الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة

جنيات إينشيرين… عندما تتحول الصداقة إلى عداوة

فيلم The Banshees of Inisherin هو فيلم تعيس لكنه يواسيك بتعاسته

كيوبوست- عبيد التميمي

إن القلق لا يفارقنا في حياتنا اليومية، الهموم والتوترات تلاحقنا في كل فرصة ممكنة، وتحاول اقتحام أفكارنا عنوة. فقط حينما نشاهد الأطفال، ونتذكر طفولتنا بحنين، تتبادر إلى أذهاننا الفكرة المبتذلة والمتكررة أن الأطفال لا يملكون ما يقلقهم، هم يعيشون حياتهم بكل فرح وسكينة بدون أي دواعٍ للقلق. لكن هذا افتراض خاطئ، لأن هناك نوعاً خاصاً من القلق يظهر في الطفولة، ويبقى رفيقاً لك مدى الحياة، القلق من إغضاب الأصدقاء أو جرحهم. حتى لو لم يظهر هذا القلق بشكلٍ يومي، هو يظهر بين فترة وأخرى ليذكرك بوجوده، ويذكرك بالطفل الصغير داخلك، يذكرك بأنك حتى بعد مرور كل تلك السنوات، وبرغم كل التجارب والخبرات التي اكتسبتها، لا يزال هناك طفل يسكنك، يعتريه القلق حينما يلاحظ اختلاف أبسط التفاصيل في طريقة كلام صديقه أو هيئته، لن يستطيع هذا الطفل التوقف عن التفكير (هل هو غاضبٌ منّي؟ هل هذا الاختلاف بسببي؟).

مع التقدم بالعمر يصعب تكوين صداقات جديدة، نميل إلى وضع حواجز أطول حولنا بحجة منع الآخرين من التطفل، وبسبب هذه الصعوبات والحواجز، تصبح درجة القلق والخوف من انهيار الصداقات أكثر حدة، ونبرة الهلع المرافقة لها تتسارع بشكلٍ ملحوظ.

تريلر الفيلم

فيلم The Banshees of Inisherin هو فيلم درامي من كتابة وإخراج البريطاني مارتن مكدوناه، وبطولة كولين فاريل، وبريندن غليسون، وكيري كوندون وبيري كوغن. يتحدث الفيلم عن الصديقين (بادريك) و(كولم)، اللذين تتخذ صداقتهما منعطفاً مفاجئاً في جزيرة نائية على سواحل أيرلندا.

يقرر كولم (بريندن غليسون) إنهاء صداقته مع بادريك (كولين فاريل) بدون سابق إنذار، مما يقلب حياة بادريك رأساً على عقب، ويجعله يبحث عن مبرر منطقي لنهاية الصداقة، وعدم استمرارها. حينما نتحدث عن تأثير الشخصيات وقراراتها على مسار القصة، فإن فيلم مارتن مكدوناه يأتي كأحد أفضل الأمثلة في الفترة الأخيرة، بدون قرارات الشخصيات في هذا الفيلم، فنحن لا نمتلك قصة على الإطلاق، بل نمتلك حياة روتينية خالية من أي أحداث ذات أهمية في مجتمع صغير ومنغلق على نفسه، سكان القرية يقومون بنفس الأعمال في كل يوم، وبدون أي كلل وملل، ويلتقي الصديقان بادريك وكولم يومياً في الحانة في تمام الساعة الثانية ظهراً، وفي المرة الأولى التي يختلف فيها هذا الأمر، ويظهر بادريك وحيداً في الحانة، تعصف هذه الأنباء بالقرية كلها، ويطال تأثيرها حتى على صاحب الحانة الذي لا نشاهده إلا فيها.

مشهد من الفيلم

من نشأ في قرية أو مدينة صغيرة يتفهم هذا الجو العام في الفيلم، كيف أن قرار شخص واحد يؤثر على الجميع، ويتسبب بتوتر الأجواء، شخص واحد قرر أن يختلف عن البقية، وإذا به يجبر الجميع على التأقلم مع هذا التغيير.

تنتقل الأخبار سريعاً في المجتمعات الصغيرة، وما كان قراراً شخصياً لا يمتلك أحد حق التدخل فيه، يتحول إلى قرار جماعي يتطلب الاستماع لعدة آراء، وإعادة التفكير فيه. كل ذلك يتم وسط أجواء دافئة وحميمية، لا يمكنك الفرار منها. الجو العام للفيلم دافئ جداً، وفي وسط كل الكآبة التي يتسبب بها قرار كولم بإنهاء صداقته مع بادريك، لا يمكنك تجاهل الدفء والحميمية التي تنبع من كون سكان القرية أشبه ما يكون بعائلة، ليس بسبب مشاعر الحب المتبادلة بينهم، بل بسبب التدخل المستمر بشؤون غيرهم.

اقرأ أيضًا: فيلم The Last Duel.. المبارزة الأخيرة

بادريك وكولم يختلفان كثيراً عن بعضهما البعض، بادريك شخص بسيط باهتماماتٍ بسيطة، لا يمتلك اهتمامات ثقافية أو فنية، هو يحب أن يستيقظ كل يوم وهو يعلم ما يخبئه له العالم، يحب أبقاره وحماره الأليف، ويحب إخبار صديقه العزيز كولم عن ما يجده في روث الحيوانات.

بينما كولم يحب تأليف الموسيقى، والعزف على كمانه، يحب أن يتحدث عن موزارت وبيتهوفن، والتعرف على طلاب الموسيقى الذين يزورون الجزيرة، مهووس بفكرة بقاء ذكراه بعد موته، ولا يريد لأحد أن ينساه. وهي فكرة منطقية لأن أحد أكثر الأمور المحزنة بخصوص الموت هي أننا ننسى موتانا، وننسى درجة الحزن التي وصلنا إليها بسبب فقدهم، هناك شعور دخيل بخيانتهم حينما ننساهم.

مشهد من الفيلم

هذا الاختلاف في الشخصيتين بين الصديقين هو واقعي للغاية، أثناء مشاهدة الفيلم أصبحت أفكر بأصدقاء مقربين أمتلكهم، شخصياتهم أبعد ما تكون عن شخصيتي، اهتماماتهم تختلف عن اهتماماتي. لكن لسبب ما نجد أنفسنا أصدقاء مقربين للغاية، وهو نفس السبب الذي يجعل من بادريك وكولم صديقين عزيزين.

 

مع أن كولم مطلع ومثقف فإن قراره يبدو طفولياً بفجائيته، وأعتقد أن هذه صفة مشتركة بين بطلي الفيلم. إنهما أشبه ما يكونان بالأطفال في جسم رجلين راشدين، ولذلك يبدو صراعهما مليئاً بالعواطف والمشاعر الصادقة، خالياً من العقلانية المملة التي يتصف بها البالغون.

فعلى سبيل المثال، لن تجد رجلاً عاقلاً يهدد بقطع أصابعه تدريجياً ما لم يتوقف أحد عن الحديث معه. وفي نفس الوقت لن تجد رجلاً عاقلاً يستمر بمخالفة هذه التعاليم الشديدة مرة تلو الأخرى. قرار بادريك بالحديث مع كولم برغم كل التحذيرات شديدة اللهجة كان قراراً مليئاً بالمشاعر، قراراً طفولياً بحتاً، وبالذات حينما نشاهد الأعذار الباهتة التي يخترعها لبدء محادثة مع صديقه العزيز.

الكاتب والمخرج مكدوناه مع بطل الفيلم فاريل

بعيداً عن هذا الصراع، يصنع مكدوناه شخصية بديعة متمثلة في شخصية شيفون (كيري كوندون)، الأخت الوحيدة لبادريك. شيفون هي الأخرى مثقفة ومطلعة، وتقضي يومها بقراءة الكتب بدون توقف، بل إنها أكثر الشخصيات تعقلاً في هذه الجزيرة. حتى كولم حينما يتحدث معها يراها شخصاً مساوياً له بسبب ثقافتها، ولا يقلل منها مثل ما يقلل من بادريك.

من الممكن أن تصبح شيفون هي الشخصية الرئيسية في هذا الفيلم، بل في السنوات الأخيرة هناك عدة أمثلة على أفلام تتحدث عن شخصيات تواجه قراراً مصيرياً بالخروج من محيطها المحدود، وبيئتها الصغيرة، إلى عالمٍ واسع. لكن الفيلم قرر أن يعالج مسار القصة هذا بأقل عدد ممكن من المشاهد، وأعتقد أن ذلك قرار سليم لأننا لا نريد مشاهدة قصة متكررة، وفي نفس الوقت شيفون شخصية مستقلة ومتزنة بما فيه الكفاية لاتخاذ قرار مصيري بهذا الحجم، وعدم شمل جميع سكان الجزيرة، وذلك لا يلغي كونها شخصية محورية لقصة الفيلم، ومحورية لبادريك تحديداً الذي تغمره الوحدة بمجرد رحيلها ويحاول سد هذا الفراغ بالنوم مع حيواناته الأليفة في المنزل.

اقرأ أيضًا: فيلم Barbarian.. أسرار الماضي تصعد إلى السطح

وفي الحقيقة أعتقد أن هناك ارتباطاً لا يمكن تجاهله بين قرار شيفون بالرحيل، وبين نهاية الفيلم بالعداوة بين الصديقين. لأن حياة الجزيرة المحدودة رتيبة للغاية وغير متجددة، حتى مواقف متطرفة مثل قطع كولم لأصابعه أو إحراق بادريك لمنزل صديقه لا تغير من نمط هذه الحياة، ولا تغير من طريقة سير الأمور.

تبقى الأمور على ما هي عليه ما دمتَ قاطناً لهذه الجزيرة، والسبيل الوحيد إلى التغيير هو الرحيل، وهنا يأتي دور شيفون التي شاهدت صراعاً جنونياً بين صديقين عزيزين، كطرفٍ ثالث وعاقل، وكيف أن هذا الصراع هو امتداد للحياة غير المثمرة لها في هذه الجزيرة النائية، وبالتالي كان لا بد من ترك كل شيء خلفها، حتى لو كان ذلك يعني حياتها بالكامل.

مشهد من الفيلم

لطالما امتاز مكدوناه بقدرته على كتابة حواراتٍ سريعة وذكية، وحتى في أفلامه التي لم تلاقِ ذاك النجاح الملحوظ، فهو لا يخسر هذه الخاصية. ويأتي هذا الفيلم كأحد أفضل أعماله الحوارية، فالحوارات بين كل الشخصيات بسيطة وسلسة، ولا يوجد هناك أي تكلف في صياغة الحوار، تطغى طبيعة البيئة الريفية حتى على الشخصيات المثقفة، ولا يوجد هناك عمق مبتذل. وفي ذات الوقت، لا يوجد هناك مبالغة في الأسلوب المباشر حتى درجة التلقين، هناك توازن بديع بين الثيمات المخفية للفيلم، وبين بساطة الشخصيات.

وينجح هذا الأسلوب في الكتابة جزئياً بسبب العمل الرائع للطاقم التمثيلي، بريندن غليسون يقوم بأداء شخصية باردة وقاسية، تتضح آثار ثقل الزمن على معالم وجهه، يرفض حب صديقه العزيز بكل ما يملك من إرادة بسبب هدف يعتقد أنه سامٍ ورفيع. وبالنسبة لفيلم مليء بالمفاجآت السارة، تأتي كيري كوندون كأجمل هذه المفاجآت وأكثرها نجاحاً.

يمكنك ملاحظة صدق مشاعر الهلع لشيفون وهي تشاهد حياتها تتسرب تدريجياً بين يديها، وهي في هذه الجزيرة الصغيرة، كيف تحاول أن تحافظ على هدوءها وعقلها وسط المعمعة المجنونة التي يتسبب بها بادريك وكولم.

اقرأ أيضًا: ملحمة جيمس كاميرون الفضائية.. Avatar: The Way Of Water

بيري كوغن يواصل ترسيخ اسمه كأحد أفضل الأسماء التمثيلية الشابة التي تعمل حالياً، فهو يحجز مكانا مهماً في أهم المشروعات السينمائية مع نخبة من المخرجين، وما قدمه بدور الشاب البسيط دومينيك كان أخّاذاً، كيف تحول من أحد الشخصيات الكوميدية إلى أكثر خطوط السرد حزناً. وبالنسبة للرائع كولين فاريل، فهو قدم أفضل أدواره على الإطلاق بكل بساطة.

فيلم The Banshees of Inisherin هو فيلم تعيس، ولكنه يواسيك بتعاسته. هناك شعور لطيف جداً حينما تشاهد فيلماً مصنوعاً بحرفية واهتمام وحميمية، لكنه مشبع بالحزن لأن صانع الفيلم أراد أن يُثقل كاهلك ويشعرك بعمق هذا الحزن، إن الأمر يتحول إلى أشبه ما يكون بهدية شخصية. ومثلما أن شيفون لا تتوقف عن قراءة الروايات الحزينة، لن نستطيع التوقف عن التوق إلى هذا النوع من الأفلام.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

عبيد التميمي

كاتب سعودي

مقالات ذات صلة