الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون خليجيةشؤون عربية
جائزة “كنز الجيل” في دورتها الثانية.. احتفاء بالشعر النبطي ونقله للأجيال القادمة

كيوبوست- زيد قطريب
التسمية لم تكن عبثاً؛ فقد اختار مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة، عبارة “كنز الجيل”، المستمدة من أشعار الشيخ زايد، طيب الله ثراه، عنواناً لجائزته المختصة بالشعر النبطي؛ فهذه الجائزة الإبداعية، بقدر ما هي معنية بإحياء الموروث الشعري القديم، فإنها تعمل على استمرار ذائقته الجمالية عند الجيل الجديد.
وفي دورتها الثانية التي أُعلنت في فبراير الماضي، حددت إدارة الجائزة ستة فروع لاستقبال الأعمال الإبداعية؛ هي: “المجاراة الشعرية” لقصيدة “دنيا مَ أحلى وَطرْها” للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، و”الشخصية الإبداعية” و”الفنون” و”الدراسات والبحوث” و”الإصدارات الشعرية” و”الترجمة”، وحددت إدارة الجائزة، الأول من يونيو 2023، موعداً نهائياً لاستقبال الأعمال المشاركة.
اقرأ أيضاً: مملكتا دادان ولحيان… العمق الحضاري لصحراء الجزيرة العربية
ويقول الدكتور علي بن تميم، رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، لـ”كيوبوست”:
“تأسست جائزة (كنز الجيل) عام 2022، تقديراً للشعر النبطي الذي يشكل هويةً وذاكرةً حضاريةً للمجتمع، وشاهداً على مسيرته منذ تأسيس دولة الاتحاد على يد الأب المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان”.

وحول أهمية الإبداع في اللهجات العربية؛ ومنها الشعر النبطي، يقول ابن تميم:
“في الموسيقى تتآلف النغمات وتتعدد الطبقات والمقامات؛ في محاولة للتعبير عن كل انطباعات النفس البشرية؛ فيتحقق التآلف النغمي، وفي الطبيعة تتآلف الألوان والظلال من أجل صنع الجمال؛ الضوء منفرداً لا يصنع لوحة وكذلك الظل، لا بد من تآلف منضبط بين درجاتهما لنحصل على صورة ذات حضور. والحال كذلك مع اللغات. اللهجات مستويات تعبير ومسارات تفكير نتيجة تفاعل الإنسان مع بيئته وطبيعته ومجتمعه. لذلك هي مخازن قيم وأفكار ورؤى من شأنها إثراء اللغات وتعزيز حضورها”.
وتحتفي جائزة “كنز الجيل” بالمشهد البصري للغة، على اعتبار أن الارتباط الوثيق بين الشكل والمضمون، ضرورة في العملية الإبداعية. يقول الفنان الجزائري عبدالقادر داودي، الفائز بجائزة الدورة الأولى عام 2022- فرع الفنون، لـ”كيوبوست”: “لقد كان شرفاً أن أخطّ إحدى عبارات صاحب السمو الشيخ زايد، رحمه الله، عندما قال (الله عطانا خير وأنعام). وقد وحَّدت في لوحتي بين الخط الأندلسي والخط المغربي والحروفية الجدارية العربية.. اللغة العربية جميلة وأحاول دائماً التقاط فرادتها الهندسية”.
اقرأ أيضاً: الانطباعية في الرسم.. التحرر من الكلاسيكية وتوثيق أثر الضوء على المشهد
وتعتبر “قصيدة المجاراة” من الفروع المهمة في جائزة “كنز الجيل”، نظراً لما تتطلبه من عبور وحسن تواصل واستيعاب للقصيدة المعنية بالمجاراة. في هذا الجانب، يقول الشاعر الإماراتي عبيد المزروعي، الفائز بقصيدة المجاراة في دورة الجائزة الأولى، لـ”كيوبوست”:

“قصيدة المجاراة من الكتابات الصعبة في الشعر. ويكفيني فخراً أنني جاريت قصيدة للشيخ زايد، رحمه الله؛ فقد اقتضى ذلك مني دراسة القصيدة والبحث عن خفاياها والغوص في معانيها، واكتشاف هدف الشاعر من ورائها. تعرفت إلى البحر والفكرة واستشفيت فكرة القصيدة، وحاولت أن أحاكيها؛ فالمجاراة ليست وزنية فقط، بل هي سبك وحبك للمعاني بغية الوصول إلى مفاتيح القصيدة”.

ويشدد الدكتور علي بن تميم، رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، على البعد الفكري والشعوري للغة؛ سواء تحدثنا عن الشعر النبطي، أم الفصيح، ويقول:
“اللغة ليست مجرد نظام صرف ونحو واشتقاق وغير ذلك من قواعد. هذا مهم؛ ولكن اللغة قبل ذلك، منظومة حضارية لا يمكن تجاهل أي من عناصرها ومفرداتها ومكوناتها، وقد عبَّر عن ذلك أفضل تعبير شاعر العربية الأول أبو الطيب المتنبي، حين قال:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي – وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضاد – وعوذ الجاني وغوث الطريد
ويضيف ابن تميم: “لقد نسب المتنبي الفخر بلغة الضاد إلى منظومة الثقافة والقيم والأخلاق التي يكتسب بها أصحابها شرعية وجودهم الحضاري: عوذ الجاني وغوث الطريد. اللغة إذن ليست المفردات في صورتها المجردة؛ وإنما المنظومة الثقافية والفكرية والقيمية التي تنشأ وتعمل فيها هذه المفردات فتشكل الصورة الحضارية”.
اقرأ أيضاً: الحياة تدب مجدداً في شارع المتنبي شريان بغداد الثقافي النابض
وتركز جائزة “كنز الجيل” أيضاً على جانب “البحوث والدراسات” الذي لا يقل أهمية عن الجانب الإبداعي المتصل بكتابة القصيدة. في هذا الجانب، تقول الدكتورة عائشة علي الغيص، الفائزة بجائزة البحوث والدراسات في الدورة الأولى، عن كتابها “الاستهلال في الشعر النبطي الإماراتي.. دراسة نقدية”:

“جائزة (كنز الجيل) متميزة في الفكرة والرسالة؛ فهي تفتح آفاق البحث أمام النقاد والمهتمين، بما يخدم الإبداع الإماراتي والعربي؛ للتعرف على مسيرة حياة الشعراء وإبداعاتهم في الحقب الزمنية الماضية والحالية، حيث جاء الشعر النبطي تسجيلاً لوقائع المنطقة وأحداثها إلى جانب الرؤى والأفكار حول المجريات التي أحاطت بالدولة. ويعتبر الشعر الناقل الأول لتلك التفاصيل، في ظل ندرة التوثيق في ذلك الوقت”.
اقرأ أيضاً: أفكارٌ ما بين الأدب والطب..
ويقول المستشرق والدبلوماسي الهولندي مارسيل كوربرشوك، الفائز بفرع “الشخصية الإبداعية” من الجائزة في دورتها الأولى، لـ”كيوبوست”:
“في البداية، قُمت بتسجيل وجمع وترجمة المأثورات الشفهية التي كانت على وشك الانقراض في الجزيرة العربية. وبعد إنجاز سلسلتي (أشعار وقصص شفهية من قلب الجزيرة العربية) نشرته (شركة بريل) باللغة الإنجليزية، وكان النص العربي مكتوباً بالحروف اللاتينية التي تبيِّن النطق باللهجة على الصفحة المواجهة. وطلبت مني مكتبة الأدب العربي لمطابع جامعة نيويورك، تحريراً وترجمةً مع شرح للأعمال الشعرية الكاملة لكل من حميدان الشويعر وعبدالله بن سبيّل والمايدي بن ظاهر. وبسبب إقبال القراء حول العالم على هذه الأشعار العربية الجميلة، طبعت هذه الدواوين أيضاً ككتب جيب باللغة الإنجليزية، وسر هذا النجاح يكمن في عبقرية هذه النصوص واهتمام المستهلك الدولي بكنوز الأدب العربي الأصيل”.
وتميزت دولة الإمارات العربية المتحدة باهتمامها بالفنون الشعبية؛ فخصصت الكثير من الجوائز للاهتمام بالتراث وتدوينه ونقله للأجيال القادمة؛ مثلما هي الحال باهتمامها باللغة الفصحى وفنونها المختلفة. حول ذلك يقول المستشرق الهولندي كوربرشوك لـ”كيوبوست”:

“تتميز الإمارات العربية المتحدة برؤيتها العميقة للدور الحيوي والبناء للفنون الشعبية والشعر النبطي، إلى جانب الآداب المتوارثة من الحضارة العربية والإسلامية باللغة الفصحى. فليس هناك من تناقض بين العملَين. ولا يستطيع أحد أن ينفي دور الإمارات الرائد الذي يتأصل في رؤية الشيخ زايد كرجل دولة وشاعر، إلى جانب الرواد السابقين؛ مثل الشاعر الكبير المايدي بن ظاهر، الذين ضمنوا استمرارية هذه الفنون وانتقالها إلى الأجيال”.
اقرأ أيضاً: هل يمكن فهم ظاهرة الانتحار من خلال الأعمال الأدبية؟
وتتحدث الدكتورة عائشة الغيص، عن محاسن تحريض الفكر النقدي في هذا النوع من الجوائز، وتضيف لـ”كيوبوست”:
“تفتح الجائزة المجال لتوظيف آليات نقدية في دراسة الشعر النبطي، بعيداً عن أسلوب الجمع والتحقيق، إضافة إلى الدراسات المعجمية التأصيلية ودراسات المقارنة لموضوع التقارب والتشابه بين لهجتَي الشِّعر النَّبطي والفصيح”.
ويعتبر فتح الآفاق الإبداعية والنقدية من الأهداف الرئيسية للجائزة؛ فهي تدفع المبدعين لملامسة موضوعات جديدة، كما توفر لهم فرصة اللقاء والحوار حول الموروث الشعبي المهم للشعر النبطي. يقول الشاعر عبيد المزروعي، الفائز بجائزة قصيدة المجاراة، لـ”كيوبوست”:
“جائزة كنز الجيل فتحت لي آفاقاً واسعة، وعرَّفتني على أناس من المجتمع والفكر الذي أنتمي إليه، وبالتالي شكلت فارقاً في حياتي. وباعتباري الفائز الأول في هذه المسابقة؛ لن أنسى أن أشير إلى دور دولتنا وشيوخنا وقيادتنا الرشيدة، في الاهتمام بالشعر والشعراء، ابتداء من الأب المؤسس الشيخ زايد، رحمه الله، الذي اهتم بالشعراء وحاول جمعهم واحتضانهم حتى لا يضيع الشعر.. الشيخ زايد قال إن الشعر النبطي والشعر الفصيح، يصبان في مصب واحد، لكن بأسلوب مختلف، فالمقياس هو الكلمة الصادقة في المشاعر والمجيدة في الأسلوب”.
وينطوي الشعر النبطي على جماليات متصلة بالبيئة وطبيعة الحياة والعلاقات الاجتماعية، فالمجاز الأدبي غير معزول عن منظومة الحياة والأخلاق. حول ذلك يقول المستشرق مارسيل كوربرشوك:
“علاقة المجاز الأدبي بالحياة والظروف الاجتماعية والأدبية والتوازن الأخلاقي الذي سيطر على المجتمع البدوي والحضري خلال 1500 عام بالجزيرة العربية، تشكل نموذجاً فريداً للاستمرارية الحضارية في تاريخ البشر؛ حتى إنه أقدم وأكثر تماسكاً مما قدمه الموروث الصيني“.
ولا ننسى أن أبرز الشعراء القدماء مثل امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني، نظموا أبياتهم بالإلهام والحفظ والاستظهار وليس بطريقة الكتابة، وكذلك تداول هذه الأعمال الزاخرة بالحكمة والصور الفاتنة من كعب بن زهير لأبيه والحطيئة لكعب.. وهلمَّ جرَّا. الأُمِّي ليس أقل مقدرة أدبية من المتعلم. وأنا استفدت كثيراً من حفظ القصائد عن ظهر قلب، وخلال هذه العملية اكتشفت إمكانية إلقاء معلقة امرئ القيس باللفظ النبطي وبوزن الهلالي.
اقرأ أيضاً: الترجمة.. مهارة أنقذت الإرث الحضاري والديني للشعوب
ويضيف كوربرشوك: “وكما كتب الدكتور سعد الصويان، في كتابه (الصحراء العربية.. ثقافتها وشعرها عبر العصور)، فإن الراوي الشفهي أو الشاعر الأُمِّي يقوم في آن واحد بدور الأديب والمؤرخ والمعلم والفيلسوف؛ مما يؤدي إلى تداخل هذه المهام والوظائف وتمازج هذه الفنون والمعارف، لدرجة يصعب فصلها وفرزها في مجالات أو تخصصات متمايزة”.
وحول الاحتفاء بالشعر النبطي، وضرورة النظر إليه كجزء من الثقافة العربية غير متناقض مع اللغة الفصحى، يقول الدكتور علي بن تميم، رئيس مركز أبوظبي للغة العربية:
“الشعر النبطي قديم ومنتشر في الخليج العربي والكثير من الدول العربية؛ وهو مكون أصيل من مكونات المنظومة الثقافية والحضارية العربية، وليس نقيضاً للفصاحة؛ إنما هو رديف ومكمل وداعم لها بالمعنى الفكري والثقافي والحضاري، يستكمل الثقافة والشخصية العربية، واحتفاؤنا به احتفاء بقيم فنية وبلاغية وثقافية وفكرية كبيرة تعد جزءاً ومكوناً أصيلاً من الحضور الأكبر للغة العربية علينا حفظه ونقله للأجيال الجديدة وتشجيعهم على مواصلة الإبداع فيه. وهذا مما تهدف إليه جائزة كنز الجيل التي نُحت اسمها من بيتَين بليغَين للراحل الكبير الشيخ زايد، طيب الله ثراه، يقول:
كم صِغْت الشِعْر فَـ اوقاته- صيغةٍ تصعب معانيها
مَعْك كَنْز الجيل ميزاته – فاهم أوّلها وتاليها
ويضيف ابن تميم: “في بيتَين اثنَين لخَّص الشيخ زايد -رحمه الله- معنى الشعر؛ ففي هذا (الجيل) -أي (القيل)- تكمن مقدرة الشاعر على تحويل الكلام العادي إلى شعر. (الجيل) هو الحكمة وقلائد الأمثال وفرائد المعاني عندما تصوغها النفس الشاعرة فتحولها إلى شعر؛ فالشعر هو الكنز، والاكتناز هنا اكتناز الحكمة والمعرفة للأجيال عبر بثها بنَفَسِ الشعر في صيغٍ تمتلك سر الخلود.

لقد كان هذا التعريف البارع للشعر، كما وضعه الأب المؤسس الشيخ زايد، هو الشعلة التي أنارت لنا الطريق نحو إطلاق جائزة (كنز الجيل) من مركز أبوظبي للغة العربية، والتي خصصناها للشعر النبطي والدراسات المتمحورة حوله؛ فالشعر النبطي كنزٌ، حري بنا رعايته وحفظه للأجيال، ودعمُ استمرارهم في الإضافة إليه والإبداع فيه”.
اقرأ أيضاً: جديرة بالقراءة.. آخر 5 روايات عربية حققت “البوكر” العالمية
ومؤخراً، أعلن مركز أبوظبي للغة العربية، التابع لدائرة الثقافة والسياحة- أبوظبي، انضمام نخبة من القامات الفكرية والأدبية والأكاديمية المرموقة إلى عضوية اللجنة العليا لجائزة “كنز الجيل” في دورتها الثانية، وهي: رئيس اللجنة الدكتور علي سعيد الكعبي من دولة الإمارات، المستشار في جامعة الإمارات العربية المتحدة وأستاذ سياسات التعليم وعلم التربية المقارن، والدكتورة عائشة الشامسي، أكاديمية وناقدة وشاعرة إماراتية، والأستاذ حسن زكي، من مصر، ملحن وفنان تشكيلي وباحث، والأستاذ عبدالرحمن النقبي، من دولة الإمارات، مدير إدارة الجوائز الأدبية في مركز أبوظبي للغة العربية، مقرر اللجنة، إلى جانب الأعضاء الحاليين: سعيد حمدان الطنيجي، من دولة الإمارات، المدير التنفيذي لمركز أبوظبي للغة العربية، والدكتورة منيرة الغدير، من السعودية، أكاديمية وباحثة في شعر المرأة النبطي.