الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةحسن حنفيمقالات

حسن حنفي.. المفكر المثير للجدل!

رحل عن 86 عاما من الإنتاج الفكري والفلسفي الموسوعي

إيهاب الملاح

“كان واحداً من رواد الاستنارة والعقلانية والشجاعة الفكرية وسط أجواء غير مواتية”…

– 1 –

يمكن القول إنه برحيل الأستاذ والمفكر المصري المعروف الدكتور حسن حنفي (1935-2021) الذي وافته المنية عصر أمس؛ الخميس، قد أسدل الستار على آخر صوت فلسفي أصيل وحقيقي ينتمي إلى دوحة أساتذة الفكر الفلسفي الكبار في ثقافتنا العربية الحديثة؛ تلك الدوحة التي كانت تضم أسماء بقيمة ومكانة الشيخ مصطفى عبد الرازق، ومحمد عبد الهادي أبو ريدة، وعبد الرحمن بدوي، وتوفيق الطويل، وزكي نجيب محمود، وأحمد فؤاد الأهواني، وعلي سامي النشار، وفؤاد زكريا من مصر.. وطيب تيزيني (سوريا)، وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري (المغرب)، ومحمد أركون (الجزائر)، وغيرهم من كبار الأسماء والأعلام في الدرس الفلسفي والفكري العربي المعاصر.

كان واحداً من ألمع وأشهر وأهم أساتذة الفلسفة والفكر المعاصر في الجامعات المصرية والعربية، مارس التدريس في مصر وخارجها، وتتلمذ على يديه المئات بل عشرات المئات في كليات الآداب بأقسام الفلسفة، وغيرها بأقسام العلوم الإنسانية عموماً؛ وحقق شهرة كبيرة في أوساط الطلاب والباحثين والأساتذة في دول جنوب شرق آسيا، كما حظي بشهرة واسعة أيضاً في المشرق والمغرب العربي. وفي أوروبا وأمريكا واليابان أيضاً.

اقرأ أيضًا: حسن حنفي ومشروعه الكبير عن “التراث والتجديد”

الراحل حسن حنفي من مواليد العام 1935، وتخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة (قسم الفلسفة) عام 1956، وتتلمذ على يد أشهر أساتذتها وأعلام الفكر الفلسفي في ذلك الوقت؛ ثم سافر إلى فرنسا ليكمل بها دراساته العليا،

وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون عام 1965، ثم عاد من بعثته ليمارس التدريس وحاز شهرة فائقة في مصر والعالم العربي وكان معروفا في جل الدوائر العلمية والفكرية والفلسفية خارج العالم العربي أيضا، وترأس قسم الفلسفة بكلية الآداب، ودرس وحاضر في العديد من الجامعات المصرية والعربية، وعمل أستاذا زائرا لسنوات في جامعات عدة في المغرب وتونس والجزائر وألمانيا واليابان والولايات المتحدة.

عمل مستشارًا علميًا في جامعة الأمم المتحدة بطوكيو (1985-1987)، كما عمل نائبا لرئيس الجمعية الفلسفية العربية، وأسس الجمعية المصرية الفلسفية وتدرج من السكرتير العام لها حتى ترأسها وظل رئيسا لها حتى وفاته.

الدكتور حسن حنفي

– 2 –

امتدت رحلة حسن حنفي الفكرية والثقافية منذ نشر أول كتابٍ له في ستينيات القرن الماضي وحتى السنوات الأخيرة من حياته التي أقعده فيها المرض والشيخوخة. وعلى مدار هذه الرحلة، رَفَد حسن حنفي المكتبة العربية بعشرات الكتب والمؤلفات والتحقيقات والترجمات التي تشكل في مجموعها مكتبة فلسفية وفكرية ضخمة مترامية الأطراف.

كان غزيرَ الإنتاج مسهبًا في شرح أفكاره وتصوراته؛ ترك عشرات المؤلفات الفلسفية، في عرض المذاهب والتيارات والأفكار الحديثة، وبالأخص في مناهج التأويل الحديثة، ومذهب “الظاهراتية” وتأويلها، وتنوعت الاتجاهات الفكرية والنظرية التي عالجها، لتشمل إلى جانب قراءته المسهبة للتراث العربي ونقده، قراءة التراث الأوروبي، وبعض هذه الكتب لعب أدواراً تنويرية عظيمة بالتعريف وإلقاء الأضواء الكاشفة على أبرز أعلام الفكر الفلسفي الغربي، والشرقي، وفي مصر والعالم العربي، فضلًا عن إسهاماته البحثية التي غطَّت أغلب إن لم يكن كل تيارات ومذاهب وموضوعات الفلسفة؛ قديمًا وحديثًا، وفي الفكر الوسيط والحديث والمعاصر.

اقرأ أيضًا: من التحول إلى الإلحاد.. قراءة لفكر أدونيس في الثابت والمتحوِّل

وانشغل حسن حنفي لعقودٍ طويلة متصلة، وبدأب محموم، في تركيب وتصنيف وبناء مشروع فكري وفلسفي ضخم؛ مركب ومتعدد المستويات، وفي دوائر ومسارات متعددة ومتداخلة.

ومنذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، وحتى منتصف الثمانينيات، راد اتجاهًا فكرياً “توفيقيا” غازل فيه التيارات الدينية الإسلاموية، عُرف باليسار الإسلامي؛ اتكأ فيه على محاولة الجمع بين أدبيات الفكر اليساري العام، وعلوم التراث الديني والفكر الإسلامي، لكنها لم تنل قبولاً لا بين الإسلاميين ولا غيرهم! وإن التف حوله بعض المثقفين المصريين والعرب.

وفكرة “اليسار الإسلامي”، كما يمكن استخلاصها من كتابات حسن حنفي هي محاولة البحث عن الجوانب العقلية والراديكالية في الفكر الإسلامي، إنها تنويعة أخرى من الاجتهادات التي وصفت بأنها “توفيقية”، تتصور أنه يمكن الجمع أو التركيب بين مفاهيم “الحداثة” و”التراث”.

غلاف كتاب “التراث والتجديد”

– 3 –

وفي مشواره البحثي الطويل عالج حنفي العديد من القضايا والإشكاليات التي لا يمكن لأي مثقف مهموم بواقعه وواقع أمته أن يتغافل عنها أو يتناساها؛ وهي ببساطة تلك الأسئلة الملحة التي بدأ المثقف العربي المسلم في طرحها مع بدايات عصر النهضة الحديثة، ولا تزال مطروحة حتى الآن.

وهكذا، ومنذ مطالع الثمانينيات تقريباً وحتى وفاته؛ أي ما يقرب من أربعة عقود كاملة، عكف على إنجاز مشروعه الكبير الضخم «التراث والتجديد» (القاهرة 1980) بحلقاته المتعددة و«من العقيدة إلى الثورة» في خمسة أجزاء (القاهرة 1988)، و«الدين والثورة في مصر» في ثمانية أجزاء (1989)، و«من النقل إلى الإبداع» في ثلاثة أجزاء (1999)، وأعيد نشره في السنوات القليلة الماضية بعنوان آخر هو «من النقل إلى العقل».

غلاف كتاب “من النقل إلى الإبداع”

حيث قرر حنفي الاشتباك المباشر؛ علمياً وفكرياً وفلسفياً، مع التراث ونقده وتجديده في آن؛ وإعادة بناء وطرح المفاهيم في سياق رؤيةٍ عصرية مغايرة تعيد النظر في منظومات الفكر والتفكير القديمة وتؤسس لغيرها، واتجه، كما يقول غير باحث لمشروعه “اتجه إلى العموميات الفكرية في مشروعه الضخم (التراث والتجديد)، ودور القيم في الثقافة العربية، وعلاقة الدين بالتراث، وما قيل عن قراءته لتاريخ وعلوم القرآن في الثقافة العربية”.

– 4 –

فضلاً على مشروعاته الفلسفية الكبرى والنقدية العملاقة المعروفة التي طغَت شهرتها على ما عداها من كتبه الأخرى، فإن كثيراً من هذه الكتب “الأخرى” يستحق التنويه والوقوف عندها ملياً لما قدمته من مادة غزيرة وفي إطار منهجي نقدي أصيل عن قضايا وموضوعات وشخصيات، أو بعبارة أخرى هي متون معاصرة لإشكاليات قديمة وحديثة معا؛ تستغرقها التفاصيل والجزئيات.

ثلاثية “من النقل إلى الصقل”

وكذلك معالجاته العميقة والقيمة لتقاطعات الفكر السياسي والفلسفي، ومتابعاته الثقافية والفكرية لهموم الفكر والوطن والسياسة، والواقع العربي والإسلامي الراهن، التي لم تتوقف منذ بدأ الكتابة والإنتاج العلمي في ستينيات القرن الماضي وحتى وفاته. من أهم ما قدَّم حسن حنفي في هذا الإطار كتبه المهمة:

«دراسات إسلامية» (القاهرة 1982)، «دراسات فلسفية ـ جزءان» (القاهرة 1987)، «حوار المشرق والمغرب» (القاهرة 1990)، «هموم الفكر والوطن ـ جزءان» (الإسكندرية 1997)، «الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي» (القاهرة 1998)، و«حوار الأجيال» (القاهرة 1998)، و«الواقع العربي الراهن» (القاهرة 2012)، وغيرها.

اقرأ أيضًا: إلى من يهمه الأمر.. دراسة الفلسفة ليست ترفاً!

– 5 –

«مقدمة في علم الاستغراب»

ويمكن الوقوف هنا أمام نموذج من فكر وتصورات حسن حنفي في العلاقة مع الغرب فكرياً وثقافياً؛ وذلك من خلال كتابه المثير للجدل «مقدمة في علم الاستغراب» الذي صدر للمرة الأولى عام 1991، وظلّ لسنوات محل نقاش وجدل وانشغل به المفكرون والمثقفون في عموم عالمنا العربي والإسلامي ربما حتى اللحظة الراهنة!

كان مفهوم «الاستغراب» الذي صاغه حسن حنفي، هو الموازي الفكري لتصورات «اليسار الإسلامي» الذي دشنه حنفي، عن العلاقة بالآخر الأجنبي، وهي علاقة انطوت على معنى الرفض الذي كان نوعًا من الثأر للهزيمة المتكررة في مواجهة الآخر الأجنبي، وآلية دفاعية في مواجهة حضارته الغازية أو المغوية.

غلاف كتاب “مقدمة في علم الاستغراب”

يقدم حسن حنفي محاولة دؤوب لوضع الفكر الأوروبي في سياقه الخاص، ونفي الوهم القائل بأن تراث أوروبا هو التراث الإنساني، وأن أوروبا هي “المتن” وبقية الثقافات هي “الهامش” حيث يسعى الكتاب “لبيان الارتباط الموضوعي بين الفكر الأوروبي وموقعه الجغرافي، في مقابل كل فكر إنساني آخر هو ارتباط بنواح أخري من العالم”، وقد أكد حنفي في صرخته الفكرية هذه على ضرورة أن نخضع الغرب للدراسة من منظور “الذات”، مثلما أخضعنا الغربُ للدراسة من منظوره هو، باعتباره يمثل “الآخر”؛ كما يقول بعض دارسيه.

بإيجاز يمكن القول في النهاية إن الدعوة إلى الاستغراب قد تحورت من المواجهة والعداء والرفض إلى تكامل هادئ مع الاستشراق، بحيث يتلاقى ويتحقق تراثهما عن طريق المثاقفة الملهمة بين الذات والآخر.

اقرأ أيضًا: يوسف الصديق: لم نستطع رفع النص القرآني إلى مجال الفكر والفلسفة

– 6 –

بالتأكيد كان د.حسن حنفي مثقفًا وأستاذًا كبيرًا وصاحب مؤلفات وترجمات كثيرة مهمة، وله سلاسل فكرية ضخمة من الأعمال العميقة التي تمثل مشروعاً متكاملاً، في تجديد الفكر ونقد التراث، مهما كان الرأي فيها والاختلاف حولها والجدل الذي أثارته، ستظل شاهدًا على المجهود الضخم الذي بُذل فيها، وفي تأليفها وجمعها.

وقد كان من المعدودين الموهوبين في الحديث والارتجال وشرح الأفكار الصعبة وتجلية المفاهيم والمصطلحات الفلسفية الغامضة والمعقدة؛ وذلك كله بلغة عربية بليغة ورائقة ولطالما أثنى عليه المتخصصون في الآداب واللغة العربية وتمرسه بالأساليب اللغوية العربية القديمة والحديثة على السواء.

في النهاية، يبقى من تراث حسن حنفي الكثير من الطروحات والمشروعات التي ستمثل انشغالاً فكرياً أصيلاً، واهتماماً نقدياً للأجيال الحالية، وفي المستقبل، ولعقودٍ كثيرة قادمة.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات