الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
جولة في السوق الكبير بطهران
الحرب الاقتصادية على إيران أشد وقعًا من الحرب التقليدية

ترجمات- كيوبوست
جورج مالبرينو
“أيها الأوروبيون إننا نمُدّ أيادينا إليكم، فإذا تجاهلتمونا فنحن أيضًا سنتجاهلكم”. بهذه الكلمات الحادة وبحركات جسدية متوترة، عبَّر مهدي، شاب إيراني يُشرف على محل أقمشة في “بازار طهران”، عن موقفه من تطور الأزمة بين إيران والولايات المتحدة، بشأن الاتفاق النووي الذي تم توقيعه سنة 2015 بين إيران ومجموعة 5 زائد 1. فوَفقًا لهذا الشاب الإيراني، إعلان الحكومة الإيرانية يوم الأحد السابع من يوليو عن عزمها الترفيع من كمية اليورانيوم المخصَّب، هو أمرٌ متوقع. في حين كان زميله في متجر مجاور يُتابع آخر الأخبار الواردة حول هذا الملف الساخن، واصل مهدي تصريحاته الغاضبة: “الأوروبيون لم يفعلوا شيئًا في مجابهة غطرسة الرئيس الأمريكي ترامب، الذي قام بتمزيق هذا الاتفاق. إنهم (الأوروبيون) يخادعوننا”.
ككل يوم أحد صباحًا، تعُج أروقة “بازار طهران” العريقة بآلاف المتسوقين؛ إنه مكان مُمَيَّز في العاصمة الإيرانية، مثله مثل الحي التجاري الراقي الواقع في شمال المدينة؛ فكلاهما يعتبر رمزًا للحياة الاجتماعية النشطة في طهران. فالمحلات التجارية تتفنن في تقديم بضائعها المتنوعة إلى الزوار، وكأن طهران لا تريد إظهار أي شعور بالارتباك أو الخوف، وذلك رغم مرور ثلاثة أسابيع على أحداث خطيرة كادت تؤدي إلى مواجهة مسلحة بين الولايات المتحدة وإيران؛ إثر عمليات تخريب طالت سفنًا أجنبية بالقرب من مضيق هرمز، والتي وجِّهت أصابع الاتهام فيها صراحةً إلى طهران، وكذلك إسقاط الحرس الثوري الإيراني طائرة أمريكية دون طيار بالقرب من المياه الإقليمية الإيرانية.
استعاد الريال الإيراني عافيته نسبيًّا هذه السنة بعد تدهور حاد في قيمته في السنة الماضية. واعتاد رجال الأعمال في إيران راضخين على وقع العقوبات الاقتصادية المفروضة على بلادهم من قِبَل الولايات المتحدة. واصطف مختلف الأجنحة السياسية في طهران؛ بما فيها المتشددون، خلف المرشد الأعلى علي خامنئي؛ مكونين بذلك جبهة متماسكة ومعادية لأمريكا.
وبعد انقضاء فترة انفراج في العلاقات بين طهران والغرب في السنوات من 2013 حتى 2017، وكشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن سياسته الحازمة تجاه طهران، قررت الأخيرة بدورها استعراض عضلاتها في معالجتها الملف النووي.
اقرأ أيضًا: ترجمات: العوامل التي قد تشعل الحرب بين إيران والولايات المتحدة
تعاظم الأزمة الاجتماعية
“انتابني شعور من الخوف عندما سمعت تهديدات ترامب المبطنة تجاهنا؛ لكن عندما علمت أن الرئيس الأمريكي قرر العدول عن مهاجمتنا، شعرت بالارتياح”، بهذه العبارات ردّ مير حسين، وهو مثقف إيراني لم يُخفِ تفاخره بنجاح بلاده في تدمير طائرة أمريكية دون طيار، يبلغ سعرها 130 مليون دولار. وشارك مير حسين تفاخره هذا العديد من التجار المقيمين في “بازار طهران”: “إن إيران اليوم ليست إيران التي كان العالم يعرفها منذ ثلاثين سنة إلى الوراء”. ولا يؤمن كثير من الإيرانيين بقيام حرب بين بلادهم والولايات المتحدة، “لقد قُمنا بمجهودات مهمة في المجال التكنولوجي، والأمريكان يدركون ذلك”، ختم مير حسين.
ويتساءل مهدي ميرمدي، رجل أعمال إيراني متخصص في الصناعة ومن المقربين من دوائر الحكم في طهران، عن نيَّات الولايات المتحدة: “هل سيقومون (الأمريكان) مثلًا بضرب المنشآت النووية أم سيرسلون علينا وابلًا من الصواريخ؟ وماذا تظنون إيران فاعلة؟ سنقوم بإرسال صاروخ أو اثنين إلى منصة تحلية مياه البحر في أبوظبي أودبي. سنضرب الإمارات في العمق وسيهجرها المقيمون، وسترتفع أسعار النفط ارتفاعًا جنونيًّا سيدفع ثمنه الأوروبيون. ربما سيستشهد المئات في إيران، ولكن مصيرهم الجنة.. هذا كل ما سنخسره”.
إذا كانت تهديدات ترامب العسكرية لا تُخيف الإيرانيين، فإن الحرب الاقتصادية التي أعلنها الرئيس الأمريكي ضد إيران بدأت تُخيف طهران؛ خصوصًا أن أَثَر العقوبات الاقتصادية أضحى واقعًا ملموسًا. فمنْع طهران من تصدير نفطها ورحيل عديد من الشركات الأجنبية التي كانت تستثمر في إيران، جاءا ليضعا حدًّا لحلم كثير من الإيرانيين بالتقارب مع الغرب. ويعتقد كثير من الملاحظين أن هذه الحرب الاقتصادية على إيران والتي لا تستعمل لا بنادق ولا صواريخ، هي أشد وقعًا من الحرب التقليدية؛ فهي تخنق السكان المحليين رويدًا رويدًا.
فوَفقًا لمحسن، تاجر متخصص في استيراد البضائع الأجنبية: “ما فتئت الأوضاع تتعقد شيئًا فشيئًا منذ السنة الماضية”، مضيفًا أن وزارة التجارة الإيرانية قررت رفض إسناد تراخيص استيراد البضائع من الخارج؛ لأن البنوك الإيرانية تفتقر إلى النقد الأجنبي، خصوصًا من فئتَي الدولار واليورو؛ لتغطية نفقات الواردات. فحسب رأيه، “حتى السوق السوداء أصبحت صعبة الولوج في إيران”.
اقرأ أيضًا: ترجمات: المواجهة الإيرانية – الأمريكية.. كيف آل الوضع إلى ما هو عليه؟
وأدى تعقُّد الوضع الاقتصادي إلى تأزُّم الأوضاع الاجتماعية لفئات عديدة من الإيرانيين؛ بما فيها ميسورو الحال الذين يقطنون في الأحياء الراقية الواقعة شمالي العاصمة الإيرانية. هذا ما أكدته سيدة متقدمة في السن كانت تتجول رفقة صديقتها في أرقى مركز تجاري في طهران.
وقال مهدي ميرمدي الذي التقيناه: “تضاعف سعر الأرز والزيت. ورغم أن الحكومة رفعت من الأجور الدنيا بنسبة 35%؛ فإن ذلك لم يكفِ لمجابهة الأزمة”. ويروي هذا الإيراني ميسور الحال أن نجله عندما يقوم بإطعام الكلاب الضالة في الأحياء الفقيرة جنوب العاصمة الإيرانية، يأتي إليه أشخاص يلومونه عن فعلته هذه، معللين ذلك بأنهم أولَى بهذا الطعام الذي يُوزَّع على الحيوانات. ويُنفق حسين، وهو موظف متقاعد، مبالغ طائلة من أجل الحصول على دواء مرض السكري الذي يعانيه، ويتم استيراد هذا الدواء من الخارج؛ شأنه شأن عديد من الأدوية الضرورية. أما بالنسبة إلى أحد الملاحظين المحليين، الذي فضل عدم الكشف عن هويته؛ فملايين الإيرانيين الذين يعانون اليوم تأزُّم الأوضاع الاقتصادية لا يجدون مَن يترجم على أرض الواقع تطلعاتهم السياسية، مستدلًّا على موقفه هذا بالمظاهرات التي هزَّت إيران في السنة الماضية، والتي لم تنجح في خلق حركة سياسية في البلاد.
صحيح أن الخوف من اندلاع حرب مع الولايات المتحدة تراجع نسبيًّا في إيران هذه الأيام الأخيرة؛ لكن الجميع يعلم اليوم أن فتيل المواجهة ما زال قائمًا، فمثلًا في الأسبوع الماضي قامت البحرية البريطانية المتمركزة في جبل طارق، باحتجاز سفينة شحن إيرانية محملة بالنفط؛ متهمةً إياها بخرق قانون العقوبات المفروض على تصدير النفط الإيراني.
وحول هذا الموضوع، ردّ محدثنا الإيراني، الذي رفض الكشف عن هويته، ساخرًا: “البريطانيون يحتجزون في جبل طارق سفينة نفط إيرانية، والإيرانيون في طهران يحتجزون امرأة بريطانية من أصل إيراني!”.
اقرأ أيضًا: ترجمات: سيناريوهات المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران
مهدي ميرمدي، وهو إيراني يتقن اللغة الفرنسية ومتشبع بالثقافة الفرنسية، عبَّر عن غضبه من الموقف الأوروبي، قائلًا: “البريطانيون لا يُعتمد عليهم؛ فهم يتخبطون في مشكلة مغادرة بلادهم الاتحاد الأوروبي. ثم إنهم معروفون بالتبعية إلى الولايات المتحدة. أما فرنسا وألمانيا، فقد أظهرتا أنهما ضعيفتان. في هذا الملف فرنسا غائبة تمامًا؛ ففرنسا ما فتئت تحثّ الإيرانيين على عدم التخلِّي عن الاتفاق النووي. لماذا لا نتخلى عن هذا الاتفاق؟ أين هو السيد ماكرون؟”.
فشل “آلية التجارة بعيدًا عن العقوبات الأمريكية”
وعبّر مهدي ميرمدي، الذي يشغل مدير شركة محلية توزّع منتجات شركة “لوريال” الفرنسية في إيران، عن تخوفه من مصير نشاط شركته التي توفر ما لا يقل عن 450 فرصة عمل، قائلًا إن كثيرًا من الإيرانيين استعادوا “ثقافة الصمود” التي اعتادت عليها الجمهورية الإسلامية. ومما يزيد من مخاوفه ومخاوف الساسة في طهران هو إمكانية إعادة انتخاب الرئيس ترامب لولاية ثانية؛ ما يعني أن المعاناة الحالية ستدوم على الأقل خمس سنوات إضافية بداية من السنة الحالية. ويرفض مهدي ميرمدي تسريح الموظفين العاملين في شركته. ويقول إنه طلب منهم الصبر والعمل على تطوير المنتجات المحلية، آملًا في أن تقوم الولايات المتحدة يومًا ما بالتخفيف من العقوبات المفروضة على بلاده.
أمام هذه الوضعية الصعبة، بدأ كثير من الإيرانيين في البحث عن شريك تجاري وحليف سياسي جديد، هو الصين. حول هذا الموضوع يقول محسن، الذي التقيناه: “في فرنسا وألمانيا بدأ كثير من الشركات؛ بما في ذلك الشركات الصغرى، رفض التعامل معنا. فشخصيًّا كنت أتعامل مع شركة فرنسية مقرها في مدينة ليموج الفرنسية.. عندما طلبت من مسؤوليها تزويدي بكميات من الورق أحتاج إليها في نشاطي الصناعي، رفضوا ذلك رفضًا قطعيًّا؛ معللين موقفهم هذا بخوفهم من إدراجهم على قائمة الشركات والكيانات والأشخاص الذين يتعاملون مع إيران، ما دفعني إلى الرد عليهم بأن البضاعة التي سأشتريها منهم هي عبارة عن كميات من الورق وليست بالأسلحة النووية! أما الألمان فأصبحوا يتجاهلونني عنوةً ولا يُكلِّفون أنفسهم حتى عناء الرد على مراسلاتي”.
اقرأ أيضًا: ترجمات: كيف سيؤثر اندلاع حرب بين الولايات المتحدة وإيران على موازين القوى الكبرى؟
وبعد فشل الآلية المالية التي وضعها كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا؛ من أجل الالتفاف على العقوبات المالية المفروضة على طهران وتيسير التجارة بينها وبين باقي دول العالم، تعاظم نفور الإيرانيين وغضبهم من الموقف الأوروبي. “إن أوضاعنا مثل سيارة مرسيدس فارهة لكنها دون بنزين!”، هكذا علَّق دبلوماسي إيراني على فشل هذه الآلية المالية التي كانت طهران تأمل في أنها ستمكنها من الحصول على مئات ملايين الدولارات هي في أمسّ الحاجة إليها.
الآلية المالية التي وضعها الأوربيون فخ للحرس الثوري
في الحقيقة طهران أدركت أن هذه الآلية تحتوي على “فخ” كادت تقع فيه. فوَفقًا لخبير اقتصادي التقيناه في طهران، كانت هذه الآلية ستوفر للدول الغربية أداة ناجعة من أجل مراقبة حركة الأموال التي تحصل عليها إيران؛ خصوصًا معرفة مصير المبالغ الطائلة التي تحصل عليها قوات الحرس الثوري الإيراني التي تُعتبر الغطاء الذي يحتمي به النظام في طهران، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى إدراج هذه القوات في قائمة العقوبات المفروضة على بعض الكيانات الإيرانية. ويضيف هذا الخبير أن هذا “الفخ” دفع الإيرانيين إلى التريُّث في الإفصاح عن التفاصيل التقنية التي سيقومون بها من أجل تنفيذ واجباتهم المنصوص عليها في هذه الآلية. فالنظام في إيران لا يحب مَن يسعى للتطفُّل عليه ومحاولة معرفة ما يدور في كواليس السياسة في طهران.
ويسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جاهدًا من أجل خفض التوتر بين طهران وواشنطن. وحسب كواليس الحكومات الأوروبية، من المنتظر أن يقوم وزراء خارجية كلٍّ من فرنسا وألمانيا وبريطانيا، بزيارة إلى طهران مطلع الخريف القادم. وجاءت الأخبار المتواترة من العاصمة الإيرانية لتؤكد أن السلطات في طهران تتفاعل مع مشروع هذه الزيارة بنوع من البرود الحذر. فوَفقًا لبعض الدبلوماسيين الإيرانيين، لا فائدة من هذه الزيارة إذا عزم الأوروبيون على التمسك بموقفهم الحالي وتكرار نفس الخطاب الذي ما فتؤوا يرددونه منذ اندلاع أزمة الملف النووي الإيراني، وهو ما دفع عباس عراقجي، نائب وزير الخارجية الإيراني، إلى التصريح، في نهاية الأسبوع الماضي، بأن زيارة محتملة للرئيس الفرنسي إلى طهران لا يجب أن تتحول إلى عملية استعراض دبلوماسي. “الرئيس ماكرون لابد أن يأتي إلى طهران”، هكذا تفاعل محسن بنبرة حادة عندما تحدثنا معه عن الموقف الأوروبي من الملف النووي. وختم رجل الأعمال الإيراني قائلًا: “جميع الأطراف بحاجة إلى وسيط نزيه. فالرئيس ترامب دخل في حملة من أجل إعادة انتخابه، وهو لا يريد الحرب شأنه شأن إيران التي لا ترغب في محاربة أحد”.
المصدر: لو فيجارو