الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
تعلُّم التعايش مع الإرهاب …عقيدة “جيد بما فيه الكفاية”

كيوبوست- ترجمات
♦دانييل بايمان
يسلط هذا المقال الضوءَ على السياسات التي اتبعتها الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب، سواء داخل الأراضي الأمريكية أو خارجها؛ فقد حققت سياسات الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب، منذ هجمات 11 سبتمبر، عدة نجاحات باهرة، كما تكبدت خسائر فادحة. فقد اضمحلَّت التنظيمات الجهادية؛ مثل “القاعدة”، و”الدولة الإسلامية” في العراق والشام (داعش)، وتمكنت الولايات المتحدة -نتيجة لذلك- من تجنب وقوع كوارث مروعة شبيهة بهجمات سبتمبر، وهذا ما أتاح لرئيس الولايات المتحدة الحالي جو بايدن، توجيه أنظار واشنطن نحو الصين، والتغير المناخي، وغيرهما من الشؤون التي تحتاج إلى النظر فيها، إضافةً إلى قرار سحب القوات الأمريكية من أفغانستان، في خطوة لإنهاء الحروب التي سُميت “الحروب الأبدية”.
ولكن في الوقت ذاته، أخفقت سياسات الولايات المتحدة التي اتبعتها خلال ما سُمِّي “الربيع العربي” لتغيير أنظمة الحكم في الشرق الأوسط، واكتساب ثقة المسلمين في العالم. فعلى الرغم من تراجع قوة “داعش” و”القاعدة”؛ فإنهما تمكنا من الصمود في وجه ضغوطٍ هائلة، وإن لم يتوسعا كما كانا يطمحان. وفي يومنا هذا، زاد عدد الدول التي تواجه خطر الإرهاب، إضافة إلى نشاط “القاعدة” و”داعش”، وغيرهما من التنظيمات الحليفة لها، في الحروب الأهلية الجارية حول العالم.
ويرى المقال أن الولايات المتحدة يبدو أنها اكتفت بتحقيق انتصارٍ جيد بما فيه الكفاية، بدلاً من الانتصار الحاسم، وأدركت أن التخلص من الإرهاب الجهادي نهائياً ربما يكون أمراً مستحيلاً، أو أنه مكلف للغاية؛ فعملت على تقليل الخطر المحدق للإرهاب، بحيث يتضاءل خطر الإرهاب وعدد القتلى من المواطنين الأمريكيين، وبالتالي لا يؤثر على حياتهم اليومية داخل أراضي الولايات المتحدة.
وبالتزامن مع تزايد شكوك واشنطن في قدرة عمليات مكافحة الإرهاب واسعة النطاق على تغيير مجتمعات بأكملها، ركزت الإدارات الثلاث الأخيرة (أوباما، وترامب، وبايدن) على إبقاء التنظيمات الإرهابية ضعيفة، وغير مستقرة. فبمزيجٍ من الاستخبارات، والعمليات العسكرية، وجهود الأمن الداخلي، تمكنت تلك الإدارات من ضمان بقاء المعركة “هناك” بعيداً عن الولايات المتحدة، لدرجة أنها أصبحت معزولة عن خطر الإرهاب بشكلٍ كامل تقريباً. ولا يزال الفكر الجهادي موجوداً في أنحاء العالم خارج الولايات المتحدة، ولن يزول في المدى القريب، إلا أن توجهات الولايات المتحدة الحالية تبدو مجدية سياسياً وفعالة نسبياً لحل المشكلة؛ فالانتصار الجيد بما فيه الكفاية كان بالفعل جيداً بما فيه الكفاية.
اقرأ أيضاً: “لا توجد كابول إفريقية”.. فهل ستُنقل الحرب على الإرهاب إلى إفريقيا؟
تشير بيانات مركز الأبحاث “نيو أمريكا” إلى أن 107 أمريكيين لقوا مصرعهم نتيجة هجمات جهادية إرهابية ضمن أراضي الولايات المتحدة، علماً بأن نصفهم تقريباً كانوا من ضحايا مجزرة ملهى بالس (Pulse Nightclub) في مدينة أورلاندو، ضمن ولاية فلوريدا، والتي حدثت على يد عمر المتين عام 2016، الذي أعلن ولاءَه لـ”داعش”.
أما أوروبا، فقد عانت عنفاً أكبر بكثير؛ ففي عام 2015 شهدت مدينة باريس أمسية مروعة جداً، عندما قتلت مجموعة من انتحاريي “داعش” المفخخين 130 شخصاً في سلسلة من الهجمات المنسقة. مع العلم أن أوروبا، ونظراً لقوانينها الصارمة بشأن حيازة السلاح، عانت كثيراً جرائم الطعن وغيرها من الهجمات ذات الضحايا القليلة. نتيجةً لتراجع قوة “داعش”، تراجعت معها الهجمات التي كانت تحصل على جانبَي المحيط الأطلسي. فاعتباراً من منتصف يوليو للعام الحالي، لم تتعرض الولايات المتحدة إلى أية هجمة إرهابية داخل أراضيها، منذ أن قام طالب سعودي مرتبط بـ”القاعدة” بقتل ثلاثة بحارة في قاعدة بحرية في فلوريدا في ديسمبر 2019. وشهدت أوروبا أيضاً تراجعاً في ضحايا العمليات الإرهابية التي وصلت إلى ذروتها خلال عامَي 2015 و2016.

ويتحدث كاتب المقال عن المجتمع الأمريكي المسلم، كونه من أهم وأكثر العوامل الحساسة التي أبقت الولايات المتحدة آمنة؛ فبعد أحداث سبتمبر خشي المسؤولون الأمريكيون من أن يكون وطنهم قد بات موطناً لمجتمعٍ من المسلمين الغاضبين، والأشخاص المتعاطفين مع “القاعدة” والخلايا النائمة. وحذَّر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، روبرت مولر، في عام 2003، من أن “أكبر خطر على الولايات المتحدة يكمن في الخلايا النائمة التابعة لـ(القاعدة) التي لم يتم خرقها بعد”.
وتبين لاحقاً أن هذه المخاوف لم ترتكز على معطياتٍ واقعية. مقارنةً بالمسلمين الأوروبيين، يتمتع المسلمون الأمريكيون بالتجانس مع المجتمع المحيط بهم، فالجدير بالذكر أن مستواهم التعليمي، ومردودهم المالي مساوٍ، وفي بعض الأحيان أعلى، ممن هم من غير المسلمين. فعلى الرغم من محاولة بعضهم السفر للانضمام إلى صفوف “داعش”؛ فإن أعداد هؤلاء الأشخاص أقل بكثير من أعداد المسلمين الأوروبيين الذين حاولوا فعل ذلك. والأهم من كل ذلك هو تعاون المسلمين الأمريكيين الشديد مع السلطات المحلية ومكتب التحقيقات الفيدرالي الذي صعَّب قيام الخلايا النائمة والمتطرفين بتنظيم وتخطيط أية عمليات إرهابية.

ويشير المقال إلى أن الحركات الجهادية تعاني عدداً من نقاط الضعف التي تضعف قدرتها على القيام بالعمليات الإرهابية. فعلى سبيل المثال، شهد “القاعدة” وهو في أوج قوته الكثير من الخلافات في تحديد الأولويات: هل يقاتل المحتلين الأجانب، أم يطيح بالأنظمة المرتدة الموجودة في الشرق الأوسط، أم يجلب الحرب إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية؟ ونمت هذه الخلافات أكثر في يومنا هذا حتى أصبحت انقسامات؛ حيث أصبحت الفصائل تختلف في ما بينها حول الوقت المناسب لإعلان دولة إسلامية وكيفية إعلان دولة إسلامية، وكيفية التعامل مع الأشخاص غير المؤمنين وغير المتدينين من المؤمنين.
اقرأ أيضاً: تقرير أممي: استمرار تهديد الجماعات الإرهابية خلال النصف الأول من 2021
ويلفت كاتب المقال النظر إلى أن “القاعدة” لم يعد يتمتع بملاذ آمن مثل الذي كان يتمتع به قبل هجمات 11 سبتمبر. ففي الفترة السابقة للهجوم، هاجر أكثر من 10,000 متطوع إلى أفغانستان، التي كانت تحت سيطرة “طالبان”، للالتحاق بمعسكرات تدريبية تابعة لتنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات العسكرية. كان ذلك الملاذ قوة موحّدة جعلت “القاعدة” أكثر فتكاً، وسمح لقادته بجمع المقاتلين والمجموعات الجهادية من أنحاء العالم تحت مظلة واحدة.
أما اليوم، فـ”القاعدة” يحاول أن يكتفي بالملاذات الآمنة المصغرة الموجودة في أنحاء الأرض. واليوم، ينتشر “القاعدة” و”داعش”، وغيرهما من التنظيمات الجهادية، ضمن مناطق الحروب في العالم الإسلامي؛ حيث يقوم أفراد هذه التنظيمات بحمل السلاح وتوطيد علاقاتهم مع بعضهم بعضاً، إلا أنهم يقاتلون في هذه الحروب الأهلية، ولا يقومون بأعمال الإرهاب العالمية. لذلك لا يتلقون التدريب الذي تلقاه الجهاديون السابقون، إضافةً إلى قيام القادة المحليين بتعيين النخبة من هؤلاء الجهاديين في مناصب حساسة ضمن المناطق التي تشهد صراعاتٍ محلية، بدلاً من تعيينهم في عمليات إرهابية دولية. فعلى سبيل المثال، معظم المتطوعين الأجانب (الذي بلغ عددهم نحو 40,000 مقاتل) الذين التحقوا بصفوف “داعش” في الحرب الأهلية في سوريا قاتلوا في سبيل حماية الخلافة الإسلامية في العراق وسوريا، وليس في سبيل الإرهاب الدولي.

بالإضافة إلى ما سبق، تضغط الولايات المتحدة وحلفاؤها على الفروع المحلية لتلك التنظيمات؛ ما يدفع بهؤلاء الحلفاء إلى تخليهم عن تنظيماتهم الأم. مثال على ذلك تنظيم جبهة النصرة، الذي كان من حلفاء “القاعدة” في سوريا التي كانت إحدى أهم ساحات المعارك للحركة الجهادية في العقد الأخير؛ فقد أعلن التنظيم انفصاله عن “القاعدة” في عام 2016، ورفض قائده أبو محمد الجولاني أي هجوم على الولايات المتحدة وأوروبا.
اقرأ أيضاً: تيار بوكو حرام المعتدل ومعضلة مكافحة الإرهاب النيجيرية
ويشرح كاتب المقال كيف غدَت إيران ملاذاً آمناً من الدرجة الثانية بالنسبة إلى “القاعدة”؛ فحسب تقرير وزارة الخارجية الأمريكية السنوي حول الإرهاب لعام 2020، أنه منذ هجمات سبتمبر “استمرت طهران بالسماح لشبكة تقدم خدماتٍ لتنظيم القاعدة بالعمل ضمن إيران، بتحويل الأموال وإرسال المقاتلين إلى مناطق القتال في أفغانستان وسوريا، كما سمحت لأعضاء تنظيم القاعدة بالإقامة داخل إيران”. بسبب امتلاك إيران شبكة فعالة من مضادات الطيران، وعدم رغبة الولايات المتحدة في الدخول في حرب موسعة مع طهران، لا توجه الولايات المتحدة أية ضربات مسيرة أو مباشرة على أعضاء “القاعدة” البارزين؛ ما يمنحهم شعوراً بالطمأنينة في إيران. ولكن يظل “القاعدة” يتوخى الحذر من العمليات المضادة للإرهاب داخل إيران، ففي عام 2020، قامت وحدة إسرائيلية -تعمل بأمر من الولايات المتحدة وفقاً لمقابلات أجرتها صحيفة “نيويورك تايمز” مع مسؤولي استخبارات- باغتيال “أبو محمد المصري”، أحد قادة “القاعدة” رفيعي المستوى داخل إيران.
تضع إيران قيوداً كثيرة على مسؤولي “القاعدة” الذين يعيشون فيها؛ فقد كشفت مستندات خاصة بـ”القاعدة” حصلت عليها الولايات المتحدة أن بعض المسؤولين في تنظيم القاعدة قرروا الانتقال إلى إيران؛ نتيجة يأسهم بعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر، وأن علاقة التنظيم بالحكومة الإيرانية اتسمت بالشك والعدائية. فقد اعتُبر أعضاء “القاعدة” المقيمون في إيران أسرى، أو في أحسن الأحوال أوراقاً للمساومة، وليسوا ضيوفاً كراماً. بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود علاقات مع إيران، وهي القوة الشيعية التي يكرهها أغلب السُّنة المتدينين، أمر غير مرحب به من قِبل الجهاديين إطلاقاً، ويسبب حرجاً إذا خرج للعلن.
ويتوقع الكاتب أن يؤدي انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان إلى استعادة تنظيم “القاعدة” بعضاً من حرية التصرف في البلاد، وأن حركة طالبان قد تدعم -أو تغض النظر عن- الوجود الكبير لقيادات “القاعدة”، ومنح التنظيم حرية التدريب والتخطيط والتجنيد في المنطقة، كما كانت تفعل قبل هجمات 11 سبتمبر. أو بدلاً من ذلك، قد تقوم الحركة بالتعاون مع مقاتلي “القاعدة” للتغلب على أعدائهم المشتركين في أفغانستان، مع قيامها في الوقت نفسه بإحباط العمليات الإرهابية الدولية. في الوقت الحالي، لا يمكن تحديد أي من قادة “طالبان” الأفغان سيدعمون الضربات المباشرة على الولايات المتحدة، فحتى قبل هجمات 11 سبتمبر، أبدى العديد من داعمي “طالبان” المرموقين مناهضتهم الضربات المباشرة، على الرغم من عدم قيامهم بأي شيء يُذكر لإيقافها.

ومن ناحيةٍ أخرى، فلن ينهي انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان قدرتها على التأثير على الوضع في المنطقة؛ حيث ستقوم واشنطن بالاحتفاظ بخياراتها الدبلوماسية من عقوبات وضغوط متعددة الأطراف للتأثير على سلوك “طالبان”. كما تقوم الولايات المتحدة أيضاً بخلق مجموعة من القواعد والترتيبات اللوجستية التي ستسمح لقواتها المسلحة بضرب أهدافها في أفغانستان وباكستان بعد انسحابها من المنطقة. لن تكون هذه الترتيبات بديلاً عن الوجود الحقيقي للولايات المتحدة في المنطقة، إلا أنها قد لا تترك الحرية المطلقة لـ”القاعدة” للقيام بالتخطيط أو إجراء معسكرات تدريبية واسعة النطاق. ويمكن القول إن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان يمثل انتصاراً لـ”القاعدة”؛ ولكن لا يمكننا الجزم بحجم هذا الانتصار.
اقرأ أيضاً: نجاح بن لادن الكارثي
ويتطرق الكاتب إلى الحديث عن “الملاذات الافتراضية” التي يلجأ إليها المجاهدون، والتي غدت أقل أماناً مما كانت عليه أيضاً؛ فمنذ هجمات 11 سبتمبر، اعتمد تنظيم القاعدة على الإنترنت للوصول إلى أتباعه، والقيام بحملاته الإعلامية وإدارة عملياته. كما اعتمد “داعش” أيضاً هذا الأسلوب بشكل أوسع من خلال استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لاستقطاب المجندين والتحريض الإعلامي. فعلى الرغم من أن التطور التكنولوجي كان لصالح “داعش”، بعدما ظهرت في الحرب الأهلية السورية بقوة على منصات التواصل الاجتماعي، من خلال مقاطع الفيديو لقطع الرؤوس التي نشروها؛ فإن هذه الحالة لا تنطبق اليوم، حيث تحجب الشركات التي تدير هذه المنصات مقاطع الفيديو المتطرفة، وتحظر الناشرين والمروجين لهذه المقاطع. وأسهمت المراقبة الشديدة التي فرضتها الحكومات على الحسابات المشكوك في صلتها مع الإرهاب في جعل منصات التواصل الاجتماعي محفوفة بالمخاطر بالنسبة إلى إرهابيي المستقبل.

ويعدد المقال الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر لمكافحة الإرهاب؛ قامت الولايات المتحدة بتطوير شراكات أمنية جديدة، أو توسيع القائم منها، مع أكثر من 100 دولة؛ حيث اعتمدت على القوة العاملة والسلطة القانونية والمهارة اللغوية.. وغيرها من الموارد الموجودة لدى الوكالات الاستخباراتية المحلية لمراقبة وتعطيل واعتقال المشتبهين الإرهابيين. ولكن، بعض الحكومات لا تمتلك القوة الكافية للقيام بهذا الحجم من التنسيق الاستخباراتي الفعال؛ وفي هذه الحالة تعتمد الولايات المتحدة على الطائرات المسيرة والغارات الجوية، ومداهمات القوات الخاصة، لمواجهة “القاعدة” و”داعش” وغيرهما من المجموعات ذات الصلة.
عادةً تقوم واشنطن بعملياتٍ من مثل هذا النوع بعد الحصول على موافقة الحكومات المحلية؛ مثلما فعلت في باكستان، أو باستغلال غياب حكومة فعالة، كما في الصومال واليمن. بالإضافة إلى قائد “القاعدة” أسامة بن لادن، تمكنت الولايات المتحدة وحلفائها من قتل زعيم “القاعدة” في شبه الجزيرة العربية ناصر الوحيشي، ورائدي الدعاية الجهادية الإنجليزية أنور العولقي وآدم غدن، وزعيم “القاعدة” في جنوب آسيا إلياس كشميري، بالإضافة إلى شخصياتٍ ميدانية مهمة؛ مثل رشيد رؤوف وصالح الصومالي، وزعيم “القاعدة” السابق في اليمن قاسم الريمي، وزعيم المجموعة في شمال إفريقيا عبدالمالك دروكدال، وزعيم فرعها غير الرسمي في سوريا المعروف بـ”أبو القسّام”. كما قامت بحملة شبيهة ضد “داعش”، وقتلت خليفته المزعوم “أبو بكر البغدادي” في عام 2019، من بين العديد من القادة الآخرين.
اقرأ أيضاً: نحن والآخرون..كيف سمحت الولايات المتحدة لأعدائها باختطاف سياساتها الخارجية؟
بالطبع، لا تثمر مثل هذه الوسائل في التخلص من الإرهاب بشكل كامل؛ ولكنها مجدية في ضمان ضعف المجموعات الجهادية من خلال الضربات الاستئصالية التي تبث الاضطراب في صفوف التنظيمات، علماً بأن الكثير من التنظيمات يفتقر إلى الموارد البشرية القيادية؛ الأمر الذي يجعله من الصعب استبدال القادة المخضرمين.
قد يكون الرعب المستمر من الضربات المسيرة عاملاً إضافياً يؤثر سلبياً على فعالية المجموعات الإرهابية، وربما على نحو أكثر فعالية من اغتيال القيادات. فلم تعد هناك اجتماعات بأعدادٍ كبيرة، ولم تعد هناك معسكرات تدريبية كبيرة مستمرة، فضلاً عن الخوف من التنصت والتعقب؛ مما أدى إلى تبعثر المجموعات لتصبح مهددة بالتشقق إلى خلايا منعزلة يائسة يصعب التنسيق معها.

عندما بدأ الربيع العربي -أهم حدث تاريخي في العالم العربي منذ جيل، في عام 2010- بقي “القاعدة” صامتاً لعدة أسابيع، بينما كانت المجموعات المنافسة في الشرق الأوسط تعبر عن رأيها علنياً بشكل مستمر؛ لا سيما على منصات التواصل الاجتماعي. وفي أوج الحرب الأهلية السورية، قام قائد “القاعدة” اللاحق لـ”بن لادن”، أيمن الظواهري، بالنأي بنفسه؛ مما دفع زعيم جبهة النصرة الجولاني وغيره من الأعضاء إلى إبعاد نفسهم عن التنظيم. من جهته، حافظ تنظيم داعش على نشاطه في كلا المجالين الميداني والإعلامي؛ ولكن مع ذلك اضمحل التنظيم. أجبرت الضغوطات الأمريكية قادة التنظيم على الهروب والاختباء؛ مما صعب قيامهم بتنسيق وقيادة عمليات دولية.
ويحاول كاتب المقال تقييم مدى فعالية الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الأمريكية لمكافحة الإرهاب؛ فيقول إنه لإدراك مدى تأثير هذه التدابير المتخذة لمكافحة الإرهاب، وجب الأخذ بعين الاعتبار المشكلات التي سيواجهها “القاعدة”، في حال أراد تنفيذ عملية إرهابية ضخمة مماثلة لهجموم الحادي عشر من سبتمبر.
بدأ “القاعدة” بالتخطيط للهجوم منذ أواخر عام 1998 أو بدايات عام 1999 من قواعد موجودة في أفغانستان وباكستان؛ حيث كان يمتلك النفوذ في تلك المناطق، بالإضافة إلى دعم الحكومات المحلية في المنطقة. بعد الحصول على موافقة بن لادن، بدأ خالد شيخ محمد (أحد كبار الجهاديين المخضرمين، والمهندس للهجوم) باستقطاب الأفراد في عام 1999. في البداية، اعتمد محمد على استقطاب المقاتلين المخضرمين؛ إلا أن قلة خبرتهم في الغرب لم تسمح لهم أن يكونوا مرشحين للعملية. بالتالي، رأت القيادات أن محمد عطا، المقيم في ألمانيا منذ عدة سنوات، شخص مناسب جداً لتزعم خلية إرهابية؛ نتيجة طلاقته في اللغة الإنجليزية، وحماسه الديني، واستعداده لتنفيذ العمليات في الغرب.
اقرأ أيضاً:10 سنوات على مقتل بن لادن.. فما الحالة الراهنة لتنظيم القاعدة؟
استعد الخاطفون للعملية في أفغانستان، وتدرب بعضهم على خطف الطائرات، ونزع السلاح من حرس الطائرات. قامت مجموعة من المخططين للعملية بالاجتماع في ماليزيا في يناير 2000؛ حيث تمكنت الاستخبارات الأمريكية من تعقب آثارهم، إلا أن المعلومات لم تكن كافية للكشف عن العملية. وفي العام نفسه، بدأ الخاطفون بالدخول إلى الولايات المتحدة، علماً أن بعضهم توجه إلى ألمانيا قبل الوصول إلى الولايات المتحدة. في ولاية كاليفورنيا، يُرجَّح أن اثنين كانا يفتقران إلى المهارات اللغوية تلقيا بعض الدعم من المجتمع الإسلامي المحلي في مساجد المنطقة. وتلقى أعضاء آخرون دروس الطيران، وقاموا بجولات تدريبية، مستخدمين طائرة مماثلة للطائرة المستهدفة التي تقوم بالرحلات المحلية. في صيف عام 2001، سافر عطا إلى إسبانيا؛ حيث التقى رمزي بن الشيبة، أحد منسقي الهجوم، وتلقَّى المزيد من التعليمات، وانتهى من التخطيط للعملية. كانت الأموال التي تستخدم لتغطية هذه التكاليف تتدفق من حسابات مفتوحة في دولة الإمارات. وتمتع “القاعدة” حينها بميزة حساسة للغاية في أوروبا والولايات المتحدة؛ هي الإهمال الحكومي، حيث كانت الأجهزة الاستخباراتية والأمنية في كلتا المنطقتَين منصرفة للاهتمام بشؤون أخرى، مما أعطى الجهاديين حرية الحركة.
وفي الحادي عشر من سبتمبر، بدأت العملية تسير كالساعة، وساعدها على ذلك نظام أمني للطيران غير مدرك لإمكانية حول مثل هذه العملية. استقل الخاطفون 4 طائرات دون إثارة أي شكوك، وعلى الرغم من استدعاء البعض منهم لأسبابٍ أمنية إضافية؛ فإن هذا الاستدعاء يعني قيام السلطات بتفتيشٍ مشدد لحقائبهم فقط. بعد إقلاع الطائرة، اقتحم الخاطفون الطائرات التي كانوا على متنها، ونجحوا في تحويل 3 من الطائرات الأربع إلى قنابل انتحارية هائلة، أسفرت عن مقتل ما يقارب 3000 شخص.
اقرأ أيضاً: قيادة القاعدة: الوفيات والتداعيات!
ويرى الكاتب أن تنفيذ مخطط ضخم بحجم هجوم الحادي عشر من سبتمبر أصبح أصعب بكثير في الوقت الحالي، وفي كل الأصعدة والمراحل. فمع الافتقار إلى ملاذٍ آمن بحجم ملاذ أفغانستان ما قبل 2001، انخفضت الفرص التدريبية المتاحة للمنتسبين، كما انخفضت بشكل أكبر الفرص المتاحة للتخطيط لهجمات على الولايات المتحدة. والإرهابيون، وإن وصلوا بأمان إلى ساحة معركة أو ملاذٍ ما، سيجدون أن التواصل والاجتماع مع أعضاء آخرين من دون أن تكتشفهم السلطات الاستخباراتية والأمنية المحلية أمر أصعب بكثير. وإذا افترضنا أن الإرهابيين تمكنوا من تجاوز كل هذه العقبات فسيكون تنفيذ العملية صعباً نتيجة التطور الأمني في الطيران المدني، وحماية الأهداف الحساسة.
لا يمكن القول إن أياً من هذه التدابير قادر وحده على منع حدوث هجوم آخر مماثل للحادي عشر من سبتمبر، وإنما التأثير المتراكم لجميع هذه السياسات والتدابير المتخذة والتغييرات الحاصلة هو الذي جعل القيام بتنفيذ مخطط بحجم من التعقيد والتأثير مساوٍ لهجوم الحادي عشر من سبتمبر أقل احتمالاً للنجاح.
مع تراجع خطر حدوث هجوم مماثل لما جرى في 11سبتمبر، يبدو إعلان الانتصار والعودة إلى حالة الاطمئنان السابقة لعام 2001 مغرياً للغاية، إلا أنه خطأ كبير. فرغم تراجع حجم الخطر الذي تفرضه هذه المجموعات إلى حجم يسهل السيطرة عليه؛ سيظل إيقاف الهجمات والعمليات أمراً يتطلب جهوداً مستمرة لمكافحة الإرهاب.
تأتي هذه الحاجة إلى الجهود المستمرة من عجز الولايات المتحدة عن كسب المجتمع الإسلامي العالمي. بعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر، سعَت الولايات المتحدة لنيل ثقة العالم الإسلامي، من خلال حملات إعلامية، وإنشاء وكالات إعلامية جديدة؛ مثل إذاعة “راديو سوا” العربية، وقناة “الحرة” التليفزيونية، وصولاً إلى المبادرات التي تطلقها على منصات التواصل الاجتماعي.

ولكن، تشير بيانات استطلاع الرأي العام إلى أن تأثير هذه الجهود على الرأي العام للشرق الأوسط تجاه الولايات المتحدة كان ضئيلاً جداً؛ حيث لا يزال سلبياً غالباً على الرغم من تفاوته في السنين السابقة. ففي استطلاع للرأي في الأردن في عام 2015، كانت 80% من الآراء المشتركة سلبية تجاه الولايات المتحدة، علماً بأن الأردن أحد أهم الحلفاء للولايات المتحدة في المنطقة.
ويوضح المقال أن الحركات الجهادية أصبحت أكثر انتشاراً مما كانت عليه قبل الحادي عشر من سبتمبر، ويعود ذلك جزئياً إلى انهيار الحكومات في أنحاء إفريقيا والشرق الأوسط بشكل كامل أو ضعف الحكومات في الأنظمة التي ما زالت صامدة. يتطلَّب القيام بعملية تمرد في بلدٍ مثل موزمبيق أو اليمن مجموعة صغيرة من المسلحين فقط. بالإضافة إلى ذلك، تضفي القضية الجهادية على المقاتلين الجهاديين في المنطقة صبغة مقنعة؛ حيث يقومون بالادعاء أنهم يقومون بحماية القانون والإسلام. وبهذه الصبغة، ونتيجة لحسن النية، يستفيد المجاهدون من الشبكات العابرة للحدود الدولية، والحصول على الدعم من المقاتلين المتشابهين في التفكير في الدول المجاورة، والحصول على موارد مثل المال والأسلحة ووسائل الإعلام.
في الماضي، سعَت الولايات المتحدة إلى محاربة أعمال التمرد الإرهابية من خلال نشر عشرات الآلاف من قواتها العسكرية لمحاربة “طالبان” في أفغانستان، بالإضافة إلى العديد من المجموعات الجهادية السُّنية في العراق. ومع تدهور الدعم الدولي لمثل هذه العمليات وانتشار الفكر الجهادي في دول جديدة، لجأت الولايات المتحدة إلى الاعتماد على تدريب وتسليح القوات المحلية الموجودة، لتلعب دور رأس الحربة في مكافحة الإرهاب. قام وكلاء أمريكا بمحاربة جماعة الشباب قي الصومال، وفرع “داعش” في ليبيا، ومجموعة “أبو سياف” المرتبطة بـ”القاعدة” في الفلبين.

في بضع مناطق، حققت الولايات المتحدة تقدماً في مواجهة الجهاديين من خلال التشارك مع القوى الحكومية المحلية؛ ولكن في مناطق أخرى أدى الانتصار على إحدى المجموعات الإرهابية إلى حلول مجموعة إرهابية أخرى محلها. أما في مناطق أخرى، فقد بات حتى هذا المستوى المتدني من النجاح صعب المنال؛ حيث يبدو أن الحجم الهائل من الأموال والمعدات والوقت الذي تقوم الولايات المتحدة بضخه لمساعدة المجموعات المناهضة لـ”داعش” في سوريا والحكومات الأفغانية والعراقية، حقق نتائج متواضعة في أحسن الأحوال.
ويشير الكاتب إلى أن جهود الولايات المتحدة لتحسين مستوى الحوكمة في الدول التي تعاني انتشار الجهاديين، لاقت مصيراً مشابهاً. فبعض البلدان مثل اليمن تدهورت إلى الحرب الأهلية، بينما كان الفساد والركود الاقتصادي وانتشار الأنظمة غير الديمقراطية يتفشى في بلدان أخرى؛ مثل مصر وباكستان. إن البلدان التي تمكنت من التقدم نحو الديمقراطية؛ مثل تونس وإندونيسيا، فعلت ذلك نتيجة جهود الحركات المحلية الوطنية في تلك البلاد، وليس بجهود الولايات المتحدة.
أما بالنسبة إلى سياسات مكافحة الإرهاب الداخلية في الولايات المتحدة، فهي تعاني مجموعة أخرى من المشكلات. فعلى السياسيين أن يكونوا شفافين مع الشعب الأمريكي في توصيفهم خطر الإرهاب الموجود على أرض الواقع، وتُعتبر هذه المخاطر من المخاطر المنخفضة مقارنةً بغيرها؛ لأن هذه الشفافية ستكون وسيلة لتحصين الرأي العام ضد التأثيرات النفسية التي تولدها الهجمات الصغيرة.
فعلى الرغم من مرور 20 عاماً من دون حدوث أعمال إرهابية ضخمة نسبياً في أراضي الولايات المتحدة، أشارت الإحصاءات إلى أن عدد الأمريكيين الذين يخشون الإرهاب مرتفع إلى حدٍ ما، بل وزاد في الآونة الأخيرة. يستمر القادة السياسيون في الولايات المتحدة في استخدام هذا التخوف كأداة لانتقاد بعضهم عند حدوث أي من هذه الحوادث النادرة، ولكي يدفعوا بأجنداتهم الخاصة تجاه شؤون أخرى مثل الهجرة.
على الولايات المتحدة أيضاً بذل جهود إضافية تجاه إدارة السياسة المحلية لمكافحة الإرهاب؛ فالخوف العام يساعد على ضمان بقاء الدعم القوي للبرامج الدفاعية الضخمة، إلا أنه في ذات الوقت تسهل قدرة الإرهابيين على بث الذعر. فإذا ما حدث هجوم جديد يجب أن يتصرف قادة الولايات المتحدة بمسؤولية، فبالإضافة إلى تأكيد ضرورة مساعدة ضحايا الهجوم ومعاقبة المسببين له، عليهم أن يوضحوا للأمريكيين أن المجتمع الأمريكي الإسلامي هو جزء من الحل، وليس جزءاً من المشكلة. وعلى القادة المحليين التواصل مع مجتمعاتهم الإسلامية لدعمها وحمايتها ضد الأعمال الإرهابية الانتقامية.

ويختم كاتب المقال حديثه بالإشارة إلى أنه لدى المسؤولين الإسرائيليين عبارة تفيد في توصيف سياستهم “الجيدة بما فيه الكفاية”، وهي: “جز العشب”. ترتكز الفكرة على أن قيام الحكومة بمداهمات بشكل مستمر، وجمع المعلومات الاستخباراتية، سيؤديان إلى تمكنها من إبقاء هذه المجموعات الإرهابية مثل “حماس”، ضعيفة على الرغم من استمرار قيامها بعمليات إرهابية؛ فالهدف من هذه السياسة هو القدرة على إدارة حجم المخاطر المرتبطة بالإرهاب، بدلاً من محاربة الإرهاب بحد ذاته، مما يسمح للحكومة أن توجه أنظارها وجهودها إلى شؤون مهمة أخرى.
مع إيجاد الولايات المتحدة حلاً شبيهاً غير متكامل لكنه فعال للإرهاب، عليها أن تقوم باعتمادها من أجل أن تتمكن من الانصراف لأولوياتٍ أخرى؛ مثل الصين وروسيا والتغير المناخي وغيرها. فمن خلال مجموعة الأدوات الموجودة بحوزتها لمكافحة الإرهاب، أصبحت الولايات المتحدة قادرة على إبقاء المجموعات الإرهابية الموجودة في الدول النائية ضعيفة وغير مستقرة، مع تقبل الواقع بأن خطر الإرهاب سيبقى موجوداً بشكل دائم.
♦دانييل بايمان؛ أستاذ في كلية والش بجامعة جرج تاون، وزميل مركز سياسات الشرق الأوسط في مؤسسة بروكينغز.
المصدر: فورين أفيرز