الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات

حسن حنفي.. الرحيل المؤجل

شايع الوقيان

في خاتمة كتابه (مقدمة في علم الاستغراب ١٩٩١) يقول حسن حنفي، في فصل بعنوان “النقد الذاتي وحدود العمر”: “الوقت يمر، والعمر يقصر، والأجل قادم”. قال ذلك لأنه أدرك أن مشروعه الفكري ضخم جداً بحيث إنه قد لا يتمكن من إنهائه. هذا المشروع أو “هذا العمل الموسوعي المركب” كما يصفه علي حرب، هو “التراث والتجديد”. ويذكر هذا الأخير أن حنفي يشكو من قصر العمر منذ كتابه “التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم”، أي منذ ١٩٨٠ (انظر: علي حرب، نقد النص). ولكن الأجل امتد بحنفي أربعين عاماً بعد ذلك، وأنجز فيها الكثيرَ مما كان يخطط له.

في عام ٢٠١٨ كتب قائلاً: “الآن انتهى مشروعي وقاربت حياتي على الانتهاء” (انظر كتابه: ذكريات ١٩٣٥- ٢٠١٨). لكن الأجل منحه أيضاً ثلاث سنوات أخرى، ولم يتوقف حنفي أثناءها عن الكتابة والتفكير والعطاء.

اقرأ أيضًا: حسن حنفي.. المفكر المثير للجدل!

وُلِد حسن حنفي في القاهرة سنة ١٩٣٥ ومات قبل أيام (٢١ أكتوبر ٢٠٢١). وحنفي ليس مفكراً فقط بل فيلسوف وأيديولوجي صاحب مشروع حضاري متشعب يسميه (التراث والتجديد). والتراث بالنسبة إلى حنفي هو ما وصلنا من الماضي داخل الحضارة السائدة، وبعبارة أدق: الماضي الذي لا يزال يعيش في الحاضر. أما التجديد فهو إعادة فهم وتأويل هذا التراث بناء على معطيات الحاضر واحتياجات أبنائه وتطلعاتهم المستقبلية. ومن ثم يتضح أن حنفي يمسك العصا من الوسط كما يُقال، فلا هو من أنصار الأصالة ولا من رواد المعاصرة، بل يجمعهما بشكل عبقري وناضج بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه. ومن غرائب التوفيق التي ظهر لنا بها هذا المفكر هو الجمع بين اليسار والإسلام تحت مصطلح “اليسار الإسلامي”. ومما يبدو فكل شيء ليس “أوروبياً رأسمالياً” يمكن أن يأتلف، “فعند الله تجتمع الخصوم”. فلا يمنع أن يلتقي الإسلام بالماركسية ما دام العدو واحداً.

غلاف كتاب “التراث والتجديد”

تعلَّم حنفي في مصر ثم حاز على الدكتوراه في جامعة السوربون تحت إشراف المستشرق الفرنسي روبرت برونشفيك. وكانت رسالته بعنوان: (مناهج التفسير: محاولة في علم أصول الفقه). ولعلها كانت الشرارة الأولى للمشروع الذي سيعمل عليه طوال عمره. ويصور حنفي المشروع بلغة عسكرية إذا جاز التعبير. فهو يفكر (= يقاتل) على ثلاث جبهات: الجبهة الأولى هي الموقف من التراث القديم، والثانية الموقف من التراث الغربي، والثالثة الموقف من الواقع المعاصر للعرب ولشعوب العالم الثالث. وفي كل جبهة نجد أن فيلسوفنا يستعمل لغة نقدية حادة ومثيرة للجدل. فهو ينتقد العلوم التراثية القديمة ويحاول إعادة بنائها بشكل عصري ومنهجي ويربط الحوادث القديمة بأطرها التاريخية أولاً ثم يعيد تأويلها لتتلاءم مع العصر. ويدعو كذلك إلى تحويل علم الكلام والعقيدة ليكون علماً للإنسان “إنثروبولوجيا”. يقول في كتابه (التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم): “العصر الحاضر هو عصر العلوم الإنسانية، وبالتالي فإن مهمة (مشروع) التراث والتجديد هي تحويل العلوم العقلية القديمة إلى علوم إنسانية، وأن يصبح الكلام والفلسفة والتصوف والأصول، كل منها، علماً إنسانياً”؛ فموضوعات علوم العقيدة القديمة صارت اليوم داخلة في سياق العلوم الحديثة، فالإمامة يدرسها علم السياسة، ومن ثم فيجب عدم قصرها على علماء الدين اليوم. وإشكالية العقل والنقل تدرسها نظرية المعرفة ومناهج البحث، وخلق الأفعال يدرسها علم النفس، والتوحيد يدرسها علم النفس الاجتماعي.. إلخ (راجع التراث والتجديد، ص ١٧٣-١٧٥، الطبعة الرابعة ١٩٩٢).

وعلى هذا المنوال يمارس حنفي في دراسته للتراث القديم منهجية تاريخانية استلهمها من اسبينوزا؛ خصوصاً أنه نفسه ترجم رسالة اسبينوزا الشهيرة (رسالة في اللاهوت والسياسة). كما استلهم حنفي مفكرين كباراً أيضاً كابن رشد ومحمد عبده والأفغاني في “عقلنة التراث”. أما في دراسته للظواهر نفسها فيلجأ إلى المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي) الذي وضع هوسرل أصوله الأولى. فحنفي يدرس الوحي مثلاً بوصفه ظاهرة تتشكل عبر الوعي الإيماني للمسلمين وانعكاسات هذا الوعي على السلوك والعمل، وبالتالي على الفعل الحضاري.

اقرأ أيضًا: حسن حنفي ومشروعه الكبير عن “التراث والتجديد”

أما موقفه من التراث الغربي فيعبر عنه علمٌ جديد اخترعه حنفي نفسه، رغم أنه تلمس له أصولاً في الماضي، ويسميه علم الاستغراب (Occidentalism) كمقابل لعلم الاستشراق وكمواجهة نقدية للتغريب. فإذا كان الغرب (أو الآخر) يجعل الشرق (أو الأنا) موضوعاً لدراسته، فعلم الاستغراب يجعل الآخر الغربي موضوعاً للدرس وليس مصدراً للمعرفة كما هي الحال؛ وهو جزء لا يتجزأ من المشروع، ففهم الآخر مكون ضروري لفهم الأنا.

أما موقفه من الواقع فيعبر عنه علم التفسير (الهرمنيوطيقا) وفيه يحاول المشروع إيجاد الصلة بين النص المقدس والواقع وإعادة تأويل النص ليكون أقرب للواقع الإنساني في التاريخ الذي يعيشه، فيكون النص بذلك في خدمة الواقع ورقيه واستنباط إمكاناته. ويذكر حنفي أنه تأثر في ذلك بمناهج التفسير التاريخي للنصوص المقدسة (راجع مقدمة في علم الاستغراب، طبعة ١٩٩١، ص ٨٦).

غلاف كتاب “مقدمة في علم الاستغراب”

حسن حنفي كاتب موسوعي بشكل مثير للإعجاب؛ قرأ المتون القديمة شرقية وغربية، ثم المنتج الفكري الحديث غربي وعربي. وخرج من كل ذلك بآراء بعضها مقبول ومعقول، وبعضها غريب ومربك. ولا يملك المرء إلا أن يحترم جهوده العظيمة حتى لو اختلف معه؛ لكن لنعد قليلاً إلى علم الاستغراب. هذا العلم كما يذكر حنفي له أصول قديمة، ويشير البازعي والرويلي في مادة الاستغراب (كتاب: دليل الناقد الأدبي) إلى أن علم الاستغراب يدخل ضمن أدبيات ما يُسمى بالدراسات ما بعد الاستعمارية، وهو حقل علمي واسع، أبرز مفكريه إدوارد سعيد وأنور عبدالملك وفرانز فانون وهومي بابا.. وغيرهم؛ بل إنهما يريان أن ما يكتبه إدوارد سعيد وعبدالملك وعزيز العظمة (في كتابه: العرب والبرابرة) ونور الدين أفايه (في كتابه: الغرب المتخيل) يدخل ضمن إطار علم الاستغراب. وحنفي نفسه أشار إلى سعيد وعبدالملك؛ ولكن بشكل موجز وسريع.

يرى حنفي أن مهمة علم الاستغراب “القضاءُ على المركزية الغربية” وأنه ضرب من التحرر الفكري من الاستعمار الغربي شبيه بالتحرر السياسي والعسكري الذي شهده “العالم الثالث”. إنه، بتعبير أبسط، تحرر من “إرهاب” الوعي الأوروبي (انظر: مقدمة في علم الاستغراب، ص ٣٩ و٥٠ مثلاً).

اقرأ أيضًا: إلى من يهمه الأمر.. دراسة الفلسفة ليست ترفاً!

هذا يعيدنا إلى المعجم العسكري الذي يستعمله حنفي في كتابه؛ فالمشروع يعد من الأساس مشروعاً حضارياً له أبعاد سياسية وأيديولوجية، وصاحب المشروع يعمل على جبهات ثلاث. وفي كل جبهة يسل سيفَ النقد والتحليل بشكل لا يرحم؛ ولكنه “يثخن” في قتال الغرب الأوروبي (الجبهة الثانية) وينظر إلى فلاسفة الغرب وعلمائه على أنهم أشبه بحصان طروادة الذي قدمه لنا الاستعمار الغربي. ورغم أن حنفي يصر على عدم رفض الغرب وكأنه “سلفي”؛ فإن لغته الحادة التي أشعل جذوتَها ميلُه اليساري لا تقل رفضاً للغرب عن أي سلفي ماركسي أو إسلاموي.

كان حسن حنفي واعياً بحدته وشدة لغته. وكان يرد على مَن يدَّعي أنه “أيديولوجي” وعاطفي وصارخ بقوله إن علم الاستغراب ليس علماً نظرياً؛ بل هو نظرية تعالج جدلية الأنا والآخر، وأنه يهدف إلى تحرر الأنا؛ ولذا فمن الطبيعي أن يعلو الصوت حتى ليكاد يصل إلى حد الصراخ. فـ”أنا -كما يقول- مستعمَر منذ أمد طويل، ومهزوم مرات عدة في جيلي” (ص ٩٤).

ثلاثية “من النقل إلى الصقل”

مما ينتقص من الصرامة المنهجية لحسن حنفي -عدا مصطلحاته الهجومية- اتكاؤه على تحليلات غير علمية؛ فهو يرى أن مسار الحضارة العربية- الإسلامية (مسار الأنا) يمر عبر تمفصل زمني مقرر سلفاً: فالسبعة قرون الأولى التي امتدت من ظهور الإسلام إلى ابن خلدون، هي عصر الازدهار، تليها سبعة قرون “عجاف” تمتد مما يُسمى بعصور الانحطاط حتى قرننا الهجري الراهن؛ ولكنَّ سبعاً “سماناً” قادمةً تبشر بعودة العصر الذهبي للعرب والمسلمين. ويقابلها سبعة سمان وعجاف لدى الغرب (مسار الآخر). فعصر آباء الكنيسة ازدهار وتأسيس، ثم عصر القرون الوسطى السبعة أو عصور الظلام، ثم عصر النهضة والتنوير الذي ابتدأ في القرن الرابع عشر وينتهي في القرن الحادي والعشرين!

فهذه سبعة تقابلها سبعة.. فهل هذا منهج علمي أم “كهانة” كما يتساءل علي حرب؟

مَن يقرأ علم الاستغراب يجد أن حسن حنفي بالفعل حادَ عَنِ المنهجية الصارمة، وأعتقد أن سبب ذلك هو انخراطه غير المحمود في السجال السياسي والأيديولوجي الذي خرج منه بمذهب خديج اسمه اليسار الإسلامي مات أثناء الولادة. ولو أنه اشتغل كعالم وفيلسوف محايد لصار إنتاجه الفكري أكثر تماسكاً وأطول بقاء. فها هو ذا كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد، لا يزال مقروءاً؛ بل إنه جعل كلمة “مستشرق” عيباً يتبرأ منه كل باحث، فسعيد لم ينطلق من هموم أيديولوجية؛ بل من هم معرفي محض.

♦ كاتب سعودي

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

شايع الوقيان

كاتب سعودي باحث في الفلسفة

مقالات ذات صلة