الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
تشرنوبل.. دراما الكارثة النووية المليئة بالتفاصيل

كيوبوست
أعادت روسيا سيطرتها على مفاعل تشيرنوبل الذي شهد عام 1986 أسوأ حادث نووي في التاريخ. المفاعل الذي يقع داخل الأراضي الأوكرانية واستعادت أوكرانيا السيطرة عليه مع تفكك الاتحاد السوفييتي، سيطرت عليه القوات الروسية في ثاني أيام المعركة العسكرية، في وقت تحذِّر فيه كييف من أن تؤدي سيطرة موسكو على المفاعل إلى كارثة بيئية جديدة في أوروبا.
قبل عامَين وعبر خمس حلقات مليئة بالإثارة والتشويق، جاء مسلسل “تشيرنوبل”، الذي أطلقته شبكة “HBO”، حقَّق العمل رد فعل إيجابياً في تقييمات الجمهور عبر المواقع المتخصصة في وقت أعاد فيه المسلسل تفاصيل الكارثة النووية الأهم، والتي اعتبرت أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي بعد حدوثها بسنوات قليلة.
عكس المسلسل تفاصيل كثيرة عن واقع المجتمع داخل الاتحاد السوفييتي، آنذاك، بدايةً من الخطأ الذي نتج بسبب عدم إتاحة معلومات أساسية للعاملين في المفاعل بعد تصنيف هذه المعلومات باعتبارها أسرارًا من المخابرات السوفييتية، وصولًا إلى القرارات المنفردة والمخالفة للأوامر الإلكترونية الصادرة في المفاعل.
امتاز المسلسل بالإيقاع السريع في التفاصيل حتى مع بطء الأحداث في الواقع؛ من خلال استخدام المخرج عبارات الإسراع في الوقت المرتبط بمرور الزمن، للتعبير عن الفترة الزمنية التي تفصلنا في اللحظة المتابعين خلالها للأحداث عن توقيت الانفجار؛ وهو ما يجعل مَن يشاهده لا يشعر بالملل على الرغم من قلة الأحداث نسبيًّا بسبب بطء اتخاذ القرارات من الجانب السوفييتي في التعامل مع الحادث.
اقرأ أيضًا: تقديرات إسرائيلية: 6 دول عربية تتسابق لامتلاك السلاح النووي
ربما أحد أهم ما ميَّز العمل بصورة كبيرة هو الحرص على الاهتمام بالتفاصيل؛ تفاصيل شرح الكارثة التي حدثت بشكل علمي بسيط، وهو ما ظهر أكثر من مرة؛ بدايةً من جمع المعلومات الأولية عن الحادث فور وقوعه، وصولًا إلى الحلقة الأخيرة والحديث بالمحكمة الشارح لتفاصيل الخطأ الذي حدث وسبب الكارثة وكيفية عمل المفاعلات النووية في هذا التوقيت واستخدام الجرانيت فيها باعتباره الأرخص.
أحداث عديدة عالجها المسلسل في حلقاته الخمس؛ بداية من المهندس الشاب صاحب الـ25 عامًا الذي بذل ما في وسعه من أجل عدم ارتكاب أخطاء تؤدي إلى الكارثة، ودفع حياته ثمنًا للإشعاع الذي تعرَّض له بعد الحادثة؛ حيث رحل في المستشفى بعدما تغيَّرت ملامحه وأصبح جسده منصهرًا، وصولًا إلى زميله الذي كان يسانده في محاولة السيطرة على الأمر بعد خروجه عن السيطرة، بينما رئيسهما المتسبب في الكارثة جرت محاكمته بعدما أعطى أوامر مخالفة تسببت في الحادثة؛ نتيجة إصراره على تنفيذ التجربة بالكامل خلال فترة العمل المسائية على الرغم من عدم معرفة الفنيين بالتفاصيل الكافية عن التجربة ووجود سلسلة تعليمات في الأوراق؛ منها جزء كبير محذوف.
باعتبار أن المسلسل من إنتاج شركة أمريكية، فإن الجدل المصاحب لبعض تفاصيله يبدو منطقيًّا؛ فالكارثة السوفييتية لم يُعلن عنها إلا بعد تزايد رصد نسبة الإشعاع الملوث من المحطات الأوروبية، ونسبة التلوث الحقيقية لم يتم إبلاغ الألمان بها عندما طلب السوفييت مساعدتهم بإرسال روبوتات من أجل التعامل مع الحادث، لدرجة أن الروبوت الذي تم إرساله في محاولة التخلص من الرخام تعطَّل فور إنزاله على قمة المفاعل؛ بسبب إعطاء الألمان نسبة تلوث خاطئة في موقع المفاعل.
اقرأ أيضًا: انتهاء حقبة الاحتكار: أول مفاعل نووي عربي يقترب من العمل
في التفاصيل العديدة التي حملتها الحلقات تبدو الكارثة ونتائجها على البيئة؛ بسبب تراكم كثير من الأخطاء والقرارات المنفردة والخوف من تحمُّل المسؤولية والإقرار بالحقيقة، فلا كبير المهندسين الموجود بالمفاعل يريد الاعتراف بالخطأ، ولا المسؤولون في الحزب الحاكم يريدون مصارحة الناس بالحقيقة، ولا حتى طلب مساعدة من أجل معالجة الكارثة. فرغم وجود إمكانية في الاستعانة بروبوتات أمريكية من أجل محاولة تخفيف آثار الرخام المشع الموجود على سطح المفاعل؛ فإن الروس يفضلون استخدام البشر بدلًا من طلب المساعدة الأمريكية.
عمال مناجم الفحم الذين أسهموا بجهودهم في حفر حفرة كبيرة واستخراج مئات الآلاف من الأمتار المكعبة؛ لنقلها ودفنها لتجنُّب تلوث المياه الجوفية، والجنود الذي قاموا بمساعدة الأهالي في عمليات الإجلاء من المنطقة المحيطة، وزملاؤهم الذين قتلوا الحيوانات البرية في نطاق المفاعل.. جميعها حكايات رصدها العمل في بُعدها الإنساني الذي تجلَّى في سيدة كانت ترفض مغادرة قريتها الصغيرة رغم تحذيرات الأمن بعدما عاشت فيها 82 عامًا كانت شاهدة خلالها على الحروب والمجاعات التي مرَّت بها المنطقة؛ ليضطر الجندي إلى قتل بقرتها أمامها، حتى تغادر برفقته مع باقي أبناء القرية.

يُحَمِّل المسلسل بشكل واضح الاتحاد السوفييتي مسؤولية وقوع العدد الأكبر من الضحايا بعد الكارثة، لعدة أسباب؛ أهمها التأخُّر في إعلان حدوث الانفجار لسكان المنطقة المحيطة، ما جعلهم عرضة للإشعاع المباشر دون معرفتهم، وهو ما جرى تأكيده في نهاية الفيلم بوفاة جميع مَن وقفوا لمشاهدة النيران على الجسر القريب من المفاعل، مرورًا بالآثار السلبية التي لحقت بباقي السكان نتيجة تأخُّر عمليات الإجلاء.
كما أظهر المسلسل القادة السوفييت وكأنهم لا يريدون الاستماع إلى وجود كارثة نووية لم تحدث من قبل؛ خصوصًا مع اتجاههم لتصديق روايات تقلل من ضخامة الحادث، في الوقت الذي قرروا فيه الكذب على العالم، حتى عند إرسال عالم سوفييتي إلى الوكالة الدولية من أجل عدم الإفصاح عن سبب الخلل الموجود في المفاعلات النووية الروسية والذي يهدد بحدوث كوارث مشابهة في أية لحظة، وهو الخلل الذي لم يُعالج إلا بعدها بسنوات بعدما قرر العالم النووي السوفييتي الإفصاح عنه أمام هيئة المحكمة.

شغل المسلسل الأمريكان والروس على حد سواء، لكن التعليقات من الجانب الروسي جاءت بشكل أوضح على بعض التفاصيل الخاصة بالمسلسل، فوزير الثقافة الروسي فلاديمير ميدينسكي، قال إن العمل خرج بمهنية عالية على الرغم من كونه لم يقدم سوى بعض التفاصيل الصغيرة، معربًا عن تقديره لإظهار الجهود التي قام بها المختصون؛ من أجل بحث الأسباب التي أدَّت إلى الحادث واستبسالهم من أجل مكافحة آثاره.
لكن ميدينسكي الذي قال إن والده كان من ضمن فريق الإنقاذ، أكد أن الأحداث شوَّهت صراحةً بعض الحقائق؛ من بينها عدم وجود أجهزة قياس الإشعاع في المحطة، لافتًا إلى أن هناك مشروعَين فنيَّين كبيرَين عن الحادث يجري العمل عليهما في الوقت الراهن.
كورنيوشين، وهو أحد أفراد طواقم الإنقاذ التي شاركت في محاولة تحجيم آثار الكارثة، قال إن الأحداث شهدت كثيرًا من الإضافات الخيالية، مشيرًا إلى أن مشاهد تناول المشروبات الكحولية لم تكن موجودة؛ ما جعله يأمل في مشاهدة عمل روسي قريبًا حول الحادث يُقدِّم بمصداقية ما جرى في عمليات الإنقاذ.
وحسب الأرقام الرسمية، فإن 350 عاملًا فقط من بين أكثر من 2300 شاركوا في عملية الإنقاذ ظلوا على قيد الحياة في وقت أصاب فيه التلوث الإشعاعي مساحة قدرها 12.1 ألف كم مربع؛ أي ما يعادل 40% من أراضي منطقة بريانسك وثُلث ثروتها من الغابات.