغرب، ثم صليت به العشاء، ودارت بيننا أحاديثٌ ثقال، وكان الأمير يشك أنني منتم لجماعة الإخوان، وأن في عنقي بيعة لهم، ويقول: وكان هناك مصحفًا موضوعًا على مكتب الأمير، فأخذته وأقسمت عليه أيمانًا مغلظة، أني لم أنتمِ يومًا للجماعة.

هذا التقارب مكَّن العودة من الاستفادة من مقدرات وقدرات الإخوان الهائلة على مستوى العالم والتي تعادل أو تفوق قدرات بعض الدول، فانهالت عليه الاستشارات المتخصصة واللازمة لوضع الصورة الجديدة، والتي كانت خلاصتها أن يتحوَّل إلى شخص مشهور أكثر من كونه شيخًا، وأنه بحاجة إلى أن يصبح أكثر ليبرالية للوصول إلى جمهورٍ أوسع، وأن يطرق أبواب شخصية المفكر الحر، الذي لا ينتمي لفكر أو تيار، فأصبح خطاب العودة أقل طائفية بشكلٍ ملحوظ، وبدأ بالدعوة إلى فرض قيودٍ أقل على النساء، وأقل تشددًا في مسائل الغناء والأخذ من اللحية أو حلقها أو صبغها أو مسألة الإسبال وغيرها، وهي المسائل التي كانت تشكل مسائل ومفصلية في الفكر والخطاب الصحوي و تشكل لدى الشباب الصحوي وعند غيرهم من الشباب غير المتدين أو الملتزم مسائل كبار ومهمة كما في أدبيات الصحوة، ومع هذا التغيير الذي طرأ على آرائه، ازداد أتباعه ومتابعيه بشكلٍ لافت.

هذا الأمر بدأ يدق ناقوس الشك عند أتباع الأمس من الصحويين والمنقسمين إلى شقين، شق حركي تربوي، وآخر جهادي، حيث بدأت تظهر مقولات العودة عن ندمه على رده على الشيخ محمد الغزالي[10]، وأخرى عن تبرّمه الشديد من رد الشيخ مقبل الوادعي على الدكتور يوسف القرضاوي[11]، وثالثة يتمنى فيها لو أحرق الشماغ[12] بميدان عام، ورابعة عن أمنياته بتناول وجبة في مطعم مثل بقية خلق الله.. إلى غيرها من الآراء والأقوال التي تطلق لجسّ النبض، وقياس ردة فعل الصحويين والأتباع. ومن باب الاستطراد، فقد كان انتقاد العودة للشماغ، اللباس الأبرز والعلامة المميزة للسعوديين، مستمرًّا في مجالسه، وأذكر أنه زارته مجموعة من الشباب العماني الذين كان بعضهم يرتدي عمامة عمانية؛ وهي خفيفة ولطيفة وأنيقة، فاستمر أيامًا يذكر العمامة العمانية وظرافتها وملاحتها وخفتها، مقارنة بهذا الرداء المزعج “الشماغ”؛ وما لا يعلمه إلا قلة قليلة كانت معه في السجن ثم باحت بالسر لاحقًا، أن العودة كان يعادي الشماغ الأحمر تحديدًا؛ لأنه كان ملبوس الشخص المنسوب إلى آل سعود، والذي يُطلق عليه “سعودي”، والذي أصبح شعارًا عليه، والعودة كما هو معروف ضد كل ما هو سعودي.
وعلى العموم، بدأ الجهاديون بالضغط على سلمان العودة لانتزاع أي مساعدة أو دعم معنوي في الترويج للجهاد، وكان يعتذر مرة ويراوغ أخرى، ويتأبى ثالثة، ثم بدأت الطعنات من العودة في ظهور الجهاديين كما يعبرون، وحتى نتبين مدى الهوة السحيقة بين الطرفين أنقل لكم بعضًا من كلام بعض الجهاديين عن العلاقة مع العودة والموقف منه:
- يقول الهالك يوسف العييري مخاطبًا سلمان العودة: “فنحن نعلم يقينًا أن صحوتنا المباركة بصوتكم سُمع نداؤها، وبمجهودكم غيَّرت الواقع، وبفكركم وتوجيهكم اتزن نهجها، فلكم الفضل بعد الله فوق فضل غيركم من العلماء والدعاة في ما حققته هذه الصحوة، علمًا أنا ما تعلمنا المنهج إلا من فضيلتكم …”[13].

واخترت هذا المقطع بالذات من رسالة العييري، لبيان مدى التصاق الجهاديين بالصحويين، وأنهم كانوا على طريق واحد؛ لكن حسابات أخرى لدى العودة حرَّفت المعادلة.
- يقول محمد بن أحمد السالم، الذي كتب سيرة مختصرة ليوسف العييري[14]: “رجع بعد ذلك الشيخ يوسف العييري إلى جزيرة العرب وقابل العلماء المشهورين آنذاك؛ وبالتحديد قابل الشيخ سلمان العودة، وذكر له ما لدى الشيخ -المقصود ابن لادن- من أعمال ومشاريع، فقال الشيخ سلمان للشيخ يوسف: (شرف لي أن أكون أحد جنود أبي عبد الله -أي ابن لادن-) هكذا والله سمعتها من الشيخ يوسف مرتَين في موضعَين متفرقَين بينهما سنة ونصف”.
وتعليقي على ذلك، ومن خلال معرفة بسيطة بيوسف العييري، أنه وإن ضلّ السبيل، وتورَّط في دماء المسلمين؛ فإنه صادق اللسان، والكل يعرف عن الدكتور سلمان العودة، حيله وتحايله؛ فأجزم بصدق هذا النقل بنسبة كبيرة، وأرجح أن هذا الحديث كان قبل السجن الأول، بفترة بسيطة جدًّا.
- ويقول إبراهيم الربيش أحد الجهاديين السعوديين: “أخبرني الأمير أبو بصير -أحد أمراء الجهاديين السعوديين- أن الشيخ أسامة -أي ابن لادن- حدَّثه أنه أيام أزمة الخليج، وفي أثناء تواصله مع المشايخ ذهب إلى سلمان العودة وذكر له أنه ذهب إلى الشيخ ابن باز وابن عثيمين -رحمهما الله- فقال سلمان: دعك منهم، إذا جالسناهم قالوا الحق، وإذا ظهروا للناس قالوا الباطل”[15].
فانظر إلى مدى وحجم الإحباط، الذي وقع فيه الجهاديون وهم ينتظرون دعم العودة المتغيِّر بعد سجنه، والتفافه على الإخوان والقطريين.
- ويقول يوسف العييري موجهًا كلامه إلى الدكتور سلمان العودة: “إن منهجك الجديد هو حديث كل مجلس وبعبارة أدق: منهجك الإخواني، كما يحلو للشباب أن يختصروه بهذه العبارة”[16].
- وقال موجهًا خطابه إلى سلمان العودة وسفر الحوالي ما نصَّه: “نقول سبحان الله انقلبت المفاهيم، سفر بالأمس يؤلِّف كتبًا يبين فيها أن طواغيت العرب هم شر خطر على الأمة، وهم الذين بدَّلوا دين الله تعالى، وهم السبب في فساد الأمة وتغييبها وكبتها، سلمان له أشرطة نارية تحذر من هذه الحكومات الطاغوتية، الجميع يقر بأن أخطر شيء على الأمة تلبيس هذه الحكومات وتزييفها للدين، ولا نريد أن ننقل ما يثبت ذلك من كتبهم وأقوالهم؛ فكل مَن يعرفهم متأكد أن هذه آراؤهم السابقة. فنأتي اليوم ونرى صحوة الأمس تنقلب إلى غفلة، هم وهذه الحكومات في خندق واحد يستهدفون العدو المشترك، ألم تؤصلوا لنا سابقًا أن هذه الحكومات هي دمى بأيدي العدو؟ ألم تقولوا لنا سابقًا إن الاستعمار المباشر زال وفُرض علينا استعمار غير مباشر عن طريق هذه الحكومات العميلة؟ ألم تحشوا رؤوسنا من قبل بأن أخطر خطر على الأمة هو هذه الحكومات التي تنفذ إرادة العدو؟ ألم تقولوا لنا إن هذه الحكومات حرب على الإسلام؟ ألم تكفروا هذه الحكومات وتناقشوا الشيخ عبد العزيز بن بار، رحمه الله، بكفر هذه الحكومات في شريط مسجل؟ بالأمس ترفضون الاعتراف بشرعية هذه الحكومات؛ ومنها الحكومة السعودية، وتكفرونها، وما زالت كتبكم وأشرطتكم شاهدًا عليكم حتى الآن، ثم تأتون اليوم لتكونوا مع هذه الحكومات في خندق واحد، ألم تقولوا سابقًا إن الحكومات؛ خصوصًا وزارة الداخلية السعودية، لا يمكن أن تفسح المجال أبدًا لما فيه خير لهذا الدين، إلا النزر اليسير؛ لتخدع به هيئة كبار العلماء والشعب من ورائها؟ لا تنكروا وتكذبوا فنُنَقِّب في سجلاتكم ونخرج أقوالكم كلها التي تنكَّرتم لها الآن. عفوًا على هذه المكاشفة، أنتم الذين ألجأتمونا لها[17] ….”.
- ويقول الربيش في رسالته السابقة: “لست بناسٍ ذلك اليوم، وبالتحديد عام 1414هـ، وفي مزرعة من مزارع القصيم، كان سلمان هو الضيف على الغداء، جلس سلمان وكان بجواره الشيخ يحيى بن عبد العزيز اليحيى؛ كان حديث الساعة تلك الأيام هو تقاتل الأحزاب في أفغانستان، تكلم سلمان في ذلك وكان في ما قال: نريد أن نقنع الناس بإمكانية قيام دولة إسلامية، الآن الناس ماذا يقولون؟ الناس يقولون: أنتم الواحد لابد أن يقاتل، فإذا لم يجد عدوًّا يقاتله قاتل أخاه، فإذا لم يجد أخًا يقاتله وقف أمام المرآة وجلس يخاصم نفسه”[18].
- ويقول الربيش أيضًا: “رأيت سلمان وهو يتبرأ من المجاهدين في كثير من المواطن، رأيته يتكلَّم فيهم وقد كان بإمكانه أن يسكت بناء على قاعدته التي علمناها (لك الغنم وليس عليك الغرم)، رأيت سلمان يستغل الفرص ليطعن فيهم؛ بل ربما تكلَّم دون مناسبة، رأيت سلمان وهو يتتبع عثرات المجاهدين، ويتكلم في قادتهم، ويصدق فيهم بيانات وزارة الداخلية وقنوات البهتان، أو في أحسن الأحوال يحكم عليهم بناء على سماعه من طرف واحد، يتكلم فيهم وهم معرضون عنه تمام الإعراض[19]“.
بعد هذا كله، كان الجهاديون يتربصون أماكن تواجد العودة، لمناقشته أمام الملأ بغية إسقاطه في عيونهم، وأذكر أنه في إحدى المناسبات في مدينة الرياض والتي كانت على شرف الدكتور سلمان العودة، ولما بدأ بالتحدث، وقف له عبد العزيز الجربوع أحد متبني الفكر التكفيري والجهادي، وقاطعه عند كل جملة، حتى اضطر صاحب المناسبة لطرد الجربوع، ولم يكتفِ بذلك، بل وقف خارج المكان حتى خرج العودة واستمر في مجادلته، ولم يتوقف إلا مع ركوب العودة لسيارته مع مرافقيه ومغادرته المكان، وأكثر من ذلك كما حدثنا هو بنفسه، أنهم -أي الجهاديين- لم يتركوا عرسًا أو مناسبة يكون فيها، إلا وتواجدوا هم فيها، حتى أنهم همّوا في مرة من المرات بإيذائه جسديًا، لولا وصول دورية للشرطة بالمصادفة.
الأمر الذي لم يفهمه الجهاديون الجدد، أن العودة اتخذ أسلافهم سلمًا للمجد والشهرة، وحيازة أكبر مساحة ممكنة من بقعة الضوء، ولما حدث الأمر المراد، كان من أضراره الجانبية على السرورية، زرع بذور جهادية صغيرة في عقول غير ناضجة، أنتجت مع الأحداث، والتقلبات فكرًا موازيًا للصحوة، وبعد “تغير قواعد اللعبة” كما يقول العودة ذات حديثٍ فضائي، لم يعد الوضع مواتيًا كما كان للركض في مساحات الصحوة الفارغة فيما مضى، والتي ازدحمت بعده بكل فكر معيق له ولأفكاره غير الأصيلة.
يتبع…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
♦ باحث مختص بعلوم الشريعة وأصول الدين، ومهتم بتاريخ الصحوة الإسلامية، وقضايا الإسلام السياسي، وقضايا التطرف والإرهاب.
[1] من أشهر المشايخ والخطباء في مدينة بريدة في ذلك الوقت.
[3] أرجح أن المحاضرة ألقيت قبل فتح كابول في إبريل 1992، والمحاضرة تجدها على الرابط الآتي: https://bit.ly/2OPqeIk
[4] المقام سيطول بنا لو حاولنا الاستقصاء، فلا تكاد تمر أي محاضرة أو كلمة أو خطبة أو لقاء إلا ووضع مثل هذه الأفكار في أذهان الحاضرين.
[5] سبق الإشارة إلى رابط المحاضرة هامش 4
[7] ينظر: العلمانية، سفر الحوالي، ص680، ولو تتبعنا القول بتكفير المجتمعات والأفراد بالعلمانية في أدبيات الصحوة لوجدنا المئات من الأمثلة.
[9] يرى الكاتب أن مفهوم الصحوة أعم بكثير من حصرها في تيار واحد أو تنظيم.
[10] وهو رد على كتاب الشيخ محمد الغزالي “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث الغزالي”، وكان العنوان الذي أراده العودة هو: “سلمان العودة في حوار هادئ مع محمد الغزالي”، ولكن العنوان خرج تحت مسمى (في حوار هادئ مع محمد الغزالي) لخطأ فني في وضع اسم المؤلف، وكان يعتبر نفسه حينها موازيًا للغزالي أو متفوقًا عليه، ونشرت الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في السعودية الكتاب في عام 1409هـ.
[11] رد الشيخ مقبل بن هادي الوادعي كان في أشرطة صوتية، تحت عنوان: “إسكات الكلب العاوي يوسف بن عبد الله القرضاوي”، ثم خرج في كتاب لاحقًا.
[12] رداء أحمر اللون يضعه الرجل على رأسه، متداول في الخليج على وجه الخصوص، وغيرها من البلدان العربية.
[15] د. سلمان العودة خلال عشرين عاما، إبراهيم الربيش، ص 15
[18] مرجع سابق، ص 14
[19] مرجع سابق، ص 10