الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات
خطاب محمد وردي ورهان التسامح وشروط العيش المشترك

ناجية الوريمي♦
الاعتراف بحق الاختلاف؛ باعتباره واجباً تجاه الآخر، هو من مقومات وعي المواطنة، ويجعل التنوع مزية وجودية.
قبول الآخر لتجنب الفتن ذريعة للثبات على اعتبار التعدد شراً لا بد منه، ويندرج في إطار اللا تسامح.
عنوان الكتاب سؤال يرجُّ الوعي؛ لأنه ينبِّه إلى أن الفكر العربي لا يزال خارج فضاء التسامح.
ينبِّه العنوان إلى ضرورة تحديث الفكر والأخلاق العربية أمام التطور المتسارع الذي تشهده الثقافة الإنسانية.
استراتيجية الخطاب تروم تخفيف معنى التسامح من حمولاته التقليدية، والتركيز على إمكاناته العقلانية والواقعية.
يتحول خطاب التسامح في الكتاب إلى رهان اجتماعي ضارب في الواقعية.
الأنسنة في خطاب محمد وردي تتحول إلى مقاربة تختزل الشروط اللازمة لكسب هذا الرهان.
يقدم محمد وردي في خطابه معالجة شاملة لموضوع التسامح تستند إلى مرجعيات العقل والدين والأخلاق.
العقل باعتباره شعوراً إنسانياً وموقفاً عقلانياً يمارسه الإنسان في سبيل عقلنة ظاهرة الاختلاف.
اقرأ أيضًا: التطرف تفكير شيطاني يبعث الثقافة البدائية ويعيد سيرة التوحش الإنساني في التاريخ
الدين باعتباره جزءاً من “رأس المال الرمزي” الذي يتمتع به المجتمع، ويستمد منه قيمه ومعنى وجوده.
الأخلاق باعتبارها الثقل الموازن لمنطق العقل القادر على إحداث التوازن الضروري للكائن البشري.
تندرج الدراسة في نقدها لموضوع التسامح، وفي تقديمها للبدائل، في إطار الحداثة العربية المأمولة.
تبرز الأبعاد الحداثية في الكتاب من خلال جدل الماضي والحاضر المشدود إلى رهانات المستقبل.
لم يُغفل الخطاب نقد عقبات التسامح، ويقدم مقاربة نقدية تصوغ الطريف من رحم المتعارف، وتحتفي بالخصوصي في خضم الكوني.
الناظم في فصول الكتاب مركزية مفهوم الاختلاف والتعدد؛ لأنه مفهوم تحيط به تصورات متباينة بتباين النظرة إلى الثقافة والإنسان.
يرتقي الكاتب بمفهوم التعايش من مجرد حاجة لا يمكن الاستغناء عنها إلى جعلها فلسفة حياة تضفي على الوجود معنى.
يجزم محمد وردي بأن التعايش لن يكون إلا بالأنسنة التي تداوي وتعالج من خلال الانشغال بحب الآخرين.
احترام الاختلاف الندّي المتكافئ هو مفتاح لحل جميع مشكلات الحضارة المعاصرة
الخطاب يقدم مراجعة متعددة الأوجه.. كل وجه منها هو قطعة مهمة في فسيفساء المفهوم العملي للتسامح
يستثمر الخطاب الجوانب النيِّرة في الماضي ويبرز التراث العقلاني المكرِّس للتسامح في تواصل مع المفاهيم المؤسسة للتحديث
أثبت الكاتب الأسبقية العربية في التسامح ومن مظاهرها قيم الجود التي تحتفي بالآخر وحلف الفضول بما يمثله من حماية للغريب
محمد وردي يقدم مواقف فذة من التسامح العربي الإسلامي وبعضها يكاد ينطق بلسان العصر لكونها عابرة للتاريخ والجغرافيا ولأنها تخص الإنسان
في محطات اللا تسامح عرض بعض مظاهر التشدد والتعصب.. منها إجلاء اليهود عن المدينة والنصارى عن نجران ومحنة خلق القرآن
يعري الكتاب مواطن القصور في الفكر العربي المعاصر ويكشف إخفاقه في تغيير آليات التفكير السائدة
تتراوح عوامل الوهن في العقل العربي بين وطأة النقل وغياب الملكات النقدية القادرة على تفكيك النمطيات الذهنية السائدة
مقاربة محمد وردي بقدر ما تبحث في معنى التسامح تعتني بالسياق التاريخي الذي أنتج فيه ذلك المعنى غربياً وعربياً.
يحلل الكاتب العوامل التي جعلت التسامح في السياق الإسلامي دعوة للتعايش درءاً للفتنة، رغم النصوص المؤسسة التي تحفز على تطوير المفهوم وإثرائه.
لم يترك الكاتب معالجة قيمة التسامح رهينة ما يجب أو ما ينبغي وإنما وضعها في إطار قانوني وعملي للتنفيذ.
يؤكد الكاتب دور الدولة فهي الضامنة الوحيدة لرعاية التسامح وحمايته، وتحويله إلى أنساق ثقافية فاعلة في المجتمع.
الإنسان خامة طبيعية يمكن تشكيلها وفق الحاجة ودرجة الوعي، وهو المدخل الأهم والأجدى لتطوير خطاب التسامح.

نجد عدداً مهماً من الدراسات التي تعتني بقضايا تحديث المجتمع العربي على أصعدة مختلفة؛ لكنه يكاد يخلو -وبشكلٍ يدعو إلى الحيرة- من قضية التحديث الأخلاقي، بكل ما تثيره من إشكاليات المنظومة القيمية السائدة، وإشكاليات البدائل الممكنة الداعمة لمشروع النهوض العربي المأمول.
إن التحول النوعي الذي عرفته فلسفة “الغيريّة” في هذا العصر، يحتِّم على الفكر العربي تحيين مواضيعه مع تحيين المقاربة. فأن يُتمثَّل الاعتراف بالحق في الاختلاف؛ باعتباره “واجباً” تجاه “الآخر المختلف”، بعيدٌ جداً عن تمثُّله باعتباره “مَنّاً” على هذا الآخر. فالأوَّل مقوّم من مقومات الوعي المُواطني في الدولة الحديثة، ورفعٌ للتعدد والتنوع إلى مرتبة الحتمية الوجودية، أو بالأحرى “المزيّة الوجودية”؛ والثاني، ذريعةٌ؛ للثبات على اعتبار التعدد “شراً لا بد منه”، والتعامل معه بتعصُّب خفي وخطرٍ، لا يقبل “الآخر”؛ إلا بهدف تجنُّب النتائج الوخيمة “للفتن”، وهو ما سمَّاه بعض الفلاسفة بـ”التعايش في نطاق اللا تسامح”.
والفكر العربي النقدي لا يزال -مع الأسف- في غفلةٍ عن ضرورة الانخراط في استراتيجية ثقافية عامة، تهدف إلى إحداث النقلة النوعية اللازمة للوعي العربي، والكفيلة بجعله لا يكتفي بالنسج على المنوال القيمي الكوني المعاصر؛ بل يمر إلى المساهمة فيه، إثراءً وإضافةً، وهو على ذلك لقدير.
اقرأ أيضًا: قراءات في كتب كبار الفلاسفة 6: رسالتان في التسامح.. جون لوك وفولتير
سؤال الرجَّة
لا نروم من وراء هذه القراءة تلخيص محتوى كتاب «من أين ندخل إلى التسامح» للمفكر محمد وردي، ولا تتبع بنيته العامة كما اختارها صاحبه؛ لأن هذا عمل وصفي، يشد إليه القارئ العجول؛ بل نروم الدخول معه في تواصل فكري، أغرانا به التقاؤنا مع صاحبه في الإيمان بضرورة “التفكير معاً” في إشكاليات التسامح، في السياق العربي، حسبما جاء في الكتاب.
عنوانُ الكتاب سؤالٌ، هو: «من أين ندخل إلى التسامح؟». سؤال يرجّ أو يخض القارئ منذ الوهلة الأولى؛ لأنه ينبِّهه إلى أن الفكر العربي لا يزال -اليوم في القرن الواحد والعشرين- خارج فضاء التسامح، أو على الأقل هو يتقدَّم فيه بخطى وئيدة؛ بسبب بقائه سجين مقارباته التقليدية. في المقابل، تقدَّمت فيه الثقافات العالمية التي أفرزت منظومة القيم الكونية المعاصرة، تقدماً نوعياً، لا يمكن التغافل عنه في السياق العربي. وانطلاقاً من هذه الرجَّة اللازمة لاكتساب وعي نقدي في التعامل مع الموضوع، يأخذ محمد وردي القارئ في رحلة بحثية ممتعة، مدارها دراسة المداخل المفضية إلى “التسامح”، والعراقيل التي تنتصب إزاءها.
وفضلاً عن ذلك، ينبِّه هذا “العنوان السؤال” إلى الضرورة الملحة والعاجلة في تحديث الفكر والأخلاق العربية، أمام التطور المتسارع والمربك الذي تشهده الثقافة الإنسانية. وجاء هذا التنبيه عبر نقله لمركز الثقل المعنوي في معالجة قضية التسامح، من الجدل الكلاسيكي بين الأطراف الداعية إليه، والأطراف المحترزة منه، بتعلَّات شتَّى، إلى التسليم به، ضرورةً لا محيد عنها؛ ضرورة لا تحتاج إلا إلى تحديد وسائل التنفيذ.

لقد أدرك محمد وردي أن أمام الفكر العربي أشواطاً، يجب عليه أن يقطعها قبل أن يتوصَّل إلى ترسيخ قيم التعايش في الفضاء العربي، وقبل أن ينجح في دخلنتها (غرسها) في ضمائر الناس. لذلك اختار أن يعتمد استراتيجية خطابية تدفع بمعالجة هذه القيم أشواطاً، متجاوزاً محطات يرى أنه لم يعد للوقوف عندها معنى. ورام “تخفيف معنى التسامح من حمولاته التقليدية واللا واقعية أحياناً، والتركيز على إمكاناته العقلانية والواقعية؛ بما يتناغم مع التغييرات السياقية والمقامية اليوم” (ص 36- 37)، فتحوَّل التسامح في خطابه إلى رهان اجتماعي ضارب في الواقعية. يقول الكاتب: “نريد لدلالة التسامح الجديدة أن تتحوَّل إلى وعي جديد، يؤسِّس لممارسة يومية متسامحة في السلوك الجمعي” (ص32).
وتحوَّلت الأنسنة في خطابه إلى مقاربة تختزل الشروط اللازمة لكسب هذا الرهان. في هذا السياق أكد محمد وردي مُجارياً جوليا كريستيفا، أن “تطوير التسامح وإعادة تأسيس الأنسنة هو رهان وليس ثابتاً روحياً أو تمريناً ذهنياً. وأمام الأزمات والتهديدات المتفاقمة، علينا أن نتجرَّأ على الرهان بالتجديد المستمر لقدرات البشر على الجمع بين الإيمان والمعرفة معاً؛ عسى أن تتمكن الإنسانية من مواصلة قدرها الخلاق لمدة أطول في هذا الكون المتعدد المحاط بالفراغ المهول اللا محدود” (ص 36).

المقاربة النقدية
كي تكون معالجة موضوع التسامح شاملة، استند محمد وردي في خطابه إلى ثلاث مرجعيات؛ هي “العقل، والدين، والأخلاق”؛ العقل باعتباره شعوراً إنسانياً وموقفاً عقلانياً يمارسه الإنسان في سبيل عقلنة ظاهرة الاختلاف، والدين باعتباره جزءاً من “رأس المال الرمزي” الذي يتمتَّع به المجتمع، ويستمد منه قيمه ومعنى وجوده، والأخلاق باعتبارها الثقل الموازن (contrepoids) لمنطق “العقل الصرف” و”المصلحة”، والقادر على إحداث التوازن الضروري للكائن البشري.
أما الإطار الذي تندرج ضمنه الدراسة في نقدها موضوع التسامح، وفي تقديمها البدائل، فهو الحداثة العربية المأمولة. الحداثة التي تبنيها “حركة مستمرة من القطيعة والتأسيس”، وأساسها كما يقول محمد وردي “تجديد الخطاب الإسلامي على أسسٍ عقلانية مؤنسنة” (ص 263). وبرزت الأبعاد الحداثية في هذا الكتاب من خلال مستويين بارزَين: المستوى “التاريخي”، ممثلاً في جدل الماضي والحاضر المشدود إلى رهانات المستقبل، والمستوى “الجغرافي” ممثلاً في المحلي، المتفاعل مع الكوني؛ أخذاً وعطاءً. ووفَّرت مختلف فصول الكتاب مساحات نصيَّة، تتفاوت أهمية في عرض هذه الأبعاد.
وبقدر ما توقَّف محمد وردي -من خلالها- عند مؤشرات التواصل اليوم مع الموروث الديني والفلسفي النيِّر، توقَّف عند أوجه التواصل مع الرصيد القيمي الكوني. وفي تحليله لهذا وذاك، لم يغفل عن نقد العوامل التي انتصبت، ولا تزال تنتصب، في طريق “التسامح” على المستويين المحلي والعالمي.
اقرأ أيضًا: من منظور الفلسفة وعلم النفس، ما الفرق بين التسامح والتناسي؟
في المستوى المحلي نقد الموروث الفكري الإقصائي الذي يوجَّه -إلى اليوم- جانباً مهماً من الوعي العربي والإسلامي، في تمثُّله لظاهرة الاختلاف والتعدد، وفي المستوى العالمي كشف عن مفارقة مقلقة -حسب عبارته- وهي “تزايد وتائر المدنية والحداثة” من جهة، و”تزايد وتائر التوحش والهمجية” من جهة ثانية (ص56). مفارقة كان من نتائجها “تشييء الإنسان”، وتوجيه فعله ومكاسب تقدمه، نحو رفاهة مادية عرجاء؛ من أبرز نواقصها استمرار التناحر والتدمير بين المجتمعات وفي داخلها. ثم عمَّق هذه المفارقة ما أنتجته العولمة المجحفة من مظاهر التفاوت الكبير بين حظوظ الناس والشعوب، والهيمنة الثقافية، والمجتمع الاستهلاكي (ص48- 52).
هي ذي مقاربة محمد وردي النقدية في ما تقوم عليه من التمييز بين مختلف الدلالات الحافة؛ بالمصطلح الواحد. إنها تعيِّن الفروق بين الاختيارات من حيث المنشأ ومن حيث المآل، دون أن تكتفي بوصف المعطيات وتقديمها؛ فهي تصوغ “الطريف” من رحم “المتعارف”، وتحتفي “بالخصوصي” في خضم “الكوني”.
مركزية الاختلاف والتعدد
الناظر في مختلف فصول الكتاب يلحظ مركزية مفهوم الاختلاف والتعدد؛ لأنه القاعدة التي تُبنى عليها كل المسائل المتعلقة بالتسامح. وهو مفهوم تحيط به تصورات متباينة بتباين النظرة إلى الثقافة وإلى الإنسان. ونظر إليه محمد وردي من زاوية “مؤنسنة” أساسها، اعتبار “التعدد سُنة كونية” واجبٌ استثمارها لصالح الإنسان؛ بما هو قيمة وجوديَّة، وليس بما هو كائن “نفعي مصلحي”. في هذا الاتجاه يواصل الكاتب ضبط الدلالات المميزة لهذه “السُّنة الكونية”، منها أن واقع الإنسان يؤكد أنه فرد يختزل “الجمع”، وأن وجود “الآخر” المغاير شرطٌ للوعي بالذات”، وأن “المرء من دون الآخر لا يستطيع أن يكتشف هويته” (ص 198)، ومنها أيضاً الإجماع الكوني على أن الإنسان لا يوجد إلا متعدداً متنوعاً.

ويخلص الكاتب من وراء هذه الدلالات إلى فكرة مفادها أن التسامح ليس “اختياراً” بل هو “قدر”، وأولى بنا أن نحسن استثمار هذا القدر حتى لا نضيع طريقنا إلى الغد الأفضل. ويقف التصور التعددي الذي تصدر عنه هذه الفكرة، في وجه تصور آخر توجِّهه الأيديولوجيات الضيقة، قائم على اعتبار الاختلاف والتنوع ظاهرة “مَرَضيَّة”، بمعنى أنها انحراف عن الأصل الصحيح الواحد الذي يربأ على “التحاور” و”التعارف” و”التقارب”، والذي باسمه يغدو التناحر والتفرقة أمراً مشروعاً، ويغدو الدين مطيَّة؛ لتحقيق أغراض فئوية أو جماعاتية.
فسيفساء المفهوم
يربط محمد وردي بين التصور التعددي وظروف العصر؛ إذ “لم يعد هناك كون واحد مفرد، فالحدث العلمي يكتشف الكون المتعدد، ولا ينفك عن سبره وتقصيه. نحن بإزاء تعدد الثقافات والديانات والأذواق والإبداعات. نحن بإزاء تعدد الفضاءات الكونية، والمواد والطاقات المعيشة مع الفراغ والمتوافقة معه. إن هذا التعدد كله يحتِّم علينا التعايش مع بعضنا البعض”(ص35). ومن ثمَّ يرتقي الكاتب بمفهوم التعايش من مجرد حاجة لا يمكن الاستغناء عنها إلى جعلها “فلسفة حياة”، تضفي على الوجود معنى؛ فهو يجزم بأن التعايش “لن يكون إلا بالأنسنة التي تداوي وتعالج من خلال الانشغال بحب الآخرين، والعناية البيئية بالأرض، وتربية الشباب، ومرافقة المرضى والمعوقين والشيوخ وكافة المحتاجين إلى المساعدة” (ص 35).
في نطاق حقيقة التعدد والاختلاف إذن، يغدو مفهوم التسامح عند محمد وردي -بما هو “احترام الاختلاف الندّي المتكافئ”- “مفتاحاً لحل جميع مشكلات الحضارة المعاصرة” (ص 53). ويغدو التسامح من منظور أخلاقي وديني “جوهر الفطرة السوية”، و”مختزلاً لضعف الإنسان وهشاشته، ومدى حاجته إلى التعاون مع الآخرين؛ من أجل تحقيق شرط وجوده البشري والثقافي” من منظور فلسفي (ص 54). إننا إزاء مراجعة متعددة الأوجه، كل وجه منها يبعث الحياة في “معنى”، هو قطعة مهمة في فسيفساء “المفهوم العملي” للتسامح، التي يسعى هذا الخطاب إلى تشكيلها.
اقرأ أيضًا: نهج التسامح الإماراتي يتوج في احتفاء العالم بيوم الأخوة الإنسانية
التسامح عابر للثقافات
اعتمد الخطاب؛ لتحقيق أهدافه، استثمار الجوانب النيِّرة في الماضي؛ فقد بيَّن محمد وردي، من خلال المادة التراثية الثرية التي عالجها، أن الثقافة العربية -ككل الثقافات العريقة- تُطرَح فيها إشكالية العلاقة بين التراث والحداثة؛ لأنها محكومة تاريخياً وحضارياً بمنطق الاستمرار، ولأن للسياق التاريخي الذي يحكم كل ثقافة دوراً، لا يمكن تجاهله، في رسم البدائل التحديثية، وفي إثبات قدرة تلك الثقافة على النجاح محلياً وكونياً.
يُضاف إلى ذلك أن ذاكرة الشعوب مشدودة إلى ماضيها ومقدساتها، وتسهم بدور كبير في تشكيل رؤاها الحاضرة. ذلك لأن “التاريخ ليس شيئاً مضى، فكتب التوراة والإنجيل والقرآن والفيدا الهندية والطاوية الصينية، وغيرها من كتب الديانات، تسكن البشر في الحاضر (ص 35). لكن إلى جانب التراث الديني يبرز التراث العقلي، المكرَّس للتسامح؛ في تواصل مع المفاهيم “العقلانية”، المؤسسة للتحديث الاجتماعي؛ سواء في السياق الغربي أو في السياق العربي، وهي مفاهيم تتخذ لها في كل مرحلة دلالات متناسبة مع مستوى تطور الفكر. وكان مبدأ الكاتب في ذلك أن “ثقافة التسامح عابرة للثقافات والمعتقدات، فلا هوية لهذه الثقافة سوى هويتها الإنسانية الكونية” (ص 77).
الأسبقية العربية
ولئن أقرّ الكاتب بأن الحضارة الأوروبية هي صاحبة الفضل في ما وصل إليه التسامح في الحضارة الراهنة، فقد أثبت الأسبقية التاريخية للحضارة العربية والإسلامية (ص 76). ومن مظاهر هذه الأسبقية القيم العربية القديمة، ممثلة في”الكرم أو الجود”؛ بما هما احتفاء “بالآخر” و”حلف الفضول”؛ بكل ما يعنيه من قيم المروءة وإغاثة الغريب، ومن انتقال نوعي من مستوى الأخوة القبلية إلى مستوى التآخي الإنساني.

وجاء القرآن الكريم ليعطي للتسامح ومنطق الحوار والتعارف بين البشر معنى جديداً، قائماً على أن التعدد إرادة وحكمة إلهيتان، وبالتالي فإن الدعوة إلى التعصب ورفض “الآخر” باسم الدين أو المذهب أو العرق، لا تستند إلى أساس “مفارق”. ثم، وباعتبار الدور المركزي للفلسفة في الارتقاء بظاهرة التعدد من تمثلاتها الضيقة إلى تمثُّل تجريدي يبحث في الثوابت الإنسانية؛ حيث قدَّم محمد وردي مواقف فذَّة من التسامح في الفكر الفلسفي العربي الإسلامي، والبعض منها يكاد ينطق بلسان العصر؛ لأن هناك قيماً عابرة “للتاريخ”، عابرة “للجغرافيا”؛ لأنها تخصّ “الإنسان”.
هذه عيِّنات حاول من خلالها الكاتب تأكيد العلاقة بين الوعي العربي المعاصر، وما يزخر به التراث العربي الإسلامي من دلالات قابلة للتطوير ولإقامة جسور التواصل معها. وفي المقابل نقد محمد وردي التراث المتزمت، بناءً على أنه “يستحيل التأسيس للحراك النقدي العقلاني، ويستحيل تشكيل الوعي العلمي قبل زحزحة سطوة الموروثات الدوغمائية”، كما قال (ص 263- 264). وعرض في فصل “محطات اللا تسامح” مظاهر من التشدد والتعصب؛ لاختيارات “الذات” في ترفُّعها عن الآخر المختلف، منها حادثة إجلاء اليهود عن المدينة والنصارى عن نجران، وما سماه بعض الفقهاء، “الشروط العمرية”، المميزة سلبياً لأهل الذمة، التي تلقفها بعضهم بكثير من التزيُّد والتضخيم. ومنها أيضاً ما قام به المأمون في محنة خلق القرآن من “واقعة أبرزت وجوه اللا تسامح المعرفي بجلاء فاقع”، كما يقول الكاتب. والمهم في هذا العرض أنه جاء في سياق احتمالي؛ فهو لا يورد هذه النماذج باعتبارها معطيات تاريخية ثابتة، وإنما باعتبارها قراءته الخاصة لهذه المعطيات؛ إن صحَّت. معنى ذلك أنه منفتح على التحاور وعلى الجدل في موضوع التعصُّب في الإسلام؛ بما هو ممارسة تاريخية محكومة بظروفها الثقافية والسياسية والاجتماعية. وربما تختلف مع الكاتب في تعيين حالات اللا تسامح، أو في تفسير أسبابها، لكنك لا يمكن أن تختلف معه في أنه لا بناء لقيمة التسامح اليوم ما لم يتم تفكيك الآليات التي أنتجت تلك الحالات.
وكذا فعل محمد وردي، فقد وقف عند هذا الموروث تفكيكاً لأسسه، وكشفاً للآليات التي يعمل وفقها العقل المنتج له، ولم يُدِر له ظهره في معالجته؛ لعوامل رفض التسامح في الثقافة العربية الإسلامية؛ لأن إدارة الظهر لهذا الموروث وعدم إخضاعه لقراءة نقدية يوفران أرضية سانحة لتوظيفه أيديولوجياً، ويعوقان فعل التحديث؛ بسبب القفز على واقعٍ أسهم هذا الموروث في تشكيله. ومن وراء ذلك، برهن محمد وردي على أن عدم اعتبار مقوم من مقومات الواقع -في مختلف أبعاده- يؤدِّي إلى الفشل في التأثير فيه وتطويره.
اقرأ أيضًا: الأمم المتحدة تقر الرابع من فبراير “يوماً عالمياً للأخوة الإنسانية”
الإجابة الصادمة
بعين الجرأة، في تعرية مواطن القصور، نقد محمد وردي وضع الفكر العربي المعاصر. ويصل بهذا النقد إلى التساؤل عن مدى انخراط هذا الفكر في الحداثة. وكانت إجابته صادمة: إن “الفكر العربي لم ينخرط في عملية الحداثة أصلاً”. هي إجابة صادمة؛ أولاً لأنها لا تعتبر بعض المكاسب الظاهرة التي حققها هذا الفكر في معالجته لقضايا تبدو مهمة؛ بل تنفذ إلى النظر في محدودية نجاحه، في تغيير آليات التفكير السائدة، وثانياً لأنها تبعث على إعادة التفكير في المسلَّمات التي قتلتها “عادة التعود بالشيء”؛ على حد عبارة الفيلسوف جيل دولوز Gilles Deleuze. وكم من مواقف ومن تصورات غير صائبة ما زالت ترعاها العادة!

ونقد الكاتب أيضاً عوامل الوهن في العقل العربي؛ وهي عوامل تتراوح بين وطأة النقل أو جمود المنقولات في الخطاب الإسلامي (ص 262)، وغياب الملكات النقدية في هذا العقل، القادرة وحدها على “تفكيك النمطيات الذهنية السائدة” (ص 206). ولم يكن دفاعه عن العقل ليدفعه إلى التهوين من شأن ملكات وقيم أخرى؛ بل وقف مطولاً عند مفاهيم فاعلة على غرار “ثقافة الجمال” و”ثقافة الحب” و”ثقافة الصداقة”.
نمط حياة
في دراسة مختلف هذه القضايا وغيرها مما لم يتَّسع السياق لذكره، ثبت محمد وردي على مقاربة تاريخية؛ بقدر ما تعتني بالبحث في “المعنى” تعتني بالسياق التاريخي الذي أنتج فيه ذلك المعنى. وأوضحُ مثال على هذا المنهج ما قدَّمه من “ملاحظات وخلاصات” في الفصل الخامس، الذي خصَّصه لقراءة نقدية لتاريخ التسامح في السياقَين الغربي والعربي، من حيث ظروف تشكُّل المفهوم، ومن حيث حدوده، فكرياً وعملياً؛ فقد حلَّل العوامل الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي حدَّت من تطوير مفهوم التسامح في السياق العربي، وحملته على أن يكون دعوة إلى التعايش في نطاق اللا تسامح، درءاً للفتنة وعواقب الاختلاف، رغم أن النصوص المؤسسة تحفز على تطوير المفهوم وإثرائه.
وتأكيداً لهذه المقاربة التاريخية، لم يترك معالجة قيمة التسامح رهينة “ماينبغيَّات” أخلاقية، موكولة إلى الفرد وإرادته؛ بل ربط المسألة بدور الدولة ومؤسساتها والمجتمع الأهلي (المدني) والأسرة، في تحويل هذه القيمة إلى مستوى “نمط حياة”. وينتهي محمد وردي إلى أهمية شرطَي الدولة والمواطنة في هذا الدور. يقول: “في هذا السياق، يغدو حضور الدولة القوي ضرورة؛ فهي الضامنة الوحيدة لرعاية التسامح وحمايته وتحويله إلى أنساقٍ ثقافية فاعلة في المجتمع” (ص 197).
اقرأ أيضًا: بيت العائلة الإبراهيمية.. التسامح هو الغاية
وفي كل ذلك يظل “الإنسان” -بوعيه وبضميره- موضوعاً لإعادة التشكيل، وفق ما تقتضيه استراتيجيات البناء المعنوي والمادي الذي ترومه الدولة. هذا ما أوضحه الكاتب في قوله: “علينا العودة إلى اعتبار الإنسان خامة طبيعية يمكن تشكيلها أو تفصيلها على قياس الحاجة ودرجة الوعي. وهذا هو المدخل الأهم والأجدى؛ لمقاربة موضوع تطوير خطاب التسامح” (ص 197).
إنها رؤية لأنجع الطرق المفضية إلى كسب الدولة لرهان التسامح لو عملت على إعادة تشكيل العقول، رؤية تذكِّرنا بقولة شهيرة للفيلسوف بيار بايل Pierre Bayle تؤكِّد دور الدولة في رعاية الحريات ومنع اللا تسامح: من واجب الدولة أن تسمح بكل شيء.. إلا بعدم التسامح..
♦باحثة تونسية