الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربية
سعيد ناشيد: الإسلام السياسي يُكِن للدولة الوطنية عداءً غريزياً
لا يدخل الإسلام الأيديولوجي على خط الثورات أو الانتفاضات إلا ويفسدها.. ثم يحولها إلى مجرد فتنة تحرق اليابس والأخضر

كيوبوست
حاورته: فاطمة بدري
دأبتِ التيارات الإسلامية المحافظة منذ القدم على استهداف الفلاسفة والمفكرين الذين يدعون إلى التفكير والقطع مع السائد، وإخضاع كل شيء للنقد والتشريح؛ بما في ذلك النص القرآني.
سِجل حافل بالانتهاكات طال هؤلاء في حقبات تاريخية مختلفة، وتراوح بين القتل والتهجير والتخوين.. وغيرها، وأسفر تدريجياً عن تغييب الفلسفة كلياً عن المجتمعات العربية لقرون طويلة. عادت الفلسفة منذ بضعة عقود إلى الحاضنة العربية، محاولة أن تجد لنفسها موطئ قدم راسخاً هذه المرة؛ لكن وجودها ظل يؤِّرق التيارات السياسية التي تستخدم الدين كورقة لتنويم الشعوب للتفرد بالحكم والنفوذ على غرار جماعات الإسلام السياسي التي اتخذت شكلاً جديداً في ضرب الفلاسفة والمفكرين الذين يهددون وجودها الواهن.
وتشكل قضية المفكر المغربي سعيد ناشيد، نموذجاً حياً يترجم هذا الواقع؛ فالباحث الجريء الثائر على إسلام النص والعقل المتحجر، والمتطلع لتأسيس شعوب بخلفياتٍ نقدية فلسفية، والساعي بجد لبناء فضاء فكري وثقافي يكرس الحداثة العلمية والسياسية، ويتبنى فعلياً أطروحات كفيلة بالإصلاح الديني، قد أقضَّ مضاجع الإسلاميين المسيطرين على دواليب الحكم في المغرب، وأثار خوفهم من أن تجد أفكاره طريقها داخل مجتمعٍ لا يريدون له أن يفكر فيكشف خداعهم فيركلهم.
اقرأ أيضًا: يوسف الصديق: لم نستطع رفع النص القرآني إلى مجال الفكر والفلسفة
ولهذا كان آخر فصول استهدافهم له منعه من مزاولة عمله؛ ولكنهم فوجئوا حتماً بأن فكره الذي حملته كتبه ومنشوراته ومقالاته قد ضمن له الدعم الشعبي اللازم داخل البلاد وخارجها، وساعده على خوض حربه معهم بثقة أكبر.
تحدثنا مع ناشيد؛ صاحب المؤلفات الجدلية المهمة على غرار «الحداثة والقرآن»، و«قلق في العقيدة»، و«دليل التدين العاقل»، و«التداوي بالفلسفة»، و«الطمأنينة الفلسفية»، فكان هذا الحوار…
على ضوء النداء الذي نشرته على صفحتك وعنونته بـ”نعم، أصبحت أتسول الآن”، ما الأسباب الحقيقية لعزلكَ من العمل؟ وما الأطراف الضالعة في التضييق الذي سُلِّط عليك؟
– “أصبحتُ أتسول”، هكذا قُلت في التدوينة الشهيرة التي كتبتها بعد قرار الحكومة المغربية طردي من الوظيفة العمومية في سياقٍ فاجأ الجميع؛ صدم البعض، وأثار استنكار الكثيرين، قُلتُ “أصبحتُ أتسول”، قلتها بالمعنى الرمزي؛ لكنه المعنى الأدق تعبيراً من بين كل المعاني المادية، وقد قصدتُ بالأولى ما يلي: إذا كانت غايتكم أن أتسول لأجل إذلالي، وإذلال الفكر الذي أمثله، فها أنا أتسول أخيراً، لكن بلا إذلال؛ لأن الذي أتسوله -كما قُلت- هو التضامن، وفي النهاية كان حجم التضامن كبيراً، وهو ما لم يتوقعه كثيرون؛ فسرعان ما أصبحت القضية قضية رأي عام وطني ودولي، غير أن الخبث بلغ مداه حين اتهمتني بعض الأبواق بأني أسأت إلى سمعة المغرب، ويعلم الله والأهل والأصحاب مقدار الصبر الذي تحملته لسنوات لكي لا أصرخ. قُلت أيضاً إني أتسول مكاناً لا يتحكم فيه الظلاميون في الأرزاق، والمكان هنا بكل المعاني الممكنة، بيد أني أنتظر الإنصاف في موطني.

الملف الآن بين أيادي القضاء الإداري بالرباط، وثمة فريق من المحامين المغاربة المعروفين والمشهود لهم بالكفاءة. كما أثق في العدالة؛ لأن حجم الشطط كبير والخروقات كبيرة، واختصاراً أقول: أولاً، لم أتلقَّ أي استفسار في سياق البناء للعقوبة على الإطلاق. ثانياً، لأول مرة منذ استقلال المغرب تختار الوزارة رفع العقوبة التي اقترحها المجلس التأديبي دون العودة إليه. ثالثاً، لأول مرة منذ استقلال المغرب تقوم الحكومة والوزارة بالتشهير بموظف بسيط أمام الرأي العام، وباعتماد معطيات شخصية بعضها مجرد افتراء منحط، علماً بأن التشهير بالمعطيات الشخصية في كل أحواله خرق للقانون، وانتهاك للأخلاق. رابعاً، كنت قد راسلت الوزير طالباً منه التحقيق في الجلسة التي استدعاني إليها المدير الإقليمي بمكتبه لأجد رفقته أحد أبرز المسؤولين المحليين لحزب العدالة والتنمية حيث أهانني وهددني أمامه؛ لكن الوزير فضَّل الصمت، ومن هنا انطلق المخطط الذي أفضى إلى عزلي بصفةٍ نهائية عن الوظيفة العمومية.
هل تعتبر أن فكركَ التنويري الفلسفي القاطع مع السائد والمحفز على التفكير جعلك في مرمى الاستهداف؟
– الدعوة إلى التفكير، وإعمال العقل، والحس النقدي، تمثل على الدوام خطراً على كل الأيديولوجيات القائمة على منطق الطاعة والولاء والتسليم؛ لأن تلك الأيديولوجيات تقول لك: لا تفكر، فلدينا الأجوبة الجاهزة عن كل أسئلتك. وكلما كان التحالف السياسي بين السلطة والقوى المحافظة متيناً، كانت ظروف إعمال العقل عصيبة، ولا تخفى تجارب دول العالم الإسلامي في هذا النمط من التحالف بين سلطة الكاهن وسلطة الطاغية.
بالمناسبة، سأكتشف أيضاً كيف أن تأليب أنصاف المتعلمين على أنصار العقل أسهل من تأليب العوام؛ لأنها فرصة أولئك للتغطية على الفشل. كما لا ننسى أن غرائز غير المتعلمين أفضل حالاً من غرائز أنصاف المتعلمين، والذين فقدوا الحكمة الطبيعية دون أن يرتقوا ثقافياً إلى مستوى الحكمة الإنسانية. وهذا مما أدركه جان جاك روسو، وشرحه بالتحليل. “في المعرفة كما في الحب، أسوأ مرتبة هي منتصف الطريق”.

في تاريخ المغرب، كانت فترة حكومة التناوب هي الفترة الوحيدة التي ابتعدت فيها السلطة عن التحالف مع القوى المحافظة، رغم حجم التشويش والتشويه، من الأقربين والأبعدين على حد سواء؛ لكننا بعد ذلك سندخل في مرحلة ردّة سرعان ما استفحلت في سياق الحاجة الأمنية إلى تفادي زلزال ما كان يُسمى بالربيع العربي. وتلك حكاية أخرى. محنتي هي محنة العقل في آخر الأمر.
إن أحقر ما قد تفعله السلطة هو تأليب الرأي العام ضد أهل العقل. لا شك أن كلفة ذلك التواطؤ باهظة الثمن على المجتمع والدولة سواء؛ لكن هناك مَن لا يفهم خطورة تلك اللعبة القذرة إلا بعد فوات الأوان. في تاريخ الإسلام كانت السلطة حين تؤلب العوام على كاتب عقلاني فمعناه نهاية حياة ذلك الكاتب بنحوٍ ذليل ومهين في الغالب. بالنسبة لي لربما يختلف الأمر، أشعر بذلك، بفضل حجم التضامن الوطني والدولي الذي حظيت به، وبفضل دروس الرواقية والأبيقورية أيضاً، حافظت على سلامة وجداني، والآن، أنا جاهز لبدء حياة جديدة، وأفق أرحب لغاية استئناف المشروع الذي نذرتُ نفسي له: الفلسفة العملية والإصلاح الديني؛ وهو أحوج ما تحتاج إليه شعوبنا اليوم.
في كل ما كتبته سابقاً أنا مدين للألم والمرض وقساوة القلوب التي تدَّعي الزهد والإيمان؛ لكن في كلِّ ما سأكتبه مستقبلاً فأنا مدين لكل مَن تضامن معي، بكلمة، بمبادرة، أو بمعطيات كاشفة.
اقرأ أيضًا: إلى من يهمه الأمر.. دراسة الفلسفة ليست ترفاً!
أنتقدُ الجميع، تقريباً الجميع، هذا دوري، أنتقد الجلاد والضحية، المحتل والمقاومة، الحكام والمحكومين، الغالبين والمغلوبين، النخبة والجمهور، تجار الدين وتجار التنوير، لقد انتقدت مناهج تدريس الدين كما انتقدت مناهج تدريس الفلسفة والرياضيات أيضاً، انتقدت ظلامية سادة العالم كما انتقدت ظلامية العبيد أيضاً، انتقدت، انتقدت الإفلات من النقد. وبوسعي أن أقدم نفسي على النحو التالي:
أنتمي إلى المدرسة النقدية المغربية، في عناوينها الرئيسية الثلاثة: “النقد الذاتي” لعلال الفاسي، “نقد العقل العربي” للجابري، و”النقد المزدوج” للخطيبي، وذلك في انتظار ما أسميه بالنقد الجذري؛ أي النقد الذي يطول الغرائز والكينونة، واللا وعي الجمعي، النقد الذي يطول خطاب الجلاد وخطاب الضحية أيضاً، النقد الذي يطول خطاب السادة، وخطاب العبيد أيضاً، النقد الذي يطول خطاب الطغاة وخطاب الثوار أيضاً، وذلك باعتماد العناوين والأبعاد نفسها: الذات، التراث، والعالم المعاصر.

لماذا تحارب التياراتُ والأحزاب الإسلامية الفلسفةَ منذ القدم إلى اليوم؟
كل أنماط التفكير الشمولي الإطلاقي تحمل عداء غريزياً للفلسفة، لماذا؟ لأن الفلسفة تسهم في تنمية الحس النقدي لدى المواطنين كافة، أو هكذا يفترض؛ لا سيما حين يتم تدريسها وتعليمها كما ينبغي، باعتبارها تمارين في الحكمة والمواطنة الحكيمة، سواء للأطفال، لليافعين، أو لعموم المواطنين.
الفلسفة تزعج الوثوقيات واليقينيات بلا شك؛ لأنها تحرر الناس من الخوف والكراهية والذنب والأسى والتذمر، وسائر عوامل الشقاء التي يستثمرها تحالف الكهنوت والجهلوت؛ لذلك وبتواطؤ بين السلطة والكهنوت وغرائز القطيع، تم إعدام سقراط، وسينيكا، وبوثيئوس، وتم إحراق كتب ابن رشد، واضطهاد فولتير.
لماذا اغتيل العقل في الإسلام وتوقفت الفلسفة عربياً وإسلامياً لقرون منذ هزيمة المعتزلة في الوقت الذي تألقت فيه الفلسفة غربياً؟
– اغتيل العقل بعد أن تلقى طعنات متلاحقة من طرف أعوان السلطة، وفقهاء العوام، ولم تتح له فرصة أن يستجمع أنفاسه، اغتيل العقل لأن بقاءه لم يكن في مصلحة الذين لا يجدون عملاً آخر غير العيش على حساب وصايتهم على الأرواح الخائفة الآثمة الذليلة، والتي تم إقناعها بأن طريق النجاة، أو الخلاص، يقتضي التخلي عن العقل والإرادة، وتفويض الأمر كله لمَن يفكرون للناس بدل الناس، يريدون للناس بدل الناس، يقررون للناس بدل الناس، ويقودون الناس في كل أمور الدين والدنيا، وفي كل تفاصيل الحياة اليومية.
اقرأ أيضًا: الله والإنسان والطبيعة.. بين العقل العربي والعقل الغربي
هل يمكن تفسير الأزمات العربية الإسلامية بهزيمة الفلسفة؟
– قبيل وفاته عام 1198، كان الفيلسوف ابن رشد قد طُرد بشكلٍ مهين من مجلس السلطان “أبو يوسف يعقوب الموحدي” الذي استُدرج إليه، وكان قد استجاب وَفق ما تقتضيه الآداب العامة، غير أن استدراجه في النقاش قد عرضه إلى شتائم الفقهاء الذين تكالبوا عليه، وسارعوا إلى اتهامه بالكفر والزندقة، وأكثروا في استعمال الأوصاف الساقطة أمام أنظار السلطان وعلى مسامعه؛ لكن بدل أن ينصفه السلطان ويوقف المهزلة، تماهى مع المتحاملين، وأمر بطرد ابن رشد من المجلس وإبعاده عن الأندلس.
هكذا اضطر فيلسوف قرطبة إلى مغادرة مجلس السلطان مهاناً أمام أعين الشامتين من الفقهاء والمتملقين. بعد ذلك سيأمر السلطان بكتابة وتوزيع منشور يؤلب الناس على ابن رشد، فأحرقوا مؤلفاته، واعتدوا على تلاميذه. لم يقف الأمر عند ذلك الحد؛ بل سيأمر السلطان بتأليف عشرات الكتب في مختلف مناطق البلاد تلزم الناس بترك الفلسفة والمنطق ومختلف العلوم، ما عدا المعارف الحسابية والفلكية التي تساعد في معرفة أوقات الليل والنهار، ومواقيت الصلاة، وتقسيم الإرث، ونسبة الزكاة، واتجاه القبلة لأداء شعيرة الصلاة. بعد سنوات قليلة عن وفاة الفيلسوف الكبير ابن رشد، وتسلط الفكر الفقهي التقليدي، اندحر المسلمون في معركة العقاب، وكانت بداية “السقوط” مروراً بقرطبة، ثم غرناطة.
بعد ذلك ستتوالى على المغرب الأقصى الهزائم، والمجاعات، والجائحات، وسيطرة الزوايا الطرقية، و”قياد” المخزن التقليدي (النظام الملكي في المغرب) وبين الفينة والأخرى كانت القبائل تهيج على بعضها البعض في ما يُسمى بـ”السيبة”، إلى أن جاء الاستعمار بداية في القرن العشرين لكي يمثل الفصل الأخير من الاندحار الحضاري.

لماذا فشلت مشروعات التحديث عربياً في الفصل بين الدين والسياسة؟
– فشلت مشروعات التحديث؛ لأن الفصل بين الدين والسياسة يجب أن يكون جزءاً من مشروع أكبر، هو الإصلاح الديني؛ هذا الأخير هو الغائب الأكبر منذ أول المشروعات النهضوية إلى اليوم. جوهر الإصلاح الديني هو تغيير الخطاب الديني في مستوى الجهاز المفاهيمي، ونسق القيم، والأساليب التعبيرية، وبما يتلاءم مع الغايات الأساسية للعيش والعيش المشترك: السعادة والسلام.
معضلة الخطاب الديني السائد والشائع في مجتمعاتنا وأوطاننا أنه لا يشل فقط القدرة على التفكير؛ بل يضعف القدرة على النمو والتنمية والإبداع والحياة، طالما ينتصر لمنطق الموت على حساب الحياة، ينتصر لأهواء الحزن على حساب الفرح، ينتصر للكراهية على حساب المحبة، ويربط الأرزاق بالغيب بدل ربطها بمقدار الجهد المبذول، وبذلك النحو يهض ممكنات الأمن والتنمية.
لا يمكن إقرار فصل بين الديني والدنيوي بمجرد قوانين قد لا يكون لها أي وقع على العقليات، وقد لا يكون لها من معنى إذا لم تتطور العقليات؛ لأن الخطاب الديني نفسه يجب أن يكون قادراً على فك الاشتباك مع الحقل السياسي، حتى لا يشعر المؤمن بالانفصام بين حياة مدنية حديثة ومتخيل ديني يحيل إلى العصر الوسيط.
اقرأ أيضًا: 90 عاماً.. السعودية ملحمة التأسيس ورؤية 2030 المستقبلية
تجربة السعودية اليوم تؤكد أن نقطة الانطلاق ليست الفصل الذي لن يكون له من معنى وسط مجتمع يهيمن عليه المتشددون؛ بل نقطة الانطلاق هي توجه الدولة والمجتمع رسمياً نحو إصلاح الخطاب الديني، من حيث مرجعياته، دون أن ننسى مستوى المفاهيم والقيم.
قُلتَ إن الإسلام السياسي هو نوع من الخرافة الأيديولوجية للوصول إلى السلطة وامتلاكها، لو تشرح لنا ذلك؟
– الإسلام السياسي بكل ألوانه هو الثمرة المعاصرة لتاريخ الاستعمال الأيديولوجي للإسلام؛ بمعنى استعمال الإسلام لغاية الوصول إلى السلطة، أو المحافظة عليها. إن ما يُسمى بالاستعمال الثوري للإسلام، وهو القصة التي بدأها علي شريعتي في إيران قبل الثورة، لا يخرج بدوره عن إطار التوظيف الأيديولوجي للإسلام. مثل هذا التوظيف يدمر الإسلام باعتباره إرثاً روحياً للشعوب.
مجال السياسة هو مجال النسبي، مجال المحاولة والخطأ، مجال الاستدلال بفرضياتٍ قابلة أصلاً للتكذيب، مجال السياسة هو مجال التشكيك والتفنيد والتكذيب؛ وهذا ما لا تتحمله العقيدة، ولذلك لا يجب تحميلها ما لا تتحمل.
اقرأ أيضًا: الفلسفة.. مسيرة العقل البشري
وهل الاستعمال الأيديولوجي للدين كان أرضية ملائمة لولادة التطرف والإرهاب عربياً؟
– هذا هو… لقد انتهى التوظيف الأيديولوجي للإسلام إلى نوع من الزواج بين ثلاثة تشكيلات أيديولوجية أساسية: الأيديولوجية القطبية المتمثلة في الإخوان المسلمين، والأيديولوجية الوهابية المتمثلة في صقور المذهب الوهابي، والأيديولوجية الخمينية المتمثلة في الحرس الثوري الإيراني.
باختصار، أسهمت الأيديولوجية القطبية بمفاهيم الجاهلية، والحاكمية، وغيرها، وأسهمت الأيديولوجية الوهابية بمفاهيم الولاء والبراء، وغيرها، وأسهمت الأيديولوجية الخمينية بمفاهيم الاستكبار، والاستكبار العالمي، وغيرها.
لقد أدى ذلك الزواج المفاهيمي إلى ظهور ثورة الجهيمان في الحرم المكي عام 1979، ثم الحركة السرورية في الخليج، ووصولاً إلى تنظيمات القاعدة وداعش، ضمن ما بات يُعرف بالإرهاب العالمي.

على ذكر الإسلام السياسي، كيف تقيِّم صعود هذا التيار للحكم واستمراره لسنوات رغم حصيلة الإنجازات المتواضعة في بلدان مثل المغرب وتونس؟
– هناك عوامل مركبة يمكن إيجازها في ثلاثة عوامل أساسية: أولاً، يتمتع الإسلام السياسي بقاعدة انتخابية قد لا تكون واسعة بما يكفي؛ لكنها مستقرة بما يكفي، وذات طابع عقائدي؛ بحيث لا تتأثر بحسابات المردودية السياسية، كما تقتضي روح التجربة الانتخابية، بل تعمل على منهاج السمع والطاعة في السراء والضراء والمنشط والمكره، وما إلى ذلك من معايير وتعابير لا تمت إلى المصلحة العامة بأية صلة. ثانياً، الدعم الذي يحظى به الإسلام السياسي من طرف بعض القوى الإقليمية والدولية لحسابات تتعلق إما بإملاءات المؤسسات المالية الدولية، وإما الحاجة إلى ترويض الشعوب المسلمة باسم الدين. ثالثاً، ضعف وتشتت القوى التقدمية كافة، واستنزاف طاقتها المحدودة أصلاً في معارك تثير الضجيج ولا تبني الأوطان.
ومع ظهور الإسلام السياسي؛ خصوصاً في دول الربيع العربي، ظهر ما يُسمى بالولاءات الدينية العابرة للأوطان بقوة، كيف تفسر هذه الظاهرة وهذا الارتباط بهذه الجماعة؟
– ليس يخفى أن الإسلام السياسي يُكِن للدولة الوطنية عداءً غريزياً؛ وهو عداء انفعالي وأبعد ما يكون عن المشروعية الثورية التي تحتاج في النهاية إلى قدر معتبر من العقلانية، وهذا ما تخبرنا به مدرسة لينين. مشكلة الإسلام السياسي مع الدولة الوطنية أنه يعتبرها عائقاً أمام وهم عودة الخلافة، وهو وهم عظيم ومدمر؛ عظيم لأنه ينقلب على الوضع الجيوستراتيجي للعالم الإسلامي بأسره، ومدمر لأنه يدمر مؤسسات الدولة الوطنية التي هي هشة بالأساس، وبسبب غلبة الفكر التقليدي من جهة، والعولمة الرأسمالية من جهة ثانية.
لذلك، حاول الإسلام السياسي أن يقلب معادلة الدولة الوطنية من كونها سليلة الحركة الوطنية ضد الاستعمار، إلى كونها صنيعة الاستعمار نفسه، وبعد ذلك حاول أن يختزلها في مصطلح الطاغوت، والذي هو مفهوم “فرعوني” بالغ الخطورة؛ بل إنه في حجم قنبلة ذرية تُزرع في عقول الملايين، ولا تنتظر سوى ساعة الصفر.
اقرأ أيضًا: مصر وتونس والمغرب وليبيا.. كيف خيَّب “الإسلام السياسي” الطموح الأمريكي؟
قُلتَ سابقاً إن الإسلام السياسي يوشك على السقوط، ما المعطيات التي انطلقت منها للوصول إلى هذه الخلاصة؟
– لقد وصل الإسلام السياسي إلى الباب المسدود، مثلما كان متوقعاً بالتمام، وذلك بعد أن طبق تعاليم البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي بحذافيرها، طالما لم يكن يملك من برنامج تنموي أو اقتصادي غير الشعارات الرنانة، كان يستعمل عبارة “الإسلام هو الحل”؛ باعتبارها وصفة سحرية تحجب غياب الحل؛ لكن الإسلام السياسي للأسباب ذاتها قد تسبب في تدهور الاقتصاد، وانهيار الطبقة الوسطى، فضلاً عن استغلال الإدارة لتصفية الكفاءات، مثلما حدث في مصر إبان حكم مرسي، وفي تونس إبان حكم الترويكا، وهو ما يحدث الآن في تركيا تحت حكم أردوغان، وفي المغرب تحت حكم حزب العدالة والتنمية.

سواء انتهى الإسلام السياسي إلى الاستبداد أو إلى الفتنة؛ فمعناه في كل الأحوال أن الأفق أمامه مسدود، يستطيع أن يحرك الملايين بالفعل، غير أنه يعيدها في النهاية إلى سقف العالم القديم، عالم العشائر والطوائف والغزوات والفتن.
وكيف سيكون سقوط الإسلاميين؟ وأي أثر سيكون لهم على المديين القريب والبعيد؟
– السقوط معلوم والكيف مجهول؛ لكنه قد لا يخلو من طابع دراماتيكي في بعض الأحيان، وذلك بسبب طغيان الانفعالات السلبية على معظم أنصار الإسلام السياسي؛ يكفي أن تشتم أمريكا أو إسرائيل أو الحكام، أو تتوعد بسقوطهم العاجل حتى تبدو بطلاً مغواراً لا يُشق لك غبار؛ لكنك ما أن تتجرأ على نقد سلوك الضحية، طالما سلوك الضحية قد يكون حاسماً في إعادة إنتاج شروط الهزيمة، وقد تعيد الضحية إنتاج آليات الجلاد بنحو أسوأ، ما أن تقوم بدورك في ذلك النمط من “النقد الذاتي” الذي هو أعز ما يطلب، حتى تصبح خائناً وينصبون لك المشانق الرمزية والافتراضية. شعوبنا بسبب الهزيمة والفشل والعجز يغلب عليها الطابع الانفعالي الأعمى الذي يشتعل فجأة وينطفئ فجأة؛ لكنه في لحظة اشتعاله قد يحرق اليابس والأخضر.
سقوط الإسلام السياسي هو سقوط أخلاقي أولاً، وهو حاصل منذ الآن؛ لأن الأمر يتعلق بتيارٍ أقام أسسه على وعودٍ لا أخلاقية: إن أخطر معادلة في أيديولوجية الإسلام السياسي أنه جعل من انهيار الغرب شرطاً ضرورياً لنهضة الإسلام والمسلمين، وبذلك النحو وضع انهيار الغرب ضمن أفق انتظار أجيال من المسلمين بالدعاية لأرقام كاذبة ودراسات وهمية حول المادية والإلحاد والإباحية والانتحار والعقم والطلاق، وما إلى ذلك من استيهامات عصابية.
اقرأ أيضاً: هل يحتاج الناس إلى الدين والفلسفة؟
سقوط الإسلام السياسي سيكون فرصة لكي يتصالح المسلم مع الحالة الطبيعية للإنسان؛ حيث ستنتعش في الحقل الديني أنواع أخرى من الإسلام أكثر إنسانية، من قبيل الإسلام القرآني، الإسلام الصوفي، الإسلام الإصلاحي، فضلاً عن أنماط التدين الفرداني والروحاني والإنساني، أو هذا هو المأمول.
لماذا لا يخوض الإسلام السياسي معارك من أجل القضايا الإنسانية؛ كالحريات الفردية، وحقوق المرأة، وحرية التعبير.. وغيرها؟
– لأنه غير معني بالحريات الفردية، وحقوق الأقليات، والمرأة؛ بل يعتبر ذلك كله مجرد انحلال وتفسخ ومؤامرة على الإسلام والمسلمين، بل هو فوق ذلك كله واقع في خصومةٍ جذرية مع الطبيعة البشرية؛ حيث يظن أن العين تزني، والأذن تزني، وماء الرجل والمرأة مجرد نجاسة، والدم نجس، وجسد غير المسلمين نجس، والنفس أمارة بالسوء، والعقل ضال ومضلل، والنساء حبائل الشيطان، وحطب النار، وبعد ذلك كله فهو يراهن على غرائز القطيع، وذلك بدعوى لزوم الطاعة والجماعة، وما إلى ذلك من تعاليم تعيق الانتقال الحداثي.
منذ الثورة الإيرانية المغدورة (1979)، إلى ثورات ما كان يُسمى بالربيع العربي (2011)، القصة نفسها تتكرر: لا يدخل الإسلام الأيديولوجي على خط الثورات أو الانتفاضات، إلا ويفسدها، ثم يحولها إلى مجرد فتنة تحرق اليابس والأخضر (الحالة السورية نموذجاً)، أو استبداد ديني (الحالة الإيرانية نموذجاً)، أو يجهضها من الداخل (حالة 20 فبراير في المغرب نموذجاً).
في الصراع السياسي، لا تكفي القدرة على التحريض والتجييش؛ لو كان ذلك كافياً لكنّا أعظم الشعوب على وجه الأرض. لكن، هيهات ثم هيهات.