الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات
رمضان بين طه حسين والعقاد

كيوبوست- إيهاب الملاح
من يدرس تاريخ الأدب العربي والثقافة العربية في القرن العشرين؛ وخاصة في النصف الأول منه، ستجابهه ظاهرة تأليفية بارزة تتعلق بشهر رمضان، تكاد تكون قاسما مشتركا بين كبار الكتاب والأدباء المصريين والعرب على السواء وقتذاك.
تتمثل الظاهرة في إفراد افتتاحيات المجلات الثقافية الشهيرة لحديثٍ مفصل عن رمضان، ليس من الوجهة الدينية والشعائرية والطقوسية، إنما من الوجهة الثقافية والمعرفية والفولكلورية، وكان يحرر هذه المواد أكبر وأشهر الأعلام من الأدباء والشعراء والنقاد، الذين كانوا يعتبرون رمضان مناسبة مواتية للتخفُّف من أثقال الكتابة السياسية، والارتباطات الكتابية الدورية الأخرى.
يأتي هذا الشهر المختلف، من العام إلى العام، كي يجدِّد الكتابُ نشاطهم، ويعيدوا شحذ طاقتهم الروحية والنفسية، ويستعيدوا بكثيرٍ من المتعة العقلية ألواناً من الذكريات والتأملات الفكرية والدينية والثقافية عن رمضان، وحوله أيضًا.
ولا يكاد يوجد كاتب كبير أو أديب مشهور آنذاك لم يسجل بعضاً من ذكرياته أو تأملاته عن الشهر الكريم في دوريات تلك الفترة، مثل «السياسة الأسبوعية» لهيكل، و«الرسالة» للزيات و«الثقافة» لأحمد أمين، و«الكاتب المصري» لطه حسين، و«الكتاب» لعادل الغضبان، وغيرها، فضلا عن جمعها بعد ذلك في كتبٍ مستقلة، ولا يوجد أشهر من طه حسين والعقاد في تلك الفترة لتتبع بعض تجليات هذه الظاهرة والتمثيل لها من نصوص وكتابات الرائدين النهضويين.
رمضان في مرآة «الأيام»
لم يحز كتاب في تاريخ السيرة الذاتية العربية الحديثة ما حازه كتاب الأيام (وخاصة الجزء الأول) من شهرة وذيوع منذ صدوره للمرة الأولى في عام 1927 عقب أزمة كتابه «في الشعر الجاهلي» (عام 1926) وما تعرض له من إيذاء وتحريض جراء صدوره.

يمثل «الأيام» قيمة خاصة جدا في إنتاج طه حسين، ففضلًا عن تأسيسيته ككتاب في السيرة الذاتية (أو كما صنفه النقاد ومؤرخو الأدب رواية سيرة ذاتية) اعتبره الفولكلوريون والأنثروبولوجيون وثيقة نادرة ومنجماً حقيقياً لطلاب الاجتماع والمأثورات الشفاهية والإنسانيات عموماً. من بين عشرات من كتب السيرة الذاتية والمذكرات لم يصف أحد المفردات الثقافية والعلامات الفولكلورية المصاحبة للشهر الكريم مثلما اقتنصها طه حسين في أيامه، وفي غيره من كتبه ومؤلفاته الأخرى، خاصة المتأخرة منها.
وسنعرض مثالاً من «الأيام» يصف فيه طه حسين وصفاً دقيقاً بعض مظاهر الاحتفال بالشهر الكريم، ووقعه على الناس في القرية التي كان يعيش فيها، وهو صبي صغير. فقد كتب عن حلول الشهر الكريم، من منظور الطفل الصغير الفقير فاقد البصر في قريته الصغيرة بالصعيد، ومظاهر السلوك والتغيير في العادات التي تطرأ على الأسرة في رمضان، ووصف ملتقيات قراءة القرآن في بيوت الموسرين إذا حلَّ الشهر الكريم، وقد كان ذلك مألوفاً في الأرياف والصعيد؛ يقول طه حسين:
“ولكن رمضان أقبل، وكان الناس يجتمعون في ليالي رمضان عند رجل من أهل المدينة وجيهٍ يعمل في التجارة، وكان سيِّدنا يقرأ القرآن عند هذا الرجل طوال الشهر، وكان الصبي يرافق سيِّدنا ويريحه من حين إلى حين بقراءة سورة أو جزءٍ مكانه، فقرأ ذات ليلة وسمعه هذا المفتش، فقال لأبيه: إن ابنك لشديد الحاجة إلى تجويد القرآن. قال الشيخ: سَيُجَوِّدُه متى ذهب إلى القاهرة على شيخ من شيوخ الأزهر. قال المفتش: فأنا أستطيع أن أجود له القرآن على قراءة حفصٍ، حتى إذا ذهب إلى الأزهر كان قد ألمَّ بأصول التجويد، وسهل عليه أن يفرغ للقراءات السبع أو العشْر أو الأربع عشْرة. قال الشيخ: وهل أنت من حملة القرآن؟ قال المفتش: ومن المُجَوِّدين، ولولا أني مشغول لاستطعت أن أقرئ ابنك القرآن على الروايات جميعًا، ولكني أحب أن أخصص له ساعة في كل يوم فأقرئه رواية حفص، وأدرِّس له أصول الفن، وأعُدَّه بذلك للأزهر إعدادًا صحيحًا. قال القوم: وكيف لمطربشٍ يتكلم الفرنسية بحفظ القرآن ورواية القراءات؟ قال المفتش: أنا أزهريُّ تقدَّمت في دراسة العلوم الدينية إلى مدًى بعيدٍ، ثم انصرفت عنها إلى المدارس، فتخرَّجت في مدرسة الفنون والصنائع. قالوا: فاقرأ لنا شيئًا! فنزع الرجل نعليه وتربَّع ورتَّل لهم سورة “هود” ترتيلًا ما سمعوا مثله، فلا تسل عن إعجابهم به وإكبارهم إيَّاه، ولا تسل عمَّا أصاب سيِّدنا من الحزن والغيظ؛ فقد قضى الرجل ليلته كأنه مصعوق. (الأيام؛ ج1، ص 77، 78)
وفي موضع آخر من الأيام؛ يرِد هذا النص الذي استوقف قراء «الأيام» كثيراً يدرسون من خلاله أثر فقدان البصر على السلوك الاجتماعي في مراحل العمر المختلفة، وقد عُرف عن طه حسين أنه لا يأكل أبداً على مائدة دعي إليها أو يتناول الطعام وسط حضور حافل، ويكتفي فقط بشرب الماء ثم يستأذن في الصعود إلى غرفته هو وزوجه سوزان كي يتناول طعامه، ثم يعاود النزول ومتابعة الحفل مع الحضور بعد ذلك. يكتب طه حسين:
“فهم صاحبنا هذه الأطوار من حياة أبي العلاء حق الفهم؛ لأنه رأى نفسه فيها، فكم كان يتمنى طفلًا لو استطاع أن يخلو إلى طعامه، ولكنه لم يكن يجرؤ على أن يُعلِن إلى أهله هذه الرغبة. على أنه خلا إلى بعض الطعام أحيانًا كثيرة، ذلك في شهر رمضان وفي أيام المواسم الحافلة، حين كان أهله يتَّخذون ألواناً من الطعام حلوةً، ولكنها تؤكل بالملاعق؛ فكان يأبى أن يصيب منها على المائدة، وكانت أمُّه تكرَه له هذا الحِرْمَان، فكانت تُفرد له طبقًا خاصاً وتخلي بينه وبينه في حجرة خاصة، يُغلقها هو من دونه حتى لا يستطيع أحدٌ أن يُشرف عليه وهو يأكل”.

رمضان “فلسفيا” في كتب العقاد
أما الكاتب الشهير عباس محمود العقاد (1889-1964) فكان ملء السمع والبصر معظم حياته؛ يحظى بشهرة ونجومية عارمة، وله أتباع ومريدون، وكان على رأس ثلاث دوائر معروفة في النصف الأول من القرن العشرين، تمثل ما نطلق عليه الآن الكاتب الجماهيري أو الكاتب الأكثر مبيعا فقد كان فعلا من نجوم الكتابة والتأليف في مصر والعالمين العربي والإسلامي، وكان الإعلان عن صدور كتاب جديد للعقاد كفيلًا بضمان نفاد نسخه كاملة قبل طرحها لدى باعة الكتب والمكتبات.
من المفارقات اللافتة في سيرته الذاتية، ارتباط إنتاجه وصدور أشهر كتبه وأذيعها بشهر رمضان، خصوصًا بعد أن رسخ اسمه كواحد من كبار الكتاب المشاهير في مصر والعالم العربي، وارتبط شهر رمضان الكريم -في سيرة العقاد- بصدور كتاب جديد من كتبه الغزيرة، لعل من أشهرها «عالمية الإسلام» الذي جمع فيه العقاد مقالاته التي كتبها عن “رمضان” و”ليلة القدر” و”الأعياد الدينية”، فضلا على بعض تأويلاته التي لا تخلو من غرابة في معالجاته لرمضان! فنراه مثلا يكتب هذه العبارة الغريبة “وننوي أن نصاحب الشهور في أحاديث الجمعة بما يجريه في الخاطر أو يرده إلى الذاكرة من غرائب الماضي ومستحدثات الحاضر.. وأولها اقتراح على الماكينات والآلات بالصيام!”.
وهذا الكتاب (مع صنوه الآخر «الإسلام دعوة عالمية») يشتمل على طائفة من مقالات العقاد التي نشرها في مناسبات مختلفة، لكنها تتفق في النهاية في مجموعة من المباحث الطريفة والعميقة لموضوعاتٍ تتصل برمضان من وجهتها التاريخية والمقارنة، يعالجها العقاد بما تميز به من عمق في التحليل وهندسية في العرض.

أراد العقاد أن يستجلي وضعية الشهر الكريم في مرآة اللغة والتاريخ والأمم والحضارات السابقة على الإسلام، وأن يقارن بين مكانة الشهر وارتباطاته الدينية والاجتماعية والثقافية في الإسلام والمسيحية واليهودية، كما قدّم بحثًا رائعًا عن شعيرة “الصوم” في الديانات السماوية الثلاث، وبحث في فروق الصيام بين اليهودية والمسيحية والإسلام، كما عالج فكرة “الصوم” في الحضارات والديانات القديمة، ثم أفرد حديثًا مطولا عن ليلة القدر وشهر رمضان، وآفاقها الروحية وتجلياتها النورانية. ويرجع العقاد إلى الجذر اللغوي في المعاجم العربية وإلى كتب التاريخ الإسلامي العام ليوضح أن رمضان كان شهرا مقدسا قبل الإسلام، وقد ورد في اللغة الآرامية باسم “رمع” أي رمض، لأن الضاد العربية تقابلها العين الآرامية، وما زالت في عامية لبنان كلمة “رمعان” على وزن رمضان، وهو الرماد الممزوج بالحجر الصغير الذي يستدفئون به.

ويتتبع العقاد تاريخ الصوم في الديانات والحضارات القديمة، فيذكر على سبيل المثال أن في حضارات أمريكا الوسطى آثاراً تدل على قدم الصيام بين شعائر العبادة التي دان بها سكانها الأصلاء قبل ميلاد السيد المسيح، وأن الصيام في الديانتين البوذية والبرهمية قد اشتهر منذ أقدم العصور التاريخية مع تحريم أكل اللحوم كما هو مشهور معروف عن أتباع هذه الديانات.
ومن بين أطرف الموضوعات التي عالجها العقاد فيما يتصل بالشهر الكريم ما يسمى بالجمعة اليتيمة؛ وهي الجمعة الأخيرة في رمضان، وقد ربط بينها وبين جمعة الآلام في التراث المسيحي، وكذلك بحثه اللغوي والفلسفي حول “فراق رمضان أم رحيله؟”.