الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

توني بلير يحذر من الشعبوية وتجاهل الحلفاء والجنون السياسي!

في ظل حرب أوكرانيا وصعود الصين وأزمة الديمقراطية الغربية

كيوبوست- ترجمات

قال توني بلير رئيس الوزراء الأسبق لبريطانيا، والرئيس التنفيذي لمعهد توني بلير للتغيير العالمي، في كلمته ضمن محاضرة ديتشلي السنوية، إنه على غرار عام 1945 أو 1980، يقف العالم الآن أمام تحول تاريخي. ففي عام 1945، كان على الغرب إنشاء مؤسساتٍ جديدة للحكم الدولي والدفاع والتعاون الأوروبي، ليس فقط بسبب حرب عالمية واحدة بل حربيين عالميتين نتيجة للصراع بين الدول الأوروبية. وفي عام 1980، وبعد سنواتٍ من الانتشار النووي، سعى العالم إلى الانهيار النهائي للاتحاد السوفيتي، وانتصار القيم الديمقراطية الليبرالية. وفي كلتا الحالتين، كان هدف السياسة الخارجية مقترناً بهدف السياسة الداخلية.

اقرأ أيضاً: ماذا ينتظر العالم القديم والمملكة الوسطى في المستقبل؟

وأشار بلير إلى أنه في عام 1945، في أوروبا والمملكة المتحدة في ظل حكومة أتلي، كان هدف السياسة الداخلية هو بناء دولة الرفاه، والبنية التحتية الحديثة، وإتاحة الخدمات الصحية والتعليمية لقطاعاتٍ أوسع من الشعب والتي كانت مقتصرة آنذاك على قلة متميزة من الناس.

بينما عام 1980، كانت ثورة ريجان/تاتشر لصالح الأسواق والمشاريع الخاصة، بمثابة رد فعل ضد سلطة الدولة المتنامية، التي بدا أنها تعيق مشروع الشعب، بدلاً من رعايته. ولعل الموافقة أو الاختلاف مع أيٍّ من نقطتي التحول التاريخي ليست بالأمر الجوهري. لأن ما يهم هو أنه كان هناك مشروع حاكم، وخطة وطريقة للنظر إلى العالم تسعى إلى فهمه، والعمل على النهوض بالشعب.

رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر تتحدث خلال المؤتمر السنوي لحزب المحافظين في برايتون عام 1980- بي بي سي

وأكد أنه في الحالتين، نجح المشروع، على الأقل وفقاً لظروف كل مرحلة. حيث أصبحت أوروبا تنعم بالسلام، وانهار الاتحاد السوفيتي. وحتى الجزء الأول من هذا القرن، شهد الناس ارتفاعاً في مستويات المعيشة والأجور الحقيقية، وتحسنت الأمور، وكان الغرب قوياً.

أوروبا وتفشي الشعبوية

وفي عام 2022، وفقاً لبلير، يمكن القول إنه بالنسبة لجزء كبير من سكان العالم الغربي، فإن مستويات المعيشة تعاني من الركود، ويكافح الملايين من الناس لتلبية الاحتياجات الأساسية، ومن المتوقع أن يؤدي التضخم إلى انخفاض في الأجور الحقيقية. وإذا أخذنا بريطانيا على سبيل المثال، فسوف يتم قريباً فرض ضرائب أكثر من أي وقت مضى منذ الأربعينيات، وسيرتفع الإنفاق أكثر من أي وقتٍ مضى، ومع ذلك فإن الخدمات العامة تعاني بشكلٍ كبير.

اقرأ أيضاً: الشعبويـة لم تُهزم

وعلى الرغم من أن هيئة الخدمات الصحية الوطنية تمثل الآن 44% من الإنفاق اليومي على الخدمات العامة، فإنها ترزح تحت ضغط كبير. وبدرجات متفاوتة، يمكننا النظر إلى العالم الغربي، ورؤية الوضع نفسه. فقد تسببت جائحة كورونا في خسائر فادحة. والآن لدينا الصراع في أوكرانيا.

يقول بلير: “في أعقاب الأزمة المالية، نجحنا في تجنب الركود من خلال السياسات النقدية غير التقليدية وإعادة رسملة البنوك. ولم يكن هناك بديل واقعي، لأن السياسة شوهت اقتصاداتنا، وكافأت أولئك الذين لديهم أصول، بينما عاقبت من ليس لديهم أصول، واقترنت بالتقشف، ما أدى إلى خفض الخدمات التي يعتمد عليها أفقر الناس في المجتمع”.

الرئيس الأمريكي ريغان يخاطب الشعب حول تشريع تخفيض الضرائب للحد من آثار التضخم، 1981- أسوشيتد برس

حيث كانت العاقبة السياسية على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية هي تفشي الشعبوية. فقد شهدت الأحزاب التقليدية استيلاء جيلٍ جديد من النشطاء عليها، مما أزعج الساسة التقليديين، وألقى اللوم على النخب لما وصل إليه حال الشعب. لافتاً إلى أن اليمين أصبح قومياً مع التركيز على القضايا الثقافية، بقدر التركيز نفسه على القضايا الاقتصادية؛ وتحول اليسار إلى مزيج من الطراز القديم لسلطة الدولة كحل لعدم المساواة، وسياسات الهوية، مثل الراديكالية الجديدة. كما ظهرت أيضاً أحزاب جديدة، بعضها أخضر، وبعضها وسطي، وبعضها متطرف إلى أقصى اليسار واليمين.

اقرأ أيضاً: تضارب مصالح وإرث دموي.. ماذا يقول التاريخ عن مستقبل الاتحاد الأوروبي؟

وأكد رئيس الوزراء البريطاني الأسبق أن السياسة الغربية تعاني حالة من الاضطراب، فهي أكثر حزبية، وقبحاً، وغير منتجة؛ وتغذيها وسائل التواصل الاجتماعي، وكان لهذا عواقبه على السياسة الخارجية. يقول: “في الآونة الأخيرة وصف لي أحد القادة يأسهم من محاولة التوصل إلى أيّ اتساقٍ مع التفاعلات الأمريكية مع العالم. وقال وهو يصف إدارات كلٍّ من بوش، وأوباما، وترامب، والآن بايدن: “أكثر من اللازم؛ أقل من اللازم؛ غريب جداً؛ ضعيف جداً”. مؤكداً أنه قد رفض ذلك التوصيف، لأنه “غير عادل”.

الرؤساء ترامب وأوباما وكلينتون وكارتر وزوجاتهم خلال تأبين بوش الأب في الكاتدرائية الوطنية، 2018- أسوشيتد برس

وأضاف بلير: “في حالة كل رئيس هناك إنجازات كبيرة، كان آخرها حشد الرئيس بايدن لدعم أوكرانيا. ولكن في اعتقادي ما كان يعنيه حقاً، هو أن أولئك الذين يتعاملون مع الولايات المتحدة اليوم يشعرون بأن السياسة الداخلية الأمريكية تهيمن على السياسة الخارجية بطريقةٍ مدمرة لتماسك السياسات، وهو التحليل الذي يشاركنا فيه للأسف أولئك الذين ليسوا من أصدقائنا”.

سياسة داخلية مختلة وخارجية غير متوقعة

ولفت بلير إلى أن الأثر المترتب على ذلك هو تعرية السياسة الداخلية المختلة في نظر الشعوب الغربية؛ وبالنسبة للعالم الخارجي، تبدو السياسة الخارجية غير متوقعة. ولا يساعد أي منهما قضية الديمقراطية.

اقرأ أيضاً: جائحة فيروس كورونا ستغيِّر النظام العالمي إلى الأبد

وقال إنه بعد عشرة أعوام من تولي منصب رئيس الوزراء البريطاني، وخمسة عشر عاماً من الخبرة في العمل مع الحكومات من مختلف أنحاء العالم، قد تعلم شيئاً واحداً هو “أن الأمر كله يتعلق بالإنجاز”، سواء كان ذلك في الدول الديمقراطية أم لا. وهذا هو ما يدعم القادة والنظم أو يقوضهم. فالتحدي الذي تواجهه الديمقراطية يتمثل في الفعالية.

حيث يربط الخطاب السياسي كل شيء بالشفافية، والصدق، والموثوقية. وهي أشياء مهمة إلا أنها لا تتغلب على الإنجاز. وفي النهاية، لم يكن سبب سقوط بوريس جونسون هو الغضب حول فضيحة “بارتي جيت” فحسب، بل غياب خطة لمستقبل بريطانيا. وعندما انهارت الموثوقية، لم يتبق شيء جوهري للقتال من أجله.

متظاهرون مؤيدون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في شوارع لندن،2016- وال ستريت جورنال

وشدَّد بلير على أن الديمقراطية الغربية تحتاج اليوم إلى مشروعٍ جديد. “شيء يمنحنا التوجه، ويلهم الأمل، ويعطي تفسيراً موثوقاً للطريقة التي يتغير بها العالم، وكيف ننجح فيه”. وفيما يتعلق بالسياسة الداخلية، قال بلير: “من وجهة نظري الأمر كله يتعلق بتسخير الثورة التكنولوجية. وهذا هو أكبر تغيير يحدث في العالم الحقيقي. وسوف يعطل كل شيء. وينبغي أن يغير الطريقة التي تعمل بها الحكومات. وهو المعادل الخاص بالقرن الحادي والعشرين للثورة الصناعية في القرن التاسع عشر”.

اقرأ أيضاً: التهديدات المتزايدة لتغيرات المناخ في القرن الإفريقي

مشيراً إلى أن ذلك هو الحل الوحيد الذي يراه لضعف النمو والإنتاجية، وبالتالي رفع مستويات المعيشة؛ وهو الطريقة الوحيدة لتحسين الخدمات مع خفض التكاليف. ففي مجال الرعاية الصحية على سبيل المثال؛ نجده الحل الوحيد لتغير المناخ “إذا أردنا الحفاظ على التنمية، بالتوازي مع خفضنا للانبعاثات”. وقال إن المشكلة تكمن في أن سياسات القرن العشرين لليسار واليمين لا تتناسب حقاً مع الثورة التكنولوجية. فالساسة، الذين أصبحوا أكثر دراية باتساع المظالم السياسية، يجدونها “تكنوقراطية” للغاية، ويصعب فهمها على أيّة حال.

رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون يرد على الانتقادات داخل البرلمان البريطاني، 2021- فاينانشيال تايمز

لكن “إذا كنا نبحث عن مشروعٍ شامل للحوكمة المحلية الحديثة، فأنا أعتقد أن فهم الثورة التكنولوجية، والوصول إلى فرصها الهائلة، والتخفيف من مخاطرها التي لا شك فيها، هو الحل. ولحسن الحظ، تحتل بريطانيا مكانة جيدة في مجال التكنولوجيا، لكن الأمر يتطلب من السياسة أن تضعه في مركز الصدارة”. والواقع أن النقاش الدائر حالياً بين القيادات في حزب المحافظين حول “التخفيضات الضريبية”، والذي من المفترض أن يكون في مواجهة حزب العمال باعتباره حزب “الضرائب والإنفاق”، يبعث شعوراً محبطاً يذكرنا بفترة الثمانينيات، وفقاً لتصريحاته.

اقرأ أيضاً: معهد توني بلير: المجموعات الإسلامية اللا عنفية تعمل كمنصات لتجنيد الجهاديين

وبالنسبة للسياسة الخارجية، قال بلير إنه ينبغي أن تصبح أوكرانيا نقطة محورية لإحياء الشعور بالقضية. “ليس فقط بسبب روسيا، ولكن بسبب ما يعنيه ذلك فيما يتعلق بالصين”. واستطرد رئيس الوزراء البريطاني حول الصراع الدائر في أوكرانيا، قائلا إن هناك دولة أوروبية ديمقراطية مسالمة تعرضت لعمل عدواني ووحشي وغير مبرر، بهدف واضح هو قمع حريتها في اختيار طريقها الخاص. وبذريعةٍ سخيفة مفادها أنها تهدِّد المعتدي بطريقةٍ ما، هذا المعتدي الذي يؤمن بتفسير غريب للتاريخ الروسي ينزع الشرعية عن الأمة الأوكرانية.

وبالنسبة لخبراء السياسة الخارجية الغربية، كان ذلك بمثابة دلو شديد البرودة من الماء يُلقى فوق رأس شخص يجلس في مقهى يقرأ صحيفته بهدوء. وكان رد الفعل الأول إزاء غزو أوكرانيا هو الصدمة من الموت والدمار الرهيب الذي لا ضرورة له، وفقاً لبلير.

أعضاء النقابة العمالية يحرقون علم الاتحاد الأوروبي، وهم يغلقون مدخل وزارة المالية في أثينا احتجاجاً على إصلاحات نظام التقاعد الذي خططت له الحكومة، اليونان، 2016- يورونيوز

والذي أكد أنه بعد الصدمة، يأتي الإدراك وهو جوهر الإيمان بعقلانية الدول الكبرى، وأن الإرهابيين فقط هم الذين يتصرفون على هذا النحو. وأضاف: “يمكننا أن نشير إلى معركة شبه جزيرة القرم عام 2014 أو جورجيا عام 2008 ونقول إنه تم تحذيرنا”.

والحقيقة، بحسب بلير، أن هذه الحرب الشاملة التي شُنت لإخضاع دولة أوروبية ديمقراطية بأكملها لم تكن متوقعة. فقبل 6 أشهر، كانت فكرة غزو بوتين لدول البلطيق أو السويد تُعتبر من قبيل الخيال. والآن، ولسببٍ وجيه، يدرك قادة تلك البلدان أنهم بحاجة إلى حلف شمال الأطلسي.

نقطة التحول التاريخي

وحول موقفه من غزو أوكرانيا، قال بلير إنه في بداية الصراع جادل من أجل استراتيجية مزدوجة لأوكرانيا تتضمن أكبر قدرٍ ممكن من الدعم العسكري الذي يمكن تقديمه، دون الانضمام إلى القتال بشكلٍ مباشر، بالإضافة إلى أقسى العقوبات؛ حتى تتمكن الاستراتيجية العسكرية من خلق النفوذ لحلٍّ تفاوضي، وبشروطٍ مقبولة لأوكرانيا وشعبها. وأنه مازال يدافع عن هذا النهج.

اقرأ أيضاً: ماذا يريد العالم من جو بايدن؟

وتساءَل عما تعنيه أوكرانيا بالنسبة للسياسة الخارجية الغربية الأوسع نطاقاً. وقال إنه قبل بضع سنوات، تساءَل الكثير من الناس في الغرب عن الحاجة إلى ما يسمى “بالسياسة الغربية”. وقد بدا الأمر استفزازياً بعض الشيء، بل وحتى عدوانياً، خاصة بعد سقوط جدار برلين، وما بعد الحادي عشر من سبتمبر. لكن حرب أوكرانيا محَت هذا التساؤل، إلى حدٍّ كبير.

جنود ورجال إطفاء أوكرانيون يبحثون عن أحياء في مبنى مدمر بعد هجوم بالقنابل في كييف بأوكرانيا، 2022- أسوشيتد برس

ومع ذلك، فإن أكبر تغيير جيوسياسي في هذا القرن سيأتي من الصين، وليس روسيا، وفقاً لبلير الذي قال “نحن نقترب من نهاية الهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية. وسيكون العالم على الأقل ثنائي القطب، وربما متعدد الأقطاب“. حيث أصبحت الصين بالفعل القوة العظمى الثانية في العالم.

وبالرغم من أن روسيا تتمتع بقدرٍ كبير من القوة العسكرية، لكن كما كشفت حرب أوكرانيا، فإن لديها أيضاً بعض نقاط الضعف العسكرية. كما أن حجم اقتصادها يعادل 70% من حجم اقتصاد إيطاليا. لكن قوة الصين تشكل مستوى مختلفاً تماماً. حيث يبلغ عدد سكانها أكثر من 1.3 مليار شخص، أي أكثر بكثير من عدد سكان أوروبا وأمريكا الشمالية مجتمعين.

اقرأ أيضاً: استراتيجية الصين الكبرى: الاتجاهات والمسارات والتنافس طويل المدى

كما يقترب اقتصادها من التكافؤ مع اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى مدى العقدين الماضيين، سعَت إلى مشاركة نشطة وناجحة مع العالم، وأقامت روابط معه، و”كما أستطيع أن أشهد، هناك تردد كبير، حتى من جانب الحلفاء الأمريكيين التقليديين، في التخلي عن هذه الروابط”. فالصين لديها حضارة قديمة، وثقافة بارزة، وشعب متعلم بشكلٍ جيد، ويزدهر بشكلٍ متزايد. لذا، فإن مكانة الصين كقوة عظمى هو أمر طبيعي ومبرر، بحسب رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الذي لفت إلى أن الصين ليست الاتحاد السوفيتي.

الرئيس بوتين مع توني بلير قبل افتتاح مؤتمر الطاقة الدولي في لانكستر هاوس بوسط لندن، 2003- موقع الكريملين

وعلق بلير على سياسات الرئيس الصيني قائلاً إنه في الآونة الأخيرة أعاد تأسيس السلطة العليا للحزب الشيوعي، ولم يُخف ازدرائه لـ”الانحطاط” الغربي، أو إعجابه الشخصي بالرئيس بوتين ونوعية قيادته. وهو يعتزم البقاء في السلطة لعقدٍ آخر على الأقل، وطموحه الواضح وغير المخفي هو إعادة تايوان إلى سيطرة بكين. حيث تشكل هونغ كونغ دليلاً على ذلك. وبالتالي “من المستحيل عملياً أن نتصور أن تايوان سوف تعود طواعية، ومن هنا ينشأ الخوف من أن تستخدم الصين القوة بدلاً من الإقناع“.

اقرأ أيضاً: لماذا أخفق الخطاب السياسي المبني على الأمل؟

وأضاف بلير أن الصين استطاعت الآن اللحاق بأمريكا في العديد من مجالات التكنولوجيا، ويمكن أن تتفوق عليها في مجالاتٍ أخرى. وأن نقطة التحول التاريخي تلك تختلف نوعياً عما حدث في عامي 1945 أو 1980. فهذه هي “المرة الأولى في التاريخ الحديث التي يصبح فيها الشرق على قدم المساواة مع الغرب“. بينما في كل من نقطتي التحول الأخريين، كانت الديمقراطية الغربية بشكلٍ أساسي في صعود. غير أن هذا لا ينطبق على عام 2022 أو على الأقل ليس واضحاً بعد. وتكمن أهمية أوكرانيا في أنها توضح، ونتيجة لتصرفات بوتين، أنه لا يمكننا الاعتماد على الصين لتتصرف بطريقةٍ نعتبرها عقلانية.

قال بلير إن حرب أوكرانيا أظهرت نقاط ضعف الجيش الروسي، وفي الصورة تظهر الصواريخ الروسية على حدود بيلاروسيا قبيل الهجوم على كييف- بلومبيرغ

وقال بلير: “أرجو ألا تسيئوا فهم ما أقول، فأنا لا أقول إنه على المدى القريب ستحاول الصين الاستيلاء على تايوان بالقوة. لكننا لا يمكننا أن نبني سياستنا على اليقين بأنها لن تفعل ذلك. وحتى إذا نحَّينا تايوان جانباً، فإن الواقع هو أن الصين تحت قيادة “شي” تتنافس على النفوذ، وهي تفعل ذلك بقوة”. مؤكداً أن الصين لن تكون وحدها في هذا المسار، بل سوف يكون لها حلفاء، هم روسيا بالتأكيد، وربما إيران. لكن في مختلف أنحاء العالم، سوف تنجذب الدول نحوها، كما ينبغي أن نتعلم من الانقسامات التي تجلت في مجموعة العشرين بشأن أوكرانيا.

اقرأ أيضاً: غبار الغزو الروسي لأوكرانيا سيكشف عن أوروبا مختلفة

وشدَّد بلير على أن التحالف مع الصين سيكون أحياناً بدافع المصالح، وأحياناً من منطلق كره الغرب. وفي أحيانٍ أخرى لأن القادة يشتركون في الميل إلى النموذج غير الديمقراطي. كما سيتم استمالة الدول بشكلٍ جزئي. غير أن الصين لن تتنافس على القوة فحسب، بل أيضاً ضد “نظامنا وأسلوبنا في الحكم والحياة”. وحتى الآن على أقل تقدير، هذا هو الاختبار الحاسم. وبصفة شخصية، قال بلير: “أنا أؤيد سياسة تجاه الصين أسميها “القوة بالإضافة إلى المشاركة”. حيث يجب أن نكون أقوياء بما يكفي للتعامل مع أي من تصرفات الصين في المستقبل، وحتى نتمكن من الحفاظ على نظامنا وقيمه”. لكن لا ينبغي أن نسعى إلى “فصل” شامل أو إغلاق خطوط التفاعل أو التعاون. “فنحن حذرون لكننا لسنا معاديين”.

الرئيس الصيني يرفع كأسه تحية للقادة الذين يحضرون منتدى الحزام والطريق في بكين، 2019- فرانس برس

وأضاف: “ينبغي أن نُظهر أن مواقفنا تتغير، مع تغير المواقف الصينية تجاهنا؛ وأننا نتقبل مكانة الصين كقوة عالمية؛ وأننا نحترم ثقافة الصين وشعبها“. كما يجب أن يتأمل الجميع الشأن الصيني دائماً، فهي لا تملك نظاماً سياسياً متجانساً على النحو نفسه الذي تتبناه روسيا.

اقرأ أيضاً: لماذا يحوم التنين الآسيوي حول الشرق الأوسط؟

مؤكداً أن الرئيس “شي” سوف يحصل على ولاية جديدة. إلا أنه ليس منيعاً، وكما أظهرت سياسته بشأن كوفيد، فإن قيادة الرجل تحمل في طياتها ضعفاً متأصلاً عندما يخشى الناس تحدي ما ينبغي لهم أن يواجهوه. وبالتالي “نحن بحاجة إلى أن نكون منفتحين على إمكانية تغيير الصين. ولكن أيضاً أقوياء بما يكفي لتحملها إذا لم تتغير”. ولتحقيق هذه الغاية يحتاج الغرب إلى استراتيجية. فلا يوجد مشروع ناجح بدون استراتيجية يتم تنفيذها من خلال التنسيق والالتزام والكفاءة.

التقدير الجاد للواقع

وعن كيفية مواجهة القوى الصاعدة، قال توني بلير إن الشراكة عبر الأطلسي بين أوروبا وأمريكا هي صميم استراتيجية التعامل مع الصين. حيث يحتاج الأمر إلى الاتفاق والتفاعل بين الحلفاء الرئيسيين من الدول المتقدمة، مثل اليابان وكندا وأستراليا، وتلك الموجودة في العالم النامي، وخاصة في الشرق الأوسط والأقصى. “فنحن نحتاج إلى الاتفاق على أهدافنا والالتزام بها”.

صعدت الصين إلى المرتبة الثانية في العالم من حيث الاقتصاد متفوقة على اليابان، بحسب بيانات البنك الدولي- سي أن بي سي

وأكد بلير أن الولايات المتحدة سوف تقود هذه الاستراتيجية، لكن يجب إشراك الحلفاء في صياغة وتنفيذ السياسات. مشيراً إلى أن الغرب بحاجة إلى قادة سياسيين مستعدين للوقوف في وجه الضغوط السياسية الداخلية. إذ أنه “كثيراً ما يكون هناك تمييز فج بين السياسة الخارجية (الواقعية) المجردة من المبادئ، والسياسة الخارجية “التي تحركها القيم” وينتهجها الناس المحترمون”.

اقرأ أيضاً: مكيافيلي وكيسنجر.. والواقعية في العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين

لكن القيم لا يمكن حمايتها ما لم نكن أقوياء بما يكفي للتغلب على أولئك الذين يعارضونها، وفقاً لبلير الذي قال إن “القوة لا تنبع من التمني بل من التقدير الجاد للواقع. فالحكومات ليست منظماتٍ خيرية، والقادة لا يكتبون التعليقات؛ بل يصنعون السياسة”. وتساءَل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق عما يعنيه ذلك من الناحية العملية؟

مجيباً أنه يجب على الحكومات أن تزيد من الإنفاق الدفاعي، وأن تحافظ على التفوق العسكري. فالولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تمتلك أكبر جيش في العالم، وأفضله تجهيزاً. لكنها، وكذلك بريطانيا، ينبغي أن تكون متفوقة بما يكفي لمواجهة أيّة احتمال أو نوع من الصراع في جميع المجالات.

حذر بلير من إمكانية استخدام الصين للقوة، خصوصاً ما يتعلق بملف تايوان، وفي الصورة يظهر الرئيس “شي بينغ” مع جنود البحرية الصينية عام 2019- وال ستريت جورنال

وقال بلير إن الأمن السيبراني هو الحدود الدفاعية الجديدة، وهو يتطلب استجابةً منسقة عالمياً. لافتاً إلى أن أداء الغرب كان مؤسفاً في مجال “القوة الناعمة”، خلال السنوات الأخيرة، على الرغم من أنه لحسن الحظ، هناك مؤشرات على أن إدارة بايدن بدأت في تصحيح المسار.

وأضاف بلير: “أنا أرى ذلك باستمرار مع مؤسستي التي تعمل في جميع أنحاء إفريقيا، وجنوب شرق آسيا”. كما حذَّر من أن الصين ليست وحدها، بل أن روسيا وتركيا، وحتى إيران، يضخون الموارد في العالم النامي، ويغرسون جذوراً عميقة في المجالات الدفاعية والسياسية. في الوقت نفسه، كان الغرب والمؤسسات الدولية التي تسيطر عليها البيروقراطية، وتفتقر إلى الخيال، غالباً ما “تتدخل على المستوى السياسي دون فاعلية”.

شاهد: فيديوغراف.. قوى العالم الجديد تعيد صياغة قوانين اللعبة السياسية

وأكد بلير أنه لايزال هناك فرصة عظيمة لتصحيح المسار. حيث تفضِّل الدول النامية التجارة الغربية. “وهم الآن أكثر تشككاً في التعاقد مع الصين، عما كانوا عليه قبل عقد من الزمن”. كما أنهم يقدرون النظام الغربي أكثر مما يتصور الغرب نفسه. و”لكننا بحاجة إلى جعل مؤسساتنا وحكوماتنا أكثر مرونة، وأكثر قدرة على الاستجابة للاحتياجات الحقيقية للبلدان، والتنسيق فيما بيننا”.

الشراكة مع إفريقيا والشرق الأوسط

وضرب توني بلير مثالاً عما ينتظر صناع السياسة في الغرب من جهة القارة الإفريقية قائلاً: “في منطقة الساحل، هناك انتظار للانفجار التالي للهجرة والتطرف. وينبغي لنا أن نستعد الآن لمنع ذلك”. مشيراً إلى أن عدد سكان إفريقيا سوف يتضاعف خلال الثلاثين عاماً القادمة، مع انخفاض الكتلة السكنية في الصين.

(من اليسار) رئيسة المفوضية الأوروبية، والرئيس السنغالي، ورئيس المجلس الأوروبي، والرئيس الفرنسي، بعد مؤتمر صحفي في اليوم الثاني من قمة الاتحاد الأوروبي للاتحاد الإفريقي في بروكسل، بلجيكا، 2022- رويترز

و”يتعين علينا أن نساعد الجيل الجديد من القادة الأفارقة على تحقيق النمو المستدام، وإصلاح الزراعة حتى لا تعاني البلدان التي بها مساحات كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة من انعدام الأمن الغذائي، ومعالجة وإضافة قيمة إلى السلع التي يمتلكونها بوفرة”. وأضاف: “الواقع أن إعلان مجموعة الدول الصناعية السبع عن “شراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار” بقيمة ستمائة مليار دولار كان بمثابة استجابة محمودة، لكنها تأخرت كثيراً في مواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية”.

اقرأ أيضاً: العالم عاجز عن مواجهة الهجرة

وصرح بلير بأن حملة تطعيمات “جرعة واحدة” سوف تنطلق قريباً لضمان إتاحة الجيل الجديد من اللقاحات والحقن لأمراض مثل الملاريا والسل وحمى الضنك، وحتى فيروس نقص المناعة/الإيدز للعالم النامي، وفي أماكن أخرى. مشيراً إلى أنها فرصة على الغرب اغتنامها لمساندة قارة إفريقيا عبر قيادة تلك الحملة، وإنقاذ ملايين الأرواح.

كما يجب ألا يتخلى الغرب عن القيادة في الشرق الأوسط بحسب بلير، الذي قال إن هذا لا علاقة له بالنفط أو حتى الأمن بالمعنى الضيق للعمل مع الحلفاء لإحباط أعمال الإرهاب المخطط لها. وأشار إلى أن حركة التحديث التي تجتاح المنطقة -والتي ظهر دعمها الإقليمي الواسع بوضوح من خلال استطلاع معهده ونشر في وقتٍ سابق- تشكل أهمية بالغة بالنسبة لأمن أوروبا على المدى الطويل.

توني بلير مع سمو الشيخ محمد بن زايد خلال حضوره مراسم عقد اتفاق أبراهام التاريخي، الإمارات، 2020- الخليج تايمز

وقال بلير: “إن اتفاقات إبراهام التي شاركت فيها، هي دليل على أن الشرق الأوسط يتغير. إنها حرفيا اللحظة الأسوأ للتخلي عنه”. لافتاً إلى أن الغرب يمتلك ببعض المؤسسات التي تتمتع بالقوة الثقافية الناعمة، مثل المجلس الثقافي البريطاني، وهيئة الإذاعة البريطانية. وأنه يتعين على الساسة دعم تلك المؤسسات. وينبغي أن يستمر الغرب في قيادة المناقشات المتعلقة بالمناخ.

وأضاف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق قائلاً: “كما تتوقعون مني أن أقول، يجب أن نكون رواداً في مجال التكنولوجيا. حيث يمكن تحويل مجلس التجارة والتكنولوجيا الأمريكي الأوروبي إلى جزءٍ فعّال من آلية صنع القرار السياسي الجماعي”.

اقرأ أيضاً: الأمن الأوروبي يتطلب نهجًا جديدًا للتعامل مع الصراعات الدولية

وشدَّد على أنه يتعين على الغرب ضمان ألا تؤدي المخاوف المشروعة بشأن خصوصية البيانات، وإساءة استخدام التكنولوجيا، إلى تقييد الإبداع أو “خسارة ميزتنا التنافسية”. كما أنه من المفيد تبنى نهجٍ مشتركٍ للتنظيم. وتقديم الدعم للأصدقاء فيما يتعلق بأمن سلاسل التوريد. على ألا “يتحول ذلك إلى توجه عام ضد العولمة لصالح الحمائية”، لأن مثل هذا التوجه سوف يلحق الضرر بالجميع، على حد قوله.

قبضة سياسية عميقة

واختتم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير كلمته بالإشارة إلى ضرورة إظهار قوة البقاء والالتزام تجاه المواقف الصعبة، خصوصاً ما يمر به العالم حالياً، وحتى عندما لا يحظى الأمر بالشعبية. وقال إن هذا هو أحد الدروس المستفادة من تجربة الانسحاب من أفغانستان، وكذلك تخفيض المشاركة في العراق وليبيا.

الرئيس الروسي والإيراني والتركي، قبل محادثاتهم في طهران- أسوشيتد برس

وأكد أن هذا النهج “يجب أن يشمل حلفاءنا. وإذا كانت لدينا خلافات بشأن حقوق الإنسان، فيجب أن نقول ذلك، لكن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من دعمهم عندما يواجهون تهديداتٍ مشتركة لنا جميعاً”.

كما أشار إلى أن الهند التي تستطيع، بل وينبغي لها، أن تكتسب مكانة القوة العظمى، والتي تُعَد أضخم ديمقراطية في العالم، لابد وأن تظل في قائمة أولويات السياسة الغربية. فضلاً على بناء علاقات قوية مع الدول الناشئة مثل إندونيسيا.

اقرأ أيضاً: الاقتصاد العالمي..الانتكاس والتعافي

وأضاف بلير: “إن الناس في جميع أنحاء العالم بحاجة إلى رؤية أننا نعرف ما نفعله، وأن لدينا استراتيجية، وأننا نعمل وفقاً لخطة لا تتم صياغتها من خلال الأحداث الرائجة على موقع تويتر، ولكن من خلال قبضة سياسية عميقة. وحتى لو كانت الولايات المتحدة تقودنا، فإن لنا جميعا دوراً يتعين علينا أن نلعبه”.

وحول ملف الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، قائلا: “من الضروري أن تعيد المملكة المتحدة بناء علاقة معقولة مع أوروبا، حتى يتسنى لنا العمل معاً من أجل مصلحتنا المشتركة مع الدول الأخرى في القارة التي ننتمي إليها، ويتوافق مع القيادة الأمريكية”.

البروفيسور كلاوس شواب، والدكتور أنس الفارس، خلال توقيع اتفاقية تعاون في إطار التنويع الاقتصادي بعيداً عن النفط، 2019- وكالة الأنباء السعودية

واصفاً ذلك النهج بأنه “مشروع السياسة الخارجية للديمقراطية الغربية في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، والذي يهدف لحماية قيمنا وطريقة حياتنا في عصر الصين، ليست التي تنهض بل التي نهضت، تماماً كما حدث في عامي 1945 أو 1980″. وبنبرةٍ متفاءلة، قال بلير: “بوسعنا أن ننجح. حيث إن أحد الدروس التي تعلمتها من الوقت الذي قضيته في العالم منذ أن تركت منصبي، هو أن الروح البشرية تتوق في النهاية إلى أن تكون حرة، وهذه الروح لا يمكن سحقها”.

اقرأ أيضاً: خبير أمريكي يتوجس من توجه سعودي جديد نحو أسواق الصين وروسيا

ففي نهاية المطاف بحسب رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، فإن هذا هو ما يحفز الشعب الأوكراني الشجاع على تحمل المعاناة في مثل هذه المحنة. “وهم يفعلون ذلك لأنهم يعرفون أن الحرية تستحق القتال من أجلها”. كما ينبغي أن ينبهنا الخطر الذي يتعرضون له إلى مسؤولياتنا. حيث تفككت الافتراضات القديمة، وأصبح العالم الآن يتحرك بوتيرته الخاصة ولن ينتظرنا”.

صورة جماعية لأصحاب السمو شيوخ ورؤساء الدول العربية والخليجية مع الرئيس بايدن على هامش قمة جدة للأمن والتنمية، 2022- فرانس برس

وأعاد بلير التشديد على نقطة التحول التاريخي الذي يحدث الآن في بعض النواحي، والتي تعد أكثر خطورة من تلك التي شهدها العالم عام 1945 أو عام 1980. حيث قال: “نحن بحاجة إلى التنظيم، والثقل الفكري، والتركيز المستمر، والشعور بالهدف المشترك واستراتيجية مشتركة لتحقيقه“. مؤكداً أن هذا لن يحدث ما لم يعالج الغرب سياساته.

اقرأ أيضاً: كيف ترى دول الشرق الأوسط مكانتها في النظام الدولي بعد الأزمة الأوكرانية؟

كما تساءل عن اللحظة التي وصلت فيها بريطانيا إلى مرحلة تولي نايجل فاراج، وجيريمي كوربين، مهمة صياغة سياستها، ولو لفترة قصيرة لكنها مهمة؟ أو كيفية وصول أمريكا إلى مرحلةٍ يدل فيها تلقي التطعيم على الولاء السياسي؟!

وقد أجاب قائلا: “يجب أن يتوقف الجنون في سياساتنا. فنحن لا يمكننا تحمل ترف الانغماس في الخيال. نحن بحاجةٍ إلى إعادة العقل والاستراتيجية إلى سياستنا. ويجب القيام بذلك على وجه السرعة”.

المصدر: معهد توني بلير للتغيير العالمي

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة