الواجهة الرئيسيةشؤون عربية

حضرموت.. كيف تعكس ملابس رمضان والعيد ثقافة وعلاقات البلاد؟

كيوبوست- منير بن وبر

تتنوع الملابس في حضرموت، واليمن عموماً، بشكل مدهش؛ تعكس بذلك تنوع المجتمع وعمقه التاريخي وذوقه الفني واختلاف بيئاته. كما تُفصح الملابس عن العادات والتقاليد، والمناسبات والطبقات الاجتماعية؛ فهناك ملابس خاصة بالمناسبات الدينية والأعياد ورمضان، وهناك ملابس يشيع استخدامها من قِبل طبقات اجتماعية أو أُسر معينة. كما أن لبعض أنواع الملابس دلالات مهمة مثل المكانة الاجتماعية.

والملابس، كما تقول فريا ستارك، التي زارت حضرموت في القرن الماضي، هي لغة عالمية مناسبة لفتح حوار مع الأشخاص من مختلف الثقافات. وبما أن من مميزات اللغة الانتقال بين الشعوب وتأثر الشعوب بلغات بعضها مع كثرة تواصلها، فإن الملابس في حضرموت قد تأثرت أيضاً بصِلات حضرموت بالشعوب الأخرى على مر التاريخ؛ مثل الهند وجنوب شرق آسيا.

اقرأ أيضاً: تريم وزبيد.. مدينتان روحيتان تضربان عميقاً في التاريخ الإسلامي

لكن تأثر الأزياء في حضرموت بأزياء مواطن الهجرات الحضرمية لا يلغي بأية حال من الأحوال أصالة الزي الحضرمي؛ فحضرموت عبر التاريخ اشتهرت بالنسيج والحياكة منذ ما قبل الميلاد. كان النسيج إحدى السلع المميزة في مملكة حضرموت، التي بلغت درجة عالية من الازدهار التجاري في القرن الثاني قبل الميلاد، وقد ورد النسيج في نقوش المسند، واشتهرت حضرموت بحياكة الثياب المزينة بالألوان والنقوش.[1]

ولعل من مفاخر أهل حضرموت في ما يتعلق بالمنسوجات هو ثوب النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، المصنوع في حضرموت، والمعروف باسم البردة النبوية، والذي كان يخرج به إلى الوفود؛ دلالةً على مكانة ذلك الثوب وفخامته. وقد تعرضت صناعة النسيج إلى الازدهار والاضمحلال خلال الفترات المتعاقبة تبعاً لأحوال البلاد السياسية والاقتصادية، ويُذكر أنه خلال القرن العاشر الهجري مثلاً كانت توجد آلاف من معامل حياكة الملابس بمدن وقرى حضرموت، حتى بلغت في الشحر ألف وثلاثمئة محواك، وفي إحدى حواري تريم وُجد أربعمئة محواك.[2] وكانت الملابس تُستلهك محلياً أو تصدر إلى الخارج؛ مثل اليمن والحجاز.

شاب من حضرموت يرتدي إزاراً حضرمياً (سباعية)- شيبا ترجر.. وسائل التواصل الاجتماعي

ويمكن ملاحظة أحد مظاهر مكانة الملابس لدى أهالي حضرموت من خلال ذكرها في العديد من الأمثال الشعبية؛ ومنها المثال القائل “كُلْ ما يعجبك والبس ما يعجب الناس”، وفيه نرى كيف يقدِّم الحضارمة الملابس على الطعام، وضرورة أن يلتزم الشخص بالذوق العام الذي يلقى استحسان المجتمع ولا يثير سخطهم واستنكارهم. وفي أحد الأمثال الأخرى يقول الحضارمة “خذ لك جديد ما في الدويل ملبس” أي اشترِ لك الجديد من الثياب؛ فالقديم (الدويل) غير لائق.

ويمكن أن تبلغ مكانة بعض الأزياء حد المبالغة؛ كما في المثل الحضرمي القائل “الرادي حشمة ولو تعرّيت”، والرادي هو رداء يُستخدم كعمامة للرأس أو غطاء للوجهة، أو يُستخدم لـ”الحبوة”؛ وهي طريقة جلوس كجلوس القرفصاء، لكن يُستخدم فيها “الرادي” للاحتباء بدلاً عن اليدَين، بحيث يسند الظهر ويشد الرجلَين.

اقرأ أيضاً: القحوم.. الشاب الذي أصر على إظهار اليمن بصورة مختلفة

ويكثر استخدام “الرادي” في حضرموت لأهميته؛ خصوصاً في أجواء حضرموت الحارة، حيث تكثر الرياح الرملية وينتشر الغبار في كثير من مواسم السنة؛ وهنا يصبح “الرادي” ضرورة لحماية الرأس والوجه، كما أنه ضرورة لجلسات السمر؛ حيث يطول الجلوس، وهو من زينة الرجل؛ لذلك يصف المثل السابق الرادي بأنه “حشمة” أي رزانة ووقار وأدب، وهو بذاته كفاية للرجل حتى وإن كان عارياً، وهو تعبير مجازي للمبالغة في وصف الأهمية. 

طريقة جلوس “الحبوة” في حضرموت باستخدام “الرادي”- وسائل التواصل الاجتماعي

وبما أن رمضان إحدى المناسبات المهمة، فإن للباس الرجال فيه طابعاً خاصاً؛ حيث يُكثر من لبس الأبيض من الثياب، وتصبح الأثواب أكثر شيوعاً، خصوصاً في صلاة التراويح. وفي مناطق وادي حضرموت؛ مثل تريم وسيئون غالباً ما يرتدي الرجال أيضاً العمامة أو “الرادي” والكوفية. وفي الماضي، كان العقال من أزياء الرجال أيضاً في حضرموت؛ إلا أنه لم يعد كذلك في الوقت الحالي.

وتتميز الأثواب عموماً بأنها فضفاضة، قليلة أو معدومة الزخرفة؛ لكن بدأ مؤخراً إدخال بعض الزخارف عليها وتنوعت ألوانها، وإن كان اللون الأبيض هو السائد. ولعل من بين الأسباب لانتشار الأبيض هو دلالته في الفكر الصوفي؛ إذ إن بياض الوجوه يوم القيامة دلالة على السرور والفوز، وهو دلالة على الاطمئنان الروحي والسكون والتواضع والوقار. كما أن جانبه الوظيفي يكمن في قدرته على تشتيت الضوء والحرارة؛ وهو ما يُحتاج إليه في مناخ حضرموت الحار.

اقرأ أيضاً: دار المصطفى.. قصة منبر إسلامي معتدل من حضرموت

كثير من أبناء حضرموت يلبسون الثوب طول أيام السنة، إلا أن أعدادهم تزداد في رمضان. أما اللباس الأكثر شيوعاً في أغلب الأوقات عموماً فهو القميص والإزار، وهما من لباس العرب منذ القِدم. وقد جلبت الهجرات الحضرمية إلى الهند وجنوب شرق آسيا إلى حضرموت الإزار المتميز في تلك المناطق أيضاً؛ وهو الصارون الإندونيسي (sarongs) والصارون الهندي (Lungi)، وكلاهما يتميز بالألوان الزاهية والزخارف والرسوم.

لا تزال كثير من محلات وتجار بيع الصوارين في حضرموت تستورد بضاعتها من الهند وإندونيسيا إلى اليوم. يمكن أن يصل سعر الصارون إلى مبالغ كبيرة، ومع ذلك، فهو بالنسبة إلى الكثير من الناس ضروري لرمضان، وأكثر ضرورة للعيد؛ لهذا نرى محلات بيع الصوارين مزدحمة خلال شهر رمضان، خصوصاً آخره. ويُعد الصارون أكثر شيوعاً لدى الكبار مقارنةً بالشباب الذين يفضلون لبسه في بعض المناسبات المهمة؛ مثل الزواج، لما له من دلالة على الهيبة والوقار.

بائع في إحدى أسواق حضرموت ويظهر عليه “الصارون” الإندونيسي- صحيفة “الأيام”

وإلى جانب الثوب والإزار ( الصارون أو الفوطة أو المعوز كما يطلق عليه في حضرموت) ينتشر أيضاً لبس الإزار المعروف باسم “السباعية”؛ وهو إزار محلي يُحاك في معامل منتشرة في حضرموت ومناطق أخرى. تتميز السباعية بمتانتها وزخارفها وألوانها التي تتناسب أكثر مع فئة الشباب الذين يشترونها للأعياد.    

يحرص أبناء حضرموت عموماً على لبس الوقور من الثياب في رمضان؛ خصوصاً في صلاة التراويح. ويُعد الثوب الأبيض من أكثر الملابس دلالة على الوقار والسكينة. وعلى الرغم من انتشار اللباس الغربي مثل البنطال والقميص؛ فإن أبناء حضرموت لا يزالون يحافظون على أصالة أزيائهم، ويحرصون على تطويرها ومواءمتها، ولا يزال هناك إقبال كبير آخذٌ في الزيادة على الأثواب والإزار المحلي (السباعية)؛ وهو ما يحافظ على ثقافة أهل حضرموت ويوفر فرص عمل في مجال الحياكة، هذه المهنة التي اشتهر بها الحضارمة منذ قرون. 

[1] موانئ حضرموت من القرن الثالث ق.م حتى بداية العصر الإسلامي. معمر العامري، ص 73.

[2] أدوار التاريخ الحضرمي، محمد الشاطري. ص267-268

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

منير بن وبر

باحث في العلاقات الدولية وشؤون اليمن والخليج

مقالات ذات صلة