الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفة
جواسيس وحروب ومغامرات.. ماذا نعرف عن التاريخ السري للشاي؟

كيوبوست- ترجمات
جوني طومسون♦
كتب جوني طومسون، أستاذ الفلسفة في جامعة أكسفورد، في مقالة له على موقع “بيج ثينك“، المعني بالتاريخ والإنسانيات، أن الشاي هو المشروب الأكثر شيوعاً في العالم بعد الماء، وأنه أكثر شيوعاً من القهوة والمشروبات الغازية والكحول مجتمعةً؛ حيث إن 84٪ من البريطانيين يستمتعون بـ”فنجان” يومياً، إلا أن هذا يعد مقداراً قليلاً مقارنةً بالأتراك، الذين يشربون في المتوسط من ثلاثة إلى أربعة أكواب يومياً.
اقرأ أيضاً: “الشاي” مشروب عالمي: البداية في الصين.. والسحر في مصر.. والمعلمون في اليابان
وذكر طومسون أن قيمة صناعة الشاي تبلغ 200 مليار دولار في جميع أنحاء العالم، ومن المتوقع أن تنمو بمقدار النصف بحلول عام 2025؛ حيث يمثل الشاي جزاً كبيراً من العديد من الثقافات، لدرجة أن له أساطير حول أصله. فعلى سبيل المثال، تتضمن إحداها استيقاظ بوذا بعد نومه أثناء تأمله، وشعوره بالاشمئزاز من افتقاره إلى الانضباط الذاتي، فقام بقطع جفنَيه وألقاهما على الأرض، ثم نَمَت هذه الجفون لتصبح نباتات الشاي التي تساعد المتأملين في المستقبل على البقاء متيقظين.
كان الشاي يشكل أهمية كبرى بالنسبة إلى البريطانيين وإمبراطوريتهم؛ لدرجة أنه وجَّه سياستهم الخارجية بأكملها. كما أنه ألهم واحدة من أروع حكايات التجسس في القرن التاسع عشر وأكثرها سخافة؛ فعندما كانت القوى الأوروبية في القرن السادس عشر تتاجر لأول مرة مع مختلف دول شرق آسيا، والتي استعمرتها عسكرياً بعد ذلك، كان من المستحيل عدم مصادفة الشاي.

فمنذ القرن التاسع، قامت أسرة تانغ الصينية بالفعل بنشر الشاي في جميع أنحاء المنطقة. وكان الشاي متجذراً بالفعل عندما أصبح البرتغاليون أول أوروبيين يتذوقونه (عام 1557)، وتبعهم الهولنديون، الذين كانوا أول مَن قاموا بشحنه إلى قارة أوروبا.
وقال طومسون إن بريطانيا كانت متأخرة نسبياً عن حفل الشاي العالمي، ولم تصل إلا في القرن السابع عشر. وقد أشار صموئيل بيبس في يومياته التي كُتبت عام 1660، إلى الشاي، قائلاً: “تناولت فنجاناً من الشاي يُسمى (المشروب الصيني) ولم يسبق لي أن شربته من قبل”؛ حيث لم يصبح الشاي مشروباً مجتمعياً عصرياً إلا بعد أن عممته زوجة الملك تشارلز الثاني البرتغالية، في البلاط الملكي.
اقرأ أيضاً: أوهام بريطانيا العالمية
وبعد أن انطلق البريطانيون لم يكن هناك مَن يوقفهم، وأصبح الشاي تجارة ضخمة؛ ولكن بما أن الشاي كان محتكراً من قِبَل شركة الهند الشرقية، فقد فرضت الحكومة ضريبة هائلة عليه بنسبة 120٪، وفتح جيش من عصابات المهربين قنوات خلفية لجلب الشاي إلى الجماهير الفقيرة. وفي نهاية المطاف، أي عام 1784، أصبح رئيس الوزراء وليام بيت الأصغر، حكيماً تجاه الصرخة الشعبية لشرب الشاي والقضاء على السوق السوداء، فخفض الضريبة على أوراق الشاي إلى 12.5٪ فقط.

ومنذ ذلك الحين، يقول طومسون، أصبح الشاي مشروب كل شخص وتم تسويقه على أنه طبي ومنشط ولذيذ. ومن الحكايات الأكثر شهرة، عندما فرض البريطانيون ضريبة قدرها ثلاث بنسات لكل رطل على جميع أنواع الشاي التي تصدِّرها شركة الهند الشرقية إلى أمريكا، وأدى ذلك إلى تدمير غاضب لشحنة شاي كانت سفينة بأكملها. وكان “حفل شاي بوسطن” أول عمل تحدٍّ بارز للمستعمرات الأمريكية وأدى في النهاية إلى اتخاذ إجراءات مضادة متشددة وغاضبة من قِبل حكومة لندن. وهذا بدوره أشعل حرب الاستقلال الأمريكية.
اقرأ أيضاً: الأحداث الشوارد في التاريخ
وحسب أستاذ الفلسفة في جامعة أكسفورد، كان الشاي في ذلك الوقت يُزرع ويُصدَّر فقط من الصين إلى الهند البريطانية ثم إلى جميع أنحاء الإمبراطورية. وبالتالي أدى ذلك إلى اختلال هائل في التوازن التجاري؛ حيث كانت الصين المكتفية ذاتياً إلى حد كبير لا تريد سوى الفضة البريطانية في مقابل أوراق الشاي المحلية الشهيرة واللذيذة. وهذا النوع من السياسة الاقتصادية، أو المذهب التجاري، جعل بريطانيا غاضبة للغاية.
ورداً على ذلك، قامت بريطانيا بزراعة الأفيون وأغرقت الصين بالمخدرات. وعندما اعترضت الصين على ذلك، أرسلت بريطانيا الزوارق الحربية، ولم تكن “حروب الأفيون” اللاحقة لتمضي إلا في اتجاه واحد، وعندما سعت الصين من أجل السلام، تم إلزامها بدفع تعويضات بقيمة 20 مليون دولار، وكان عليها أن تتنازل عن هونغ كونغ لبريطانيا (والتي لم تعد إلا في عام 1997).

ويؤكد طومسون أنه حتى هذه الحروب لم تحل مشكلة العجز التجاري مع الصين. وأدت محاولات صنع الشاي في الهند البريطانية إلى قمامة رديئة، وكان البريطانيون بحاجة إلى الأنواع الجيدة؛ لذا لجؤوا إلى عِالم نبات أسكتلندي يُدعى روبرت فورتشن، وكانت مهمته بسيطة، وهي عبور الحدود إلى الصين، والاندماج بين مزارعي الشاي، وتهريب كل من خبراتهم ونباتات الشاي الخاصة بهم.
وقَبِل فورتشن المهمة، على الرغم من أنه لا يستطيع التحدث بكلمة صينية واحدة ولم يكن بالكاد قد غادر وطنه بريطانيا قبل ذلك؛ لكن لم يدع أحد هذه التفاصيل تعيق المهمة، فحلق شعره ووضع ضفيرة تشبه تلك التي يرتديها الصينيون، ثم انطلق في مغامرته. ويا لها من مغامرة؛ فقد تعرض إلى هجوم من قِبل قُطَّاع الطرق والعصابات والقراصنة، وكان عليه أن يتحمل الحمى والعواصف الاستوائية والأعاصير.
اقرأ أيضاً: من هم أذكى 10 أشخاص في التاريخ؟
وعلى الرغم من كل هذا، لم يتمكن فورتشن من تعلم اللغة الصينية والسفر حول مدينة سوتشو المحظورة والأراضي المحيطة بها لزراعة الشاي فحسب؛ بل اندمج أيضاً في مجتمعات الفلاحين المنعزلة. وعندما تساءل مزارعو الشاي المتشككون في فورتشن حول سبب طول قامته، خدعهم بزعم أنه مسؤول حكومي رفيع؛ فعلى ما يبدو كانوا جميعاً طوال القامة وقتئذ.

وبشكل مثير للدهشة، كان فورتشن محظوظاً وأفلت بفعلته. وعلى مدار مهمته التي استمرت ثلاث سنوات، أخفى عدة شحنات من نباتات الشاي الجديدة إلى بريطانيا، بالإضافة إلى فن البونساي (الذي كان في السابق سرياً للغاية). وقد ماتت معظم أوراق الشاي المهربة من العفن والرطوبة أثناء النقل؛ لكن فورتشن استمر، وفي نهاية المطاف بدأ البريطانيون في زراعة نباتات الشاي الخاصة بهم باستخدام تقنيات زراعة الشاي الصينية في تربة مستعمراتهم الهندية.
شاهد: فيديوغراف.. 7 احتجاجات غيَّرت مجرى التاريخ إلى الأبد
ويستكمل طومسون مقالته حول التاريخ السري للشاي مشيراً إلى أنه لم يمض وقت طويل حتى بدأ البديل الهندي، الذي لا يمكن تمييزه تقريباً عن الصيني المسروق، في الهيمنة على الأسواق؛ خصوصاً في إمبراطورية بريطانيا الضخمة والمتنامية. وفي غضون 20 عاماً من مهمة فورتشن الاستثنائية، كان لدى شركة الهند الشرقية أكثر من خمسين متعهداً لتصدير الشاي في جميع أنحاء العالم.
ثم يدور التاريخ وتعود الأمور مؤخراً إلى ما كانت عليه في السابق؛ حيث تنتج الصين الآن ليس فقط أكثر بكثير مما تنتجه الهند، ولكن أكثر من الدول العشر الأولى مجتمعةً. وفي المجمل، يأتي 40% من شاي العالم من الصين؛ لكن الشاي البريطاني هو الذي حفَّز السوق العالمية الضخمة. ودون عاشق النبات الأسكتلندي المفرط في الثقة، لكان حب العالم للشاي يبدو مختلفاً تماماً!
♦أستاذ الفلسفة في جامعة أكسفورد.
المصدر: موقع بيج ثينك