الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفة
«دفاعاً عن الجلد» كتاب مستفز يقدم رؤية جديدة لعقاب المجرمين

كيوبوست – ترجمات
فكرة مجنونة تولدت خلال عشاء في نيو أورليانز. كنتُ قد اتصلت بكاتب وزوجته دون سابق معرفة؛ لأنني من المعجبين بعمله، واعتقدت أن بيننا الكثير من القواسم المشتركة. وقد كانا كريمين بما يكفي لإعداد وجبة ومعاملتي كزميل مهنة، وليس كمتطفل. تحول حديثنا إلى مناقشة العقاب البدني في المدارس الحكومية. وكانا مندهشين ليس بسبب وجود مثل هذا التقليد في مدينة تنضح بالكثير من الأشياء الغريبة؛ ولكن لأن تطبيق هذه العقوبات غير القانونية كان يتم بتحريض من آباء الطلاب وبموافقتهم التامة.
أخبرتهما بسخرية: “إنه رائع”، والحقيقة أنني لم أكن مصدوماً؛ فإذا كنت قد تعلمت شيئاً من عملي كضابط شرطة دورية يجوب الأحياء الفقيرة، فهو ولع الطبقة العاملة والطبقة الدنيا بالعقاب البدني. حيث لا توجد عقوبة سهلة أو مرضية على ما يبدو مثل الضرب على الجسد. ولم أتعلم هذا؛ لأنني كنت أضرب الناس، بل لأن المواطنين الصالحين الذين أقسمت على خدمتهم وحمايتهم كانوا كثيراً ما يحثونني على القيام بذلك.
اقرأ أيضاً: برنامج سعودي يتميز عالمياً في تأهيل السجناء
ولم يكن من الصعب عليَّ أن أقاوم (فقد أحببت عملي، إلى جانب أنني لم أكن قد تربيت على هذا النحو)؛ لكني كنت أتفق على أن العديد من السفاحين عديمي الاحترام يستحقون الضرب، لماذا؟ لأنه طبقاً للطريقة القديمة في التفكير، عندما يرتكب الناس الأخطاء، فإنهم يستحقون العقاب. وعلى مدار أغلب القرنين الماضيين، على الأقل في ما يسمى بالمجتمعات المتحضرة، تم استبدال أمل إعادة التأهيل بنموذج العقاب. فقد تم ابتكار نظام السجون الأمريكي لاستبدال “العلاج” بالعقاب. وقد بنيت السجون على أساس الأفكار النبيلة لإعادة التأهيل.
ففي المجتمع، على الأقل الليبرالي، من المفترض أن نكون أسمى من العقاب، كما لو أن العقاب بطريقة ما أقل من مستوانا. ولم تُفعل الحقيقة المتمثلة في أن السجون قد أثبتت أنها غير إنسانية وغير فعالة على نحو يبعث على الأسى إلا القليل لردع الحماسة المثالية لأولئك الإصلاحيين الذين يرغبون في إلغاء العقوبة.

فالسجن، سواء بالنسبة إلى البالغين أو الأطفال، لا يؤدي إلا إلى جعل الناس أكثر إجراماً. لكن ما يدعو للأسف هو أن الإصلاحيين “التقدميين” في القرنين الماضيين نجحوا إلى الحد الذي جعلنا اليوم نفقد أي نظام مصمم للعقاب. ومن المؤكد أن السجناء المفرج عنهم يحتاجون إلى المساعدة في الحياة؛ الوظائف والسكن والرعاية الصحية، لكن ما لا يحتاجون إليه هو مفهوم فاشل لـ”إعادة التأهيل”.
اقرأ أيضاً: القصة الكاملة لإعادة تأهيل سجون اليمن
فالسجون اليوم تخلت تقريباً عن أفكار إعادة التأهيل؛ وهو ليس بالأمر السيئ إذا نظر المرء إلى هذه الفكرة باعتبارها مجرد هراء أبوي. فكل ما تبقى هو العقاب، ومن المؤكد أننا نستطيع أن نعاقب، بطريقة أرخص بكثير وأكثر صدقاً وإنسانية؛ أي يمكننا أن نجلد. وخلال ذلك العشاء في نيو أورليانز، كنا نفكر ملياً في “قبول فكرة الجلد”، وتلقائياً قلت تعبير “دفاعاً عن الجلد”، وصمتنا قليلاً ثم اتفقنا جميعاً على أنه عنوان رائع!
وعند العودة إلى مدينتي، ذكرت اسم “دفاعاً عن الجلد” لمحرري فأضاءت عيناه، وقال لي بعبارات لا لبس فيها إنه سينشر كتاباً بهذا الاسم، وأنني سأكتبه. كان ذلك عام 2007، قبل أكثر من عام من نشر كتابي الأول. ورغم أن أغلب الأكاديميين الشباب كانوا ليرغبون في الحصول على مشروع كتاب ثانٍ قبل الانتهاء من كتابهم الأول؛ فإنني شعرت بخوف كبير من هذا العنوان.
اقرأ أيضاً: من الجريمة إلى الجهاد: السجون أرضية خصبة لتجنيد الجهاديين
وعندما بدأت تأليف كتاب «دفاعاً عن الجَلد»، لم أكن مقتنعاً بعد بالفرضية الأساسية للكتاب. فأنا أيضاً كنت أعارض الجلد؛ لأنه عمل همجي ورجعي وقبيح. ولكن كلما أجريت أبحاثاً وكتبت وفكرت، اقتنعت بعدالة دفاعي من الناحية الأخلاقية. ومع ذلك، فلم أجرؤ على أن أتفوه بهذه الكلمات حتى نلت حقوق الملكية. أليس نشر كتاب فكري يحمل عنواناً استفزازياً هو تماماً ما تهدف إليه الحرية الأكاديمية؟

ومن المؤكد أن كتاب «دفاعاً عن الجلد» يدور حول أهوال “مجمع السجون الصناعي” في الولايات المتحدة، لكنني أدافع عن الجلد باعتباره أفضل طريقة لبدء نقاش حول السجن، والوصول إلى ما وراء الجوقة الليبرالية. وعموماً، فأولئك الذين يرغبون في تخفيف معاناة السجناء ينبذون بسهولة باعتبارهم عاطفيين أو متساهلين تجاه المجرمين.
في الوقت نفسه، نجد المطالبة المشروعة للرأي العام بالعقاب قد خلقت أضخم موجة ازدهار للسجون في تاريخ العالم، وذلك بسبب افتقارنا إلى البدائل. ومن الجدير بالملاحظة أن المنادين بإصلاح السجون، وهم الحركة نفسها التي جلبت إلينا السجون في المقام الأول، قد بشروا بغضب شديد وعقلانية عن أهوال السجن، وبالتالي فلا بد أن يتغير شيء ما.
اقرأ أيضاً: خبراء: عدوى التطرف تتفشى داخل السجون.. لكنها الفرصة الأمثل للقضاء عليه
وبالتأكيد يعتبر دفاعي عن الجلد تجربة فكرية أكثر منها اقتراحاً سياسياً؛ فأنا لا أتوقع أن أرى الجلد يعود في أي وقت قريب. وفي أعماقي، لا أريد رؤيته أصلاً. ومع ذلك، وفي سياق كتابة ما هو في جوهره كتاب راجعي جذاب عن إلغاء السجن، فقد توصلت إلى رؤية فوائد تغليف حجة ليبرالية بواجهة محافظة. فإذا كانت فكرة ربط الناس بحامل خشبي وضربهم من الخلف على غرار ما حدث في سنغافورة تزعجك، وإذا كان الأمر يتطلب التفكير في الجلد لإيقاظك لرؤية السجن على حقيقته، فليكن! لأن سلبية الرقي الأخلاقي لم توصلنا إلى أي شيء.

وأقترح أن نعطي المدانين خيار الجلد بمعدل جلدتين عن كل سنة من السجن. ولا يسع المرء أن يجادل في أن مجرد عرض مثل هذا الخيار ينطوي على شيء من القسوة؛ خصوصاً عندما يظل الوضع الراهن المتمثل في الحبس خياراً مطروحاً. فالسجن يعني خسارة جزء من حياتك، وكل ما تهتم به. وبالمقارنة مع هذا، يصبح الجلد مجرد بضع ضربات موجعة للغاية على الظهر، ثم ينتهي الأمر في غضون دقائق.
فغالباً، وبسرعة بالغة في أغلب الأحيان، يعود أولئك الذين يقولون إن الجلد قاسٍ للغاية لدرجة أنه لا يمكن التفكير فيه، ليقولوا إنه ليس قاسياً بما فيه الكفاية. وأنا شخصياً أرى أن انتزاع الجلد حرفياً من جسم الإنسان هو أمر قاسٍ، وحتى سنغافورة تحد عقوبة الجلد بـ24 جلدة؛ خشية أن يموت المجرم.
اقرأ أيضاً: ارتفاع معدل الجريمة يفقد التونسيين الإحساس بالأمان
ففي عام 1970، وقبل الحرب على المخدرات، وقبل العدد الهائل من القوانين الصارمة التي زادت من مدة العقوبات وعدد المجرمين غير العنيفين في السجون، كان هناك 338 ألف أمريكي قيد تنفيذ أحكام داخل السجون. وكان هناك أمل في أن تتلاشى السجون ببساطة إلى مزبلة التاريخ؛ لكن هذا لم يحدث.

وفي الفترة من 1970 إلى 1990، ارتفعت معدلات الجريمة، بينما كنا نحتجز مليون شخص آخر. ومنذ ذلك الحين، احتجزنا مليونًا جديداً وانخفضت معدلات الجريمة. وفي الحقيقة هناك ارتباط ضئيل جداً بين السجن ومعدل الجريمة. فهل هناك شيء مميز في المليون الثاني الموجود خلف القضبان؟ هل هم الوحيدون الذين كانوا “مجرمين حقيقيين”؟ هل أخطأنا ببساطة مع أول 1,3 مليون قمنا بحبسهم؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل يجب أن نخرجهم؟
اقرأ أيضاً: منظمة العفو الدولية: 2018 عام العار في إيران
فأمريكا لديها الآن أكثر من 2,3 مليون سجين، مقارنةً بأية دولة أخرى في العالم. ويبلغ معدل الحبس لدينا سبعة أضعاف معدل كندا أو أية دولة من دول أوروبا الغربية. فقد كان عدد السجناء لدى ستالين، في أوج معسكرات الاعتقال السوفييتية، أقل من عدد السجناء الموجودين في أمريكا الآن (وإن كان من المعترف به أن احتمالات البقاء على قيد الحياة في السجن الأمريكي أعلى بعض الشيء).

ونرى أنه من الضروري أن نسجن المزيد من شعبنا أكثر من الأنظمة الاستبدادية الأكثر قسوةً في العالم. وفكر في ذلك، فعلى الرغم من أن شعارنا هو “أرض الحرية”؛ فإن عدد السجناء لدينا أكبر من عدد السجناء في الصين، وهم أكثر منا بمليار شخص.
وفي بادئ الأمر، كما وصف أحد المراقبين المعاصرين بسجن نيوجيت، سجن نيويورك الأول، “غير المرئي من العالم”، كانت السجون قد قطعت الصلة الأساسية بين المجتمع والعقاب. فدون أن يكون المدانون مرئيين، فقد تحولوا من كونهم جزءاً منا نحن المجتمع الأكبر إلى “هُم” دخلاء بشكل أكبر.
اقرأ أيضاً: من التعذيب إلى القتل.. قصص من داخل السجون القطرية
فهل لا يزال الجلد قاسياً للغاية بحيث لا يمكن التفكير فيه؟ ربما الأمر ليس جنونياً كما ظننت، وحتى لو كنت مصراً على أن الجلد هو شكل همجي وغير إنساني للعقاب؛ فإذا كان الجلد أسوأ حقًا من السجن، فلن يختاره أحد. وبالطبع فمعظم الناس سيختارون عصي الخيزران بدلاً من زنزانة السجن. هذه وجهة نظري، ففي مواجهة الاختيار بين السجن أو الجلد، فإن الجلد يعد أفضل.
الكاتب: بيتر موسكوس؛ أستاذ مساعد في القانون والعلوم الشرطية بكلية جون جاي للعدالة الجنائية. وهو ضابط شرطة سابق في مدينة بالتيمور ومؤلف كتاب «شرطي في الأحياء الفقيرة» (2008). وسيتم نشر كتابه «دفاعاً عن الجلد» في يونيو 2020 عن دار نشر “بيزك بوكس”.
المصدر: دورية التعليم العالي