الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
رابندرانات طاغور.. قناة اتصال الثقافة الهندية بالعالم

كيوبوست – خاص
جوتام تشينتاماني ♦
كان رابندرانات طاغور أول كاتب من أصول غير غربية يحصل على جائزة نوبل للآداب؛ حيث ظل طاغور مغمورًا خارج حدود الهند حتى بلوغه سن الخمسين. ثم كان على موعد مع الصدفة كي يعرفه القراء على مستوى العالم عام 1912. فبينما كان طاغور ذو الواحد وخمسين عامًا على متن سفينة تقله إلى إنجلترا، وبشيء من الملل، قرر أن يسلِّي نفسه خلال الرحلة الطويلة بترجمة آخر أعماله الشعرية إلى الإنجليزية، والذي عُرف بعد ذلك بعنوان “قرابين الغناء”، وحتى تلك اللحظة لم يكن قد تم نشر أحد أعماله خارج نطاق لغته الأصلية، البنغالية.
وتحتوي المجموعة على بعض من أعظم قصائد طاغور؛ بما في ذلك القصيدة الأبرز “عقل بلا خوف”، التي يقول فيها:
حين يكون العقل بلا خوف والرأس مرفوعة
حين تكون المعرفة حرة
حينما لا يتكسر العالم إلى شظايا بسبب فروق صغيرة
حين تولد الكلمات من عمق الحقيقة
ويمتد السعي الدؤوب بذراعَيه نحو الكمال
ولا يفقد العقل الواعي طريقه في رمال الصحراء الجرداء
حينها سيقودنا العقل إلى الأمام في براح الفكر والعمل
وبذلك القدر من الحرية يا أبي سوف تنهض بلادنا
وبعد وصوله إلى إنجلترا، كان صديق طاغور الرسام الشهير جون روثينشتاين، في انتظاره، وما أن عرف روثينشتاين بأمر الترجمة الإنجليزية حتى طلب منه قراءتها، وقد انبهر روثينشتاين بالقصائد غير العادية التي أمامه، فلم ينتظر كثيرًا حتى طلب من أحد أصدقائه مشاركته في الاطلاع عليها. ولحسن الحظ، كان صديق روثينشتاين هو الشاعر ذائع الصيت آنذاك، ويليام باتلر. وهكذا انطلقت أسطورة طاغور ليتم تناقلها عبر التاريخ بلا كلل؛ حيث كان باتلر مأخوذًا بكلمات طاغور وشعر للوهلة الأولى أنها قادمة من ثقافة غنية، ليتم نشر “قرابين الغناء” باللغة الإنجليزية بعد ذلك في شهر سبتمبر من العام نفسه.
اقرأ أيضًا: الشعر كوسيلة للتواصل وتحسين الحالة النفسية والصحية
لقد انطلقت رحلة نجاح طاغور بسرعة الصاروخ، وشهدت الدوائر الأدبية حضورًا كثيفًا للشاعر وأعماله، وخلال أقل من عام واحد تمت دعوته لاستلام جائزة نوبل للآداب عام 1913، وبعد عامَين فقط من هذا التاريخ قام الملك جورج الخامس، بخلع لقب فارس على الشاعر الهندي.
من الصعب وصف طاغور باعتباره أحد كتاب عصر النهضة الأوروبية الذي نجح في تغيير جلده واستخدام الأخلاق النفعية ليصل إلى ما يريد، فطاغور قبل كل شيء كان رجلًا شديد الانتماء إلى وطنه؛ ما جعله يتكبَّد خسارة لقب الفارس الذي حصل عليه للتو نتيجة احتجاجه على مذبحة 1919 الشهيرة، حين قرر العميد الإنجليزي آر. إي. إتش داير، فتح النار على الهنود المسالمين بحديقة “جاليانوالا باغ” في أثناء احتفالهم بمهرجان بيساخي، وهو أحد الاحتفالات الدينية الخاصة بالسيخ.
وعرفت تلك المذبحة بعد ذلك بـ”مذبحة أرميستار” نسبة إلى المدينة التي حدثت فيها؛ حيث شهدت مقتل المئات من الهنود؛ من بينهم نساء وأطفال، وهو ما دفع طاغور إلى أن يخلع لقب “ماهاتما” على موهانداس غاندي زعيم الهند، وكان ذلك في أوائل عام 1915، وهو اللقب الذي يعني الروح العظيمة، وفي المقابل لم يتأخر غاندي في الاحتفاء بالشاعر الهندي المرموق؛ فمنحه لقب “غوروديف” أي المُعلم.
وبين عامَي 1915 و1941، وهو العام الذي توفي فيه طاغور، تبادل المهاتما غاندي وطاغور سلسلة من الرسائل التي تكشف عن العلاقة بينهما. وفي كثير من الأحيان كان النقاش حول موضوعات؛ مثل الحقيقة والحرية والديمقراطية ومستقبل البشرية. وكان بين طاغور وغاندي احترام كبير متبادل، ولم يكن الأول ليتوانى عن الإفصاح عن رأيه وانتقاد أساليب المهاتما غاندي؛ مثل عدم ميله إلى منهج التعاون، معتقدًا أن “هدية الحرية العظيمة لا يمكن أن تأتي إلى الناس من خلال الصدقة، بل يجب أن نفوز بها قبل أن نتمكَّن من امتلاكها”، حسب تعبيره.
اقرأ أيضًا: العمانية جوخة الحارثي تفوز بجائزة المان بوكر العالمية
ولعل هناك كثيرًا من الشعراء الذين نجحوا في أن يتحولوا إلى رموز ثقافية حول العالم؛ لكن لا يوجد من بينهم مَن يماثل طاغور إلا قلائل. ففضلًا عن كلماته الملهمة، كان طاغور رجل إنجازات، وخلال سنوات حياته الثمانين كان قد نشر عديدًا من القصائد، بالإضافة إلى ثماني روايات وأربع روايات قصيرة وعديد من القصص القصيرة؛ حيث أسهم ذلك الإنتاج الضخم في إعادة تشكيل الأدب البنغالي، ويزيد على ذلك أن طاغور كان رسامًا ماهرًا وموسيقيًّا صاحب إنجازات؛ حيث قام بتلحين نحو 2300 أغنية، وقد عاش ليشاهد بعينَيه تحول تلك الأغاني إلى جزء من التراث الفلكلوري للثقافة البنغالية.
وهناك كثير من الأغاني التراثية المعروفة في منطقة البنغال بأغاني طاغور، وهي تغطي مجموعة من الموضوعات حول الإنسانية والرومانسية والتأمل والحنين، وما زال الناس حتى الآن يتغنون بها في المهرجانات والطقوس الدينية في منطقة غرب البنغال، كما أن طاغور هو الشاعر الوحيد الذي حظي باستخدام بعض أغانيه في النشيد الوطني لدولتَين في الوقت نفسه؛ هما الهند وبنغلاديش.

وقد اعتمدت الجمعية التأسيسية لدستور الهند السطر الأول من أحد أغاني طاغور المكتوبة باللغة البنغالية؛ ليمثل النشيد الوطني الهندي، وذلك في 24 يناير 1950، ثم قامت بنغلاديش عام 1970 باقتباس عشرة سطور من الأغنية التي كتبها طاغور عام 1905 والمعروفة بـ”نشيد إلى الأم”؛ لتضمينها في النشيد القومي للدولة الناشئة، وذلك بعد أن حصلت منطقة شرق باكستان على استقلالها بعد تعرُّض سكانها إلى بعض الأعمال الوحشية على يد الباكستانيين، وهي المنطقة التي عُرفت بعد ذلك بدولة بنغلاديش.
وقد عرفت الأغاني التي كتبها ببساطتها وعمق معانيها؛ كالتالي:
تلك الصيحات المتكررة التي أسمعها
تطرق الأبواب في النور والظلام
صيحات تأتي من الحزن والفرح
من الحياة والموت
الرعد المدوي هو الصيحة
وهو السمفونية التي يعزفها الكون
وهكذا استطاع طاغور أن يلخص الكون بأسره في بضعة أسطر، وكانت قصائده محببة لملايين الهنود بكل طبقاتهم وعقائدهم؛ يقول:
كم أنتِ بعيدة عني أيتها الفاكهة
لكني مخبأ في قلبك أيتها الزهرة
ويمكن لقصائد طاغور أن تثير في الناس أسئلة بطريقة لم يكن لهم أن يتخيلوها أو يتصوروها عبر سطور بسيطة؛ مثلما يقول:
سوف أغلق منزلي لأتجنب كل الأخطاء المحتملة
لكن الحقيقة تصرخ في وجهي: “كيف يمكنني الدخول؟”
اقرأ أيضًا: 8 شخصيات عربية فازت بنوبل
ومن أهم ما يميز حياة طاغور رحلاته العديدة؛ فقد قام بزيارة نحو 30 دولة في خمس قارات خلال سنوات حياته الثمانين، قابل خلالها عددًا من الشخصيات اللامعة؛ مثل ألبرت أينشتاين ورومان رولان، فضلًا عن حرصه على التعامل مع التراث المحلي لتلك البلدان، وبهذه الطريقة كان طاغور ينجح في تكوين نظرة عميقة عن عديد من ثقافات العالم. ولم يكتفِ طاغور بذلك، بل حرص على لقاء عديد من المفكرين والفلاسفة في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي واليابان وأوروبا؛ ليعرض عليهم فكرته الملهمة.
كان طاغور يفكر في إنشاء جامعة يقوم فيها بتقديم نوع من التعليم يختلف عن طريقة التلقين المحافظة التي اعتادها الأوروبيون، ومن ثَمَّ اختار منطقة “شانتينيكيتان” بالقرب من كلكتا؛ لتكون مركزًا لمدرسته المستقبلية، حيث كان طاغور يعتبر هذا المكان صومعته الخاصة. وعرفت تلك المدرسة بعد ذلك باسم “فيسفا باهاراتي” التي تعني مشاركة الثقافة الهندية حول العالم. وقد تم افتتاح المدرسة عام 1921؛ لتتحول مع الوقت إلى قناة اتصال تربط الهند بالعالم الخارجي، وتميزت بطرق تدريس ذات طابع شامل يتجاهل الحدود القومية والجغرافية.

لقد نجحت مدرسة طاغور في إخراج عديد من المشاهير في الهند؛ من بينهم المخرج الهندي ساتياجيت راي، ورئيسة وزراء الهند السابقة غانديرا غاندي، فضلًا عن بعض المؤلفين؛ مثل ماهاسويتا ديفي وشيفاني، كما شاركت في تعليم بعض الأكاديميين من خارج الهند؛ مثل تان يون- شان، الذي قام بعد ذلك بإنشاء أقدم مركز للدراسات الصينية في الهند، وذلك بالإضافة إلى أفندي، الرسام الإندونيسي الكبير.
ولا يمكن الاكتفاء بتقييم (المُعلم) طاغور باعتباره مجرد شاعر وفيلسوف عظيم أو حتى باعتباره أول آسيوي يحصل على جائزة نوبل، وإلا وقعنا في فخ التبسيط الظالم؛ لسبب بسيط هو أن طاغور بالإضافة إلى كل ما سبق، نجح في أن يجعل كتاباته جزءًا من الحياة اليومية للناس، وهكذا تحول إنتاجه الأدبي والفكري إلى إرث عالمي يتشارك فيه ملايين البشر حول العالم، ولذلك فإن اللقب الأنسب لشاعر بحجم طاغور يمكن أن يكون “سفير ثقافات العالم”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
♦ كاتب ومتخصص في تاريخ السنيما، ألف أربعة كتب؛ منها: “النجمة المظلمة: راجيش خانا في صحبة الوحدة” الذي صدر عام 2014، وكتاب “فيلم رانجيتي: السيرة الذاتية لرانجاث سينغ” الذي صدر عام 2019.