الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
رحيل عالم الاجتماع التونسي عبدالوهاب بوحديبة.. فكر مضاد للكبت

كيوبوست
رحل عن عالمنا رائد علم الاجتماع التونسي عبدالوهاب بوحديبة، عن عمر ناهز الـ88 عاماً، تاركاً وراءه أعمالاً وضعت العقل العربي في سياقه العقلاني، موجداً مقاربة ملائمة ما بين التراث والعصر، وذلك من خلال عشرات المؤلفات؛ أهمها “الإسلام والجنس”، الذي يعد علامة فارقة في تاريخ علم الاجتماع العربي-الإسلامي، من حيث تفكيك الصورة النمطية للإسلام، المضادة للكبت.
“الإسلام والجنس”
كان الدكتور بوحديبة مثالاً للتنوير والتحديث، يبرز ذلك في أهم مؤلفاته كتاب “الإسلام والجنس”، الذي نشر أولاً بالفرنسية عام 1975، وكان بالأصل أطروحته للدكتوراه التي نالها من جامعة السوربون عام 1972.
يرى صاحب “الإسلام والجنس” أن الممارسات والفهم الحالي للجنس والعلاقة بين الذكر والأنثى؛ بما فيها من كبت وفصل بين الجنسَين، تعد اضطهاداً للمرأة، سببه الفهم الخاطئ للطرح الإسلامي حول الجنس، الذي يحظى بمكانة رفيعة في الإسلام، فالمتعة الجنسية حق ثابت يتماشى مع الرؤية الإسلامية للحياة.
إذ يؤكد أنه لا وجود لنصوص في القرآن تحض على كراهية النساء وعزلهن، بالمقابل هناك صفحات في كتب التراث مليئة بمؤشرات وأقوال دالة على معاداة المساواة ورفضها.
ويحيل ظاهرة مقت النساء في الثقافة العربية المسلمة إلى “افتراقها عن دعوة القرآن إلى تآلف الجنسَين التي تم استبعادها من قِبل المجتمعات العربية، لتكتفي بالتفوق الذكوري”، مرجعاً ذلك إلى تمسُّك الجماعة الجذري بالحفاظ على اقتصادها القائم على الذكورة والسلطة الأبوية.
اقرأ أيضاً: خطاب الكراهية الإخواني يستهدف المرأة ويثير غضب التونسيين
ويرى بوحديبة أنه مع مرور الزمن قادت الصرامة والقسوة المتعلقة بالمرأة والجنس إلى “إهدار الجنس والحط من شأن الغريزة وتصويرها نشاطاً مريباً يجب كبحه!” وهكذا استحكمت الحلقات وبدأ قهر الشباب من الجنسَين ذكوراً وإناثاً..
وفي كتابه، يفنِّد بوحديبة كل الآراء التراثية التي تحط من قدر المرأة، وتدنس العملية الجنسية وترسخ الكبت، مؤكداً في الوقت ذاته المكانة الرفيعة التي يحظى بها الجنس في الإسلام؛ حيث المتعة الجنسية حق ثابت يتسق والرؤية المسلمة المتناغمة للحياة، مستدلاً بالآية من سورة آل عمران “زيّن لكم حب الشهوات من النساء” ببُعدها الجمالي الذي جعل من الحب متعة ونعمة من الله؛ خصوصاً أن كلمة “زيّن” استخدمت في القرآن لوصف النجوم والكواكب التي تزيِّن كبد السماء، وأيضاً الخيل والحلى.
فالجنس من وجهة نظره، قيمة جمالية/ مثالية، منسلخ عن وظيفته التناسلية، كما أنه شهادة على الحرية؛ يحول الطرف الآخر إلى شريك، وليس إلى مجرد وسيلة إنجاب.

هموم تونسية
تجلَّت آراء بوحديبة حول الأوضاع في تونس، في حواراته المتلفزة، التي رأى فيها أن الإسلام لا بد أن يتغير؛ فلا يمكن أن يواصل ما كان عليه، والتغيير مبدئياً لا يمكن إلا أن يكون بواحد من الاتجاهَين: تقدمي أو رجعي.
في السياق ذاته، أشار إلى كتيب عمل عليه، وكان قيد النشر حين إجراء اللقاء معه في 2017، بعنوان “فتوحات مسلمة”؛ يعبِّر من خلاله عن نظرته المتفتحة للإسلام، معتقداً أن الدين لا يتماشى لا مع العنف ولا مع السياسة، وكل الحروب ملعونة، بيد أن جهاد الرسول سياقها كان مختلفاً، لأنها من المعطيات اللاهوتية، وليست من المعطيات التاريخية الثابتة.
وعن موقفه من الثورة، أكد أنه كان ينتظرها؛ فالمجتمع التونسي تطوَّر طيلة 50 سنة، لكنه لم يكن ينتظر “حركة النهضة”، بل كان متأملاً بعدة أشخاص لعبوا أدواراً مهمة، إلا أن شخصياتهم غابت سريعاً، بينما كان الإسلاميون ينتظرون ليتحكموا في المسيرة ويغتنموها.
وعن البدائل، اعتبر بوحديبة أن العديد من الحركات المدنية والاشتراكية كان لها من الجأش والقوة الأخلاقية والمكانة السياسية ما يجعلها تقود السفينة التونسية؛ مثل رشيد عمار، وهو ضابط بالجيش التونسي، الذي قام بدور تاريخي، عندما رفض إطلاق النار على الشعب؛ لكن هذا الرفض، وفقاً لبوحديبة، كان ثمنه ترك تونس للمجهول.
اقرأ أيضاً: هل هذا ما ندرس علم الاجتماع لأجله؟
وعن حركة النهضة الإسلامية، فقد رأى أنها جاءت بأفكار مسبقة تكوَّنت في لندن وفي المخازن؛ لكن لا صلة لها بالمجتمع في تونس، الذي عاش قبل قرنَين نهضة كبيرة، بينما ظن الإسلاميون أنهم سيغيرون المجتمع بالعودة به إلى الوراء؛ وهو ما سماه بوحديبة بـ”الإسلام الرجعي”، مشيراً إلى أن خطرهم موجود؛ فهم يدَّعون أنهم ديمقراطيون وليبراليون، وأوروبا صدقتهم لأن من مصلحتها أن تصفق لمَن يستلم.
بينما عبَّر بوحديبة عن أمله في النخبة الفكرية التي بنت نهضة تونس الحديثة، ووقفت أمام الإسلاميين.
سيرة ذاتية
ولد بوحديبة عام 1932 بمدينة القيروان، وتلقى تعليمه في العاصمة تونس، وأكمل تعليمه في الفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة السوربون في باريس، وحصل منها على درجة الدكتوراه.
كما شغل عدة مناصب؛ فقد كان أستاذ علم الاجتماع بجامعة تونس، ورئيس المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة)، ومديراً لقسم علم الاجتماع في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، ومديراً عاماً لمركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية بتونس بين 1972-1992، إلى جانب مشاركته كعضو بعدة منظمات.
ونشر عبدالوهاب بوحديبة أكثر من 22 كتاباً باللغتَين الفرنسية والعربية؛ منها: “الإسلام انفتاح وتجاوز”، و”الإنسان في الإسلام”، و”ثقافة العطر في الإسلام”.. إضافة إلى عمله البحثي.
وحصل على عدة أوسمة وجوائز؛ من بينها جائزة الشارقة الدولية للثقافة العربية من قبل اليونسكو، كما نال وسامَي الجمهورية التونسية من الصنفَين الثاني والثالث، ورتبة ضابط في وسام الفنون والآداب الفرنسية.