الواجهة الرئيسيةشؤون خليجيةشؤون دوليةشؤون عربيةمقالات

دعونا نتخيّل دولة إبراهيمية في الشرق الأوسط

كيوبوست

د. البدر الشاطري

حل الدولتين للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني مات ودفن منذ فترة طويلة! لقد مات في كامب ديفيد في يوليو 2000 عندما أخفق الراحل ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية السابق، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك في التوصل إلى اتفاق. مسألة من يجب إلقاء اللوم عليه في الإخفاق يخضع لنقاشٍ لا نهاية له، حتى بين أولئك الذين كانوا حاضرين ومشاركين في أدق تفاصيل المفاوضات. غير أن ثمة شيء واحد مؤكد: لم تُظهر الولايات المتحدة قيادة تليق بالقوة العظمى الوحيدة.

وبعد مفاوضاتٍ شاقة بين الأطراف المعنية دامت عقوداً، أصبح الإسرائيليون والفلسطينيون عالقين في مواجهاتٍ لا نهاية لها. الآن، يرى خبيران في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، كانا من أنصار حل الدولتين، بأن حل الدولتين أمل خادع. في كتابه المعنون “النموذج المفقود: من حل الدولتين إلى واقع الدولة الواحدة”، يرى البروفيسور إيان لوستيك من جامعة بنسلفانيا أنه على الرغم من أن حل الدولتين “قد مات، فإن شبحه لا يزال قائماً، ليس كخطة مُلهمة للعمل، ولكن كعقيدة مشتتة للانتباه”.

وعلى نحوٍ أكثر تأكيداً، يشدد البروفيسور آفي شلايم، في مقالٍ نشر مؤخراً، أنه ليس من قبيل المبالغة القول إن حل الدولتين قد مات. ومع ذلك، يذهب إلى أبعد من ذلك ليدّعي أن “حل الدولتين لم يولد أبداً”. لم تكن أي حكومة إسرائيلية منذ الاحتلال في عام 1967 على استعدادٍ للتخلي عن الأراضي أو، وفقاً لشلايم، لتأييد قيام “دولة فلسطينية مستقلة على كامل غزة والضفة الغربية عاصمتها القدس الشرقية”. يشاطره هذه النقطة أيضاً وزير الخارجية السابق شولومو بن عامي.

اليوم، أصبح الأمل في إعادة إطلاق عملية السلام خافتاً. لدى إدارة بايدن أشياء أكثر أهمية على المستويين المحلي والدولي. الحكومة الإسرائيلية الجديدة، بتشكيلتها الحالية، ليست في السباق على جائزة نوبل للسلام، بل لزيادة الضغط على الفلسطينيين. الفلسطينيون ضعفاء ومنقسمون أكثر من أي وقت مضى ولا يمكنهم تقديم أنفسهم كشريك قوي للتفاوض على تسوية نهائية للصراع. وإذا لم يكن كل هذا كافياً، فإن الجغرافيا السياسية للصراع تحول دون قيام دولة أخرى في الأرض المقدسة. لقد سمحت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، على اليسار واليمين، للمستوطنات بالازدهار في المناطق المزعومة للدولة الفلسطينية. بالإضافة إلى ذلك، هناك شبكة من الطرق السريعة التي تربط المستوطنات بإسرائيل، تقطع أوصال الأراضي المحتلة، الأمر الذي يجعل من المستحيل وجود دولة متجاورة. في هذا الصدد، يطلق النقاد الإسرائيليون على الدولة الفلسطينية المستقبلية اسم “الجبن السويسري”، في تعبير ساخر، حيث يشير الجبن للإسرائيليين والثقوب للفلسطينيين.

الرئيس الأمريكي جو بايدن- وكالات

اتفاقات إبراهيم

توفر الاتفاقات الأخيرة التي أبرمتها بعض الدول العربية وإسرائيل، المعروفة باسم اتفاقيات إبراهيم، إمكانية بدء سلام إقليمي يتضمن حلاً لجوهر الصراع، أي القضية الفلسطينية. كيف يمكن أن يحدث ذلك بعد كل ما قيل عن استحالة حل الدولتين؟ أزعم أن الحل يكمن في هذه الاتفاقات الإبراهيمية الأخيرة.

لقد أظهر الإسرائيليون ومؤيدوهم حماساً كبيراً لهذه الاتفاقات. وكان جاريد كوشنر، مبعوث الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من بين أكبر المدافعين عنها. من ناحية أخرى، رفض الفلسطينيون الاتفاقات، لأنها لم تدرجهم في أي حل محتمل.

تجدر الإشارة إلى أن العقبات التي تحول دون التوصل إلى حل هي ما يُسمى بقضايا “الوضع النهائي”. هناك ثلاث قضايا تعيق الوضع النهائي: أولاً، المستوطنات والحدود الجغرافية للدولة الفلسطينية المقترحة؛ ثانياً، وضع القدس؛ وثالثا، اللاجئون الفلسطينيون. تمثل المستوطنات قضية لأنها تتعدى على الأراضي الفلسطينية. وبالتالي، يصبح ترسيم حدود الدولة الفلسطينية المحتملة إشكالياً. تطالب إسرائيل بالقدس كعاصمة موحدة وأبدية للدولة اليهودية.

وأخيراً، فإن عودة اللاجئين إلى ديارهم السابقة أمر مرفوض بشدة، لأن معظم الإسرائيليين يخشون أن تطغى أعدادهم إلى جانب السكان الفلسطينيين الحاليين في الأراضي المحتلة، وداخل إسرائيل، على السكان اليهود بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. والواقع أن الإسرائيليين يطالبون بأن تعترف القيادة الفلسطينية بإسرائيل كدولة قومية حصرية للشعب اليهودي.

اقرأ أيضاً: الأسس الدينية للسلام العربي- الإسرائيلي

تاريخ التسامح في الشرق الأوسط

الدولة الإقصائية ليست تقليداً شرقَ أوسطي، على الرغم من اعتراض وسائل الإعلام الدولية. لطالما كانت المنطقة موطناً للعديد من الجماعات العرقية والدينية والطائفية. حتى الجزيرة العربية، مهد العرب والإسلام، كان بها العديد من الأفراد من أصل حبشي وروماني ويهودي. وفي حين أن التنوع لم يعن المساواة، فقد كان هناك مستوى من التسامح.

في مثل هذا البيئة، ولد الإسلام. وهنا، يرى المؤرخ خوان كول في كتاب صدر مؤخراً بعنوان “محمد: نبي السلام وسط صدام الإمبراطوريات” أن النبي محمد جاء برسالة السلام والتسامح في وقت الحرب والصراع. وحقيقة أن اليهود والمسيحيين، بميزاتهم وعيوبهم، ازدهروا في ظل الحكم الإسلامي تضفي مصداقية على أطروحة كول.

وينبغي أن يكون الإعجاب محفوظاً للمسلمين في الأندلس على وجه الخصوص. كان المسلمون غزاة حقيقيين لشبه الجزيرة الأيبيرية، معتقدين أنهم يُنفذون ما أمر به الله ويحملون رسالته. ومع ذلك، أسّس المسلمون حضارة كانت أنموذجاً للتسامح والتعايش السلمي، على عكس أجزاء أخرى من العالم في ذلك الوقت. ووصفت البروفيسورة الكوبية الأمريكية الراحلة، ماريا روزا مينوكال، تلك التجربة في كتابها المعنون “جوهرة العالم: كيف أنشأ المسلمون واليهود والمسيحيون حضارة التسامح في إسبانيا في العصور الوسطى”. ما كتبه كريستوفر هيتشنز، وهو ليس من محبي الإسلام، عن كتاب مينوكال يستحق الاقتباس: “ليس من قبيل المبالغة أن ما نسميه الثقافة “الغربية” يعود إلى حد كبير إلى التنوير الأندلسي… هذا الكتاب يُعيد لنا جزئياً عالماً فقدناه”.

في أواخر القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين، شهد الشرق الأوسط مستوى من التعايش بين الطوائف نتيجة للإصلاحات العثمانية. وقد أوضح أسامة مقدسي في كتابه ” عصر العيش المشترك: الإطار المُوحد وتشكل العالم العربي الحديث”، المشروع الفكري لـ”الإصلاحات” أو “التنظيمات”. “سعت التنظيمات إلى التوفيق بين مبدأ جديد للمساواة السياسية العلمانية، وواقع النظام الإمبراطوري العثماني الذي فضّل المسلمين على غير المسلمين، لكنه كان يحاول أيضاً دمج غير المسلمين كمواطنين”.

من مراسم توقيع اتفاقية السلام التاريخية بين الإمارات وإسرائيل – وكالات

أندلس جديدة في الشرق الأوسط

إذا كان كل هؤلاء الكتاب اللامعين على حق، فإن الطائفية هي الاستثناء وليست القاعدة. الهدف من توقيع اتفاقيات إبراهيم هو أن تنعم المنطقة بعصر جديد من السلام والازدهار والتعايش. هل يمكن لإسرائيل أن تتولى القيادة الأخلاقية التي أظهرها المسلمون في أوقاتٍ سابقة لإقامة أندلس جديدة في الشرق الأوسط المعاصر؟ كيان يحافظ على هويته كنظام حكم يهودي، ولكن حيث يزدهر الفلسطينيون، من جميع الأطياف، ثقافياً وروحياً وفكرياً واقتصادياً وسياسياً وعلمياً؟ هل سيولد موسى بن ميمون مسلم من مثل هذا المزيج الإبراهيمي؟

يؤمن الرئيس الإسرائيلي السابق رؤوفين ريفلين، وهو ينتمي لحزب الليكود، بمثل هذا الاحتمال: كونفدرالية إسرائيلية- فلسطينية، يعيش فيها الجانبان في وئام. وأكد ريفلين أنه “عندما يكون لديك كيانان سياسيان، الكيان الفلسطيني والكيان الصهيوني العبري، ربما يجب علينا العيش في كونفدرالية، حيث يدير كل جانب شؤونه بطريقة أو بأخرى، والقضايا العالمية يديرها النظام ككل”.

الرئيس الإسرائيلي السابق رؤوفين ريفلين

نموذج سويسري للدولة الإبراهيمية

يوجد نموذج مناسب في الكونفدرالية السويسرية متعدد الأعراق واللغات والطوائف. وستتألف الكونفدرالية الإبراهيمية الجديدة من عدة مقاطعات تتمتع بالحكم الذاتي وتشمل بلديات. من المُسلّم به أن هناك أكثر من طريقة لإنشاء هذه الكونفدرالية. ومع ذلك، فإن أحد الأساليب هو تقسيم الاتحاد إلى أربع مقاطعات. أكبرها ستكون المقاطعة الإسرائيلية التي ستشمل كل إسرائيل اليوم باستثناء المنطقة العربية في الشمال التي ستشكل مقاطعة منفصلة. وستصبح الضفة الغربية مقاطعة مستقلة، وكذلك قطاع غزة.

تشكّل المقاطعات الأربع مجلساً أعلى للكونفدرالية حيث تكون السلطة التشريعية للكونفدرالية فقط. وسيتألف من أعداد متساوية من اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين. ينتخب المجلس الأعلى مجلساً تنفيذياً متساوي الأعداد يمثّل مصالح الكونفدرالية في الخارج والداخل. تتولى كل مقاطعة إدارة شؤونها الخاصة، مع الحد الأدنى من تدخل الكونفدرالية، ويمثلها مجلس على مستوى المقاطعات بناءً على عدد البلديات التي يشملها.

تتولى القوات العسكرية الإسرائيلية الدفاع عن المقاطعة الإسرائيلية والكونفدرالية؛ وتتولى كل مقاطعة مسؤولية أمنها الداخلي؛ ومع ذلك، سيتم تعيين مجلس أعلى للدفاع من قبل السلطة الكونفدرالية لتنسيق ترتيبات الدفاع والأمن لكامل الكونفدرالية. خلال العقد الأول على الأقل، يجب أن يكون هناك مراقبون أمنيون تابعون للأمم المتحدة لمراقبة أمن الكونفدرالية والمقاطعات. في حالة حدوث أزمة، سيتولى المجلس الأعلى للدفاع بالتنسيق مع مراقبي الأمم المتحدة معالجتها.

وهكذا، تُعالج جميع قضايا الوضع النهائي في إطار هذه الكونفدرالية. ستكون القدس عاصمة الكونفدرالية، ويُحترم الوضع الراهن للأماكن المقدسة في القدس لعام 1852، وستتمتع جميع الأديان بحرية الوصول إلى أماكنها المقدسة. لن تفكك أي مستوطنات في المقاطعة الفلسطينية، ويمكنهم تشكيل بلديات خاصة بهم لإدارة شؤونهم، وفي الوقت ذاته سيتم تمثيلهم على مستوى المقاطعات.

وبالمثل، يمكن للسكان العرب في المقاطعة الإسرائيلية تشكيل بلديات لإدارة شؤونهم. وسيُتعامل مع اللاجئين، مشكلة يصعب حلها، في إطار الكونفدرالية. وسيُمنح الفلسطينيون المولودون في فلسطين حق العودة إلى ديارهم على الفور في جميع أنحاء الكونفدرالية. وسيختار أحفاد اللاجئين الأصليين بين التعويض أو حق العودة إلى المقاطعة الفلسطينية. وسيتم لم شمل الفلسطينيين الذين تربطهم صلات عائلية بأقاربهم في أي مكان في الكونفدرالية.

اقرأ أيضًا: محور إبراهيم

قد يرفض البعض هذا الطرح باعتباره غير واقعي، بالنظر إلى العداوة بين البلدين. أولاً، لكي ينجح أي مشروع، فإنه يحتاج إلى خيال ورؤية قبل أن يتحقق. كانت فكرة إنشاء دولة يهودية في قلب العالم العربي مجرد فكرة في أواخر القرن التاسع عشر. وبعد نصف قرن، حقق اليهود الصهاينة هذا الحلم المستحيل. يمكن للإسرائيليين إظهار الخيال والسخاء لتحقيق فكرة الدولة الإبراهيمية الجديدة. ذلك أنه في نهاية المطاف، يؤمن اليهود والمسيحيون والمسلمون بمعجزة انفلاق البحر الأحمر، لذا فإن تصوّر دولة إبراهيمية وتحقيقها أكثر واقعية بلا شك. وهنا، تجدر الإشارة إلى ما قاله يهودي حكيم، ألبرت أينشتاين، ذات مرة: أن تفعل الشيء نفسه مراراً وتكراراً وتتوقع نتائج مختلفة لهو الجنون المطلق.

ومن المفارقات المطلقة أن دولة القرون الوسطى في الأندلس أعطت حقوقاً للأقليات المسيحية واليهودية أكثر من دولة تتمتع ببعض المؤهلات الديمقراطية وتدعمها (إلى أقصى حد) الديمقراطيات الغربية. إن معالجة المظالم الفلسطينية المستمرة منذ قرن من الزمان لن تكون جيدة للفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، بل ستمنع إسرائيل أيضاً من الانزلاق إلى الاستبداد اليميني.

المصدر: الدورية الفلسطينية-الإسرائيلية للسياسة والاقتصاد والثقافة

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة