الواجهة الرئيسيةشؤون دولية
حصار “لينينغراد”.. بطولة مدينة غيرت مسار الحرب

كيوبوست- مدى شلبك
كانت مدينة لينينغراد السوفييتية (سانت بطرسبرغ حالياً) هدفاً رئيسياً للزعيم النازي أدولف هتلر، خلال الحرب العالمية الثانية؛ فقد ضمَّت المدينة القاعدة الرئيسية لأسطول البلطيق الروسي، وكانت واحدة من أهم المراكز الصناعية بامتلاكها ستمئة مصنع، كما أنها معقل الثورة الاشتراكية، ولها صفة رمزية كونها تحمل اسم القائد لينين، وآخر عاصمة لروسيا القيصرية؛ لذلك أمر هتلر بحصار المدينة وسحقها، وبهذا السياق أشار المؤرخ الفرنسي بيير فالو: “كانت المدينة رمزاً في المقام الأول”.
ومع أن حصار المدينة دام نحو عامَين ونصف العام، ما يعادل 872 يوماً، كابد خلالها السكان الجوع والمرض والبرد القارس والموت، وراح ضحيته نحو مليون سوفييتي، إلا أن الحصار انتهى في 27 يناير 1943م، وهو يوم تحيي ذكراه روسيا سنوياً، وكان بمثابة مؤشر لاقتراب نهاية الحرب وخسارة دول المحور التي كانت متقدمة في الحرب قبل حصار المدينة.
اقرأ أيضاً: موسكو.. كم مرَّة حاولوا تغيير اسمها؟!
مجريات الحصار
ضمن مساعيها لاحتلال الاتحاد السوفييتي، أطلقت دول المحور عملية “بارباروسا”، وكانت تستهدف ثلاث مدن رئيسية؛ موسكو وكييف ولينينغراد، وبدأت في 21 يونيو 1941م، عندما اندفع نحو ثلاثة ملايين جندي ألماني إلى الحدود السوفييتية، وتوزعوا بحيث هاجمت العناصر المركزية والجنوبية موسكو وأوكرانيا، واتجه جيش فيرماخت الشمالي جنوب لينينغراد، ولإحكام القبضة على المدينة حاصرتها القوات الفنلندية من الشمال، كما ضمت جيوش المحور جنود شعبة أزول الإسبانية. بينما باشر سكان لينينغراد بناء المتاريس والتحصينات المضادة للدبابات.

ومع انطلاق العملية، هزمت القوات الألمانية الجيش الأحمر بعدة معارك وكلفته خسائر فادحة، واستولت على بلدة “مغا”؛ ما مكنها من السيطرة على خط السكة الحديد الذي يربط المدينة ببقية الاتحاد السوفييتي، وبدأ الحصار فعلياً مع سقوط بلدة شليسلبورغ على ضفاف نهر نيفا في 8 سبتمبر 1941م.
وتمثلت خطة هتلر في سحق المدينة عبر قصفها جواً وبالمدفعية دون دخولها، والقضاء على سكانها، الذين كان يبلغ عددهم أكثر من مليونَين ونصف المليون، من خلال قطع الإمدادات عنهم حتى يموتوا جوعاً، كما شددت أوامره على عدم قبول أية محاولة للتفاوض مع السكان.
اقرأ أيضاً: سانت بطرسبرغ.. مدينة الثورات والحروب ودرة السياحة الروسية
ومع أن المدينة كانت مطوقة من الجنوب والشمال، إلا أن منفذاً واحداً ساعدها على الصمود؛ بحيرة “لادوغا”، وأطلق عليها لاحقاً “طريق الحياة”؛ فقد كانت تمد المدينة بقدر قليل من الغذاء، ولم يطوقها الألمان؛ لأنهم لم يستطيعوا عبور نهر نيفا، وبالتالي فشلوا في الالتقاء بالفنلنديين، فبقيت البحيرة مفتوحة نسبياً.
الموت جوعاً
نفَّذت القوات الجوية الألمانية غارات كثيفة خلال الأسابيع الأولى من الحصار؛ ما أودى بحياة الآلاف، لكن لم تكن القذائف هي السبب الأول للموت إنما الجوع والبرد. فعلى الرغم من شح مخزون الغذاء؛ فإن القذائف النازية استهدفت مخازن الطعام، ما أنذر بقدوم المجاعة.
بدأت بوادر المجاعة تلوح في الأفق مع بداية شتاء 1941م- 1942م، فقد أصبحت حصة الفرد من الطعام تعادل 125 جراماً من الخبز يومياً، لقد جاع الناس حد الجنون وأكلوا حيواناتهم الأليفة والفئران ومستحضرات التجميل، كما كشطوا ورق الجدران وأكلوه، حتى وصل بهم الأمر إلى أكل بعضهم البعض، فقد اعتقلت الشرطة خلال الحصار 2000 شخص من أكلة لحوم البشر.

وتزامنت المجاعة مع شتاء كان من أبرد فصول الشتاء التي مرت على لينينغراد؛ فقد وصلت درجة الحرارة إلى 40 تحت الصفر، ما دفع الناس إلى إحراق كل شيء للحصول على الدفء كالأثاث والكتب. ولتخفيف المأساة أجلى السوفييت نحو 500 ألف من الأطفال وكبار السن عبر بحيرة لادوجا، بينما مات أكثر من 600 ألف مدني جوعاً خلال الحصار، وبهذا السياق كتبت إيلينا سكريابينا، كاتبة يوميات من لينينغراد: “من السهل جداً أن تموت الآن”، وأضافت: “تبدأ بفقدان الاهتمام بكل شيء، ثم تستلقي في السرير ولا تنهض مرة أخرى أبداً”.
مظاهر المقاومة
مع انتهاء الشتاء الذي عُرف باسم “شتاء الجوع” عام 1942م، ودخول فصل الربيع، أراد شعب لينينغراد الهزيل مواصلة العيش، فشرع الناجون من المجاعة في حملة تنظيف وحفر مقابر جماعية شاسعة لدفن الموتى، والحد من مخاطر انتشار الأوبئة.

وظلت المكتبات والمسارح تعمل لكن بوتيرة أقل؛ حتى إن الملحن “دميتري شوستاكوفيتش” ألَّف سمفونيته السابعة “لينينغراد”، خلال الأيام الأولى للحصار، وعزفتها أوركسترا قاعة فيلهارمونيا الكبرى في أغسطس 1942م.

بينما ظهرت أولى بوادر نهاية الحصار في يناير 1943م؛ فقد نفَّذت القوات السوفييتية هجمات ضد النازيين، مكنتها من السيطرة على جسر بري كان بمثابة خط حياة جديد بالنسبة إلى لينينغراد،؛ نقل عبره أطنان من المواد الغذائية والإمدادات، كما حررت مدينة شليسلبورغ، وأُعيد تفعيل السكك الحديدية.
نهاية الحصار
واصل الجيش الأحمر السوفييتي تقدمه؛ ففي أوائل عام 1944م نفَّذ هجوم “لينينغراد- نوفوغورود”، مخترقاً صفوف القوات الألمانية؛ ما أجبرها على التراجع، في حين انفك حصار لينينغراد تماماً في 27 يناير 1944م، فخرج الناس إلى الشوارع محتفلين.
وأنذر انتهاء حصار لينينغراد باقتراب نهاية الحرب، وحسم نتيجتها لصالح دول الحلفاء على حساب دول المحور، وتحديداً أن الاتحاد السوفييتي كان يحرز تقدماً آنذاك على جبهة أخرى في معركة ستالينغراد، وانتصر بها في فبراير من نفس العام، وفي وقت سابق كانت القوات البريطانية قد قضت على القوات الألمانية في العلمين في مصر.

وتقديراً لصمود المدينة؛ منحتها الحكومة السوفييتية وسام لينين في عام 1945م، واحتفت الصحافة ببطولتها، وسرعان ما بدأ الاحتفاء بجهود المدينة بالتلاشي، ويفسر البعض محاولة طمس صمود سكان لينينغراد، إلى رغبة الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، في طرح نفسه باعتباره السبب الوحيد للنصر.
اقرأ أيضاً: بوتين يكتب: الدروس الحقيقية للذكرى الخامسة والسبعين للحرب العالمية الثانية
بينما تم إنعاش ذاكرة لينينغراد مجدداً خلال الستينيات، فقد مُنحت المدينة لقب بطل من قِبل الاتحاد السوفييتي في عام 1965م، كما أُعيد تنظيم المقابر الجماعية، ودشِّن نصب تذكاري لإحياء ذكرى ضحايا الحصار في عام 1975م، ولاحقاً بدأت الشهادات الفردية بالظهور؛ ما أكسب المأساة طابعاً إنسانياً وبطولياً قلّ نظيره.