الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

تساؤلات حول تسرب مختبر ووهان.. ومنجم مهجور يحتل مكان الصدارة!

كيوبوستترجمات

جيرمي بايج وبيتسي مكاي ودرو هينشو

على مشارف قرية صغيرة في أعماق جبال جنوب غرب الصين، تتجه كاميرا مراقبة وحيدة إلى منجم مهجور للنحاس يحيط به الخيزران الكثيف. ومع اقتراب الليل تملأ الخفافيش السماء فوقه.

هذا هو مسقط رأس أقرب فيروس معروف على الأرض إلى الفيروس الذي تسبب في جائحة “كوفيد-19”. وأخيراً، أصبح هذا المكان مصدراً لدعواتٍ مكثفة للتحقق في ما إذا كانت الجائحة قد انطلقت من مختبر صيني.

في أبريل 2012، أُصيب ستة من عمال المنجم بمرض غامض بعد أن دخلوا إلى المنجم لإزالة روث الخفافيش؛ ثلاثة منهم لقوا حتفهم.

تم استدعاء علماء صينيين من معهد ووهان لعلوم الفيروسات للتحقيق في الأمر، وبعد أن أخذوا عيناتٍ من الخفافيش في هذا المنجم، تمكنوا من التعرف على عددٍ من الفيروسات التاجية في هذه العينات.

والآن، ارتقتِ التساؤلات حول العمال والفيروسات التي وجدت في المنجم، وحول الأبحاث التي أُجريت عليها، إلى مستوى الفكرة التي كانت سائدة، ثم تم استبعادها واعتبارها “نظرية مؤامرة” والتي مفادها أن فيروس SARS-CoV-2 الذي يتسبب بالإصابة في مرض “كوفيد-19” ربما يكون قد تسرب من مختبر في ووهان؛ المدينة التي ظهرت فيها أولى الحالات في ديسمبر 2019.

لم يقدم باحثو المختبر حتى الآن إجاباتٍ كاملة وسريعة، وكان هنالك تناقضات في بعض المعلومات التي أدلوا بها؛ وهذا ما دفع بكبار العلماء إلى طلب مزيدٍ من التحري بشأن مؤسسة ووهان، وفي ما إذا كان الفيروس قد كان موجوداً في مختبراتها، وتسرب منها.

اقرأ أيضاً: صحيفة “الجارديان”: الصين تحذف أبحاثا منشورة تتعلق بمنشأ فيروس كورونا

حتى إن العديد من كبار مسؤولي الصحة الذين يرون تلك النظرية بعيدة الاحتمال أصبحوا الآن يدعمون فكرة إجراء تحقيقٍ شامل. ويقولون إن فريقاً بقيادة منظمة الصحة العالمية لم يحظَ بحرية الوصول إلى المعلومات بشكل كافٍ في مختبرات ووهان هذا العام؛ كي يتوصل إلى استنتاجه بأن تسرب الفيروس من المختبر كان “غير محتملٍ للغاية”.

يقول معظم الذين يدعون إلى إجراء تحقيقٍ شامل في فرضية المختبر، إنهم لا يدعمون هذه النظرية على حساب النظرية البديلة الرئيسية؛ وهي أن الفيروس قد انتقل من الحيوان إلى الإنسان خارج المختبر، في شكلٍ من أشكال الانتشار الطبيعي الذي أصبح شائعاً في السنوات الأخيرة. فهذا الفيروس ربما يكون من منشأ طبيعي، وقد تم إحضاره إلى مختبر في ووهان، وتسرب عن قصدٍ أو عن غير قصد.

ومع ذلك، يتفق عدد كبير من الباحثين؛ ومن بينهم مدير منظمة الصحة العالمية، وباحث أمريكي بارز عمل سابقاً مع معهد ووهان لعلوم الفيروسات، حول أن المعهد يجب أن يقدم معلومات أكثر حول عمله، قبل استبعاد نظرية التسرب بشكلٍ قاطع.

نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال”، مؤخراً، أن ثلاثة باحثين في معهد ووهان أصيبوا بمتاعب صحية أجبرتهم على الدخول إلى المستشفى في نوفمبر 2019، وفقاً لتقرير استخباراتي أمريكي لم يكشف عنه سابقاً. وقد اختلفت وجهات نظر المسؤولين تجاه قوة الأدلة. قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي، في 24 مايو، إن المعلومات قد جاءت من جهةٍ أجنبية، وإن الولايات المتحدة بحاجة إلى معلوماتٍ إضافية للتحقق منها بشكل مستقل. وكانت وزارة الخارجية الأمريكية قد أعلنت، في يناير الماضي، أن العديد من العاملين في معهد ووهان لعلوم الفيروسات قد أصيبوا بـ”عوارض تتوافق مع كل من (كوفيد-19) والأمراض الموسمية الشائعة”.

أوصت إدارة بايدن منظمة الصحة العالمية بإجراء تحقيقٍ شامل في احتمالات تسرب الفيروس، ودعمت دعوة مدير المنظمة تيدروس أدهانوم غيبريسوس، الذي عرض إرسال باحثين متخصصين. ومن الضروري أن يشمل التحقيق مختبراتٍ أخرى في ووهان، وليس فقط مختبرات معهد ووهان لعلوم الفيروسات، ويشير مسؤول صحي أمريكي إلى أن الفريق الذي يجري هذا التحقيق يجب أن يضم بين صفوفه خبراء في أمن المختبرات. ويقول: “يجب أن نتمكن من النظر إلى سجلات السلامة البيولوجية، وأن نجري مقابلات مع الموظفين في هذه المختبرات”.

ومن المرجح أن يتم بحث هذا الأمر في اجتماعات هيئات صنع القرار في منظمة الصحة العالمية، وجمعية الصحة العالمية، بدأت في 24 مايو الجاري؛ ولكن الدعم الدبلوماسي لهذا التحقيق ضعيف، ولا تظهر الكثير من الحكومات حرصاً على تأييد أي قرار بهذا الشأن، مما يسهل اعتراض الصين عليه وإيقافه.

من المؤكد أن الصين سوف تقاوم أي جهود من هذا القبيل، كما أنها تقيد بشدة الحصول على أية معلومات حتى الآن. وهي تنكر أن الفيروس المسبب لـ”كوفيد-19″ قد جاء من أحد مختبراتها أو أصاب أياً من موظفي معهد ووهان لعلوم الفيروسات. كما أنها تطالب منظمة الصحة العالمية بتحري احتمال أن تكون الجائحة قد بدأت في مكان ما خارج الصين.

وقالت وزارة الخارجية الصينية، في بيانٍ لها: “تواصل الولايات المتحدة اختلاق ادعاءات متناقضة، وتطالب بالتحقيق في مختبرات ووهان. وهذا يبرهن تماماً على أن البعض في الولايات المتحدة لا يهتمون بالوقائع والحقيقة”. واستشهد البيان بشهادة الفريق الذي قادته منظمة الصحة العالمية بشأن عدم معقولية فرضية التسرب من المختبرات، وحث الولايات المتحدة على دعوة منظمة الصحة العالمية إلى تحري ودراسة الحالات الأمريكية المبكرة.

ولم تستجب لجنة الصحة الوطنية الصينية أو معهد ووهان لعلوم الفيروسات لطلب التعليق على الأمر.

 

المنجم الخفي

عرقلتِ السلطات الصينية الجهود المستقلة لتحري المنجم، وأقامت نقطة تفتيش في جواره؛ حيث قام رجال، لم يعرفوا عن أنفسهم، بإيقاف صحفيين أجانب في الأسابيع الأخيرة، وفي إحدى المرات حذروا الصحفيين من وجود فيلة برية أمامهم.

وصل مراسل “وول ستريت جورنال” إلى المنجم على متن دراجة جبلية؛ ولكن قامت الشرطة باحتجازه واستجوابه لنحو خمس ساعات، ثم مسحت صوراً للمنجم كان قد التقطها بواسطة هاتفه الجوال. وقال بعض سكان القرية المجاورة للمراسل، إن السلطات المحلية قد حذرتهم من الحديث مع الغرباء حول المنجم.

منجم موجيانغ حيث ظهرت أولى حالات الإصابة بفيروس كورونا وفقاً لإحدى النظريات- أرشيف

ولم يكن هنالك ما يدل على أن قرى في المناطق المحيطة قد تم إخلاؤها أو على أن أي أبحاث قد أُجريت مؤخراً في المنجم الذي أغلقت مدخله شجيرات الخيزران الكبيرة.

عندما سُئل أنتوني فاوتشي؛ كبير المستشارين الطبيين للرئيس بايدن، أثناء جلسة استماع في مجلس الشيوخ، في الحادي عشر من مايو الجاري، حول ما إذا كان يعتقد أن فيروس “كوفيد-19” قد تسرب من مختبر ووهان، أجاب قائلاً: “لا شك أن هذا الاحتمال موجود، وأنا أدعم بشكل كامل إجراء تحقيق شامل حول إمكانية حدوث ذلك”. وكان الدكتور فاوتشي قد قال، في وقتٍ سابق، إنه يعتقد أنه من المرجح أن فيروس “كوفيد-19” قد انتقل إلى البشر في الطبيعة.

اقرأ أيضاً: حان الوقت لإدخال الصين في عزلة نتيجة عدم أمانتها في التعامل مع فيروس كورونا

التحقيق في أصول “كوفيد-19”

وقَّع في العام الماضي 27 عالماً على رسالة مفتوحة تدين “نظريات المؤامرة” التي تفترض أن “كوفيد-19” لم يكن من أصل طبيعي. والآن عندما اتصلت “وول ستريت جورنال” مع عددٍ من هؤلاء العلماء، قال ثلاثة منهم إنهم بعد مزيد من التفكير باتوا يرون أن فرضية حادث في المختبر تستحق الدراسة. بينما لا يزال آخرون لا يرون أن هنالك مبررات لمثل هذا التحقيق.

قال برنارد رويزمان؛ عالم الفيروسات في جامعة شيكاغو وأحد الموقعين: “أنا مقتنع أن ما حدث هو أن الفيروس تم إحضاره إلى مختبر، وبدأوا بالعمل عليه، ثم قام أحد الأفراد المهملين بإخراجه. لا يمكنهم الاعتراف بأنهم فعلوا شيئاً بهذا الغباء”.

عملت مجموعة من الأكاديميين والباحثين على الإنترنت معاً لمدة أشهر على جمع ونشر الأدلة حول أنشطة معهد ووهان لعلوم الفيروسات، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. وقد طالبوا، في ثلاث رسائل مفتوحة منذ مارس الماضي، بإجراء تحقيق شامل حول فرضية المختبر.

وفي الثالث عشر من مايو الجاري، نشرت مجموعة من 18 عالماً من جامعات؛ منها هارفارد وستانفورد وييل، رسالة مفتوحة في مجلة “ساينس” الأكاديمية تدعو إلى النظر بجدية إلى فرضية المختبر، وتشجع المختبرات البحثية على فتح سجلاتها. ومن بين الموقعين على هذه الرسالة راف باريك؛ عالم الأحياء الدقيقة في جامعة نورث كارولينا الذي عمل مع معهد ووهان في دراسة لخلق فيروس تاجي اصطناعي أصاب الخلايا البشرية في المختبر.

قال باريك في رسالةٍ إلكترونية، إن التركيبة الجينية لفيروس SARS-CoV-2 توحي بأنه خلق في الطبيعة، وتطور بشكلٍ طبيعي ليصيب البشر، وإنه يعتقد أن هذا هو السيناريو الأكثر ترجيحاً. ولكن “لا بد من المزيد من التحقيق والشفافية؛ ضروريات لتحديد أصل الجائحة”. وأضاف: “كان من الممكن أن يدقق تحقيق شامل في مستوى السلامة البيولوجية الذي تم بموجبه إجراء الدراسة على فيروس كورونا الذي جاء من الخفافيش في معهد ووهان. وكان هذا التحقيق ليشمل معلومات مفصلة حول إجراءات التدريب وسجلاتها، وإجراءات السلامة وسجلاتها، وحول الاستراتيجيات المتبعة في منع تسرب الفيروسات غير المقصود”.

ويرجع هذا التحول في آراء كبار العلماء إلى التصريحات المتضاربة الصادرة عن الباحثين الصينيين. ويرى بعض العلماء وجود عامل آخر هو تراجع حدة خطاب الحكومة الأمريكية بهذا الخصوص في الأشهر الأخيرة.

الفريق الذي تقوده منظمة الصحة العالمية، والذي زار ووهان في وقتٍ مبكر من هذا العام، خلص إلى تقرير مشترك مع علماء صينيين متخصصين، صدر في مارس الماضي، بأن “كوفيد-19” على الأرجح انتقل من الخفافيش إلى البشر عبر حيوان آخر، ووضع نظرية تسرب الفيروس من أحد المختبرات في أسفل قائمة الاحتمالات.

يقول بعض أعضاء الفريق، الذي أمضى نحو ثلاث ساعات في المعهد، إنهم لم يتمكنوا من الحصول على أكثر من تطمينات من العاملين في المعهد. وفي اليوم نفسه الذي صدر فه التقرير قال الدكتور تيدروس إن الفريق لم يستكشف بشكل كافٍ احتمال أن يكون أصل الفيروس من المختبر.

واستجابتِ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والعديد من الحكومات الأخرى، للتقرير بالمناشدة لإجراء المزيد من التحقيقات الجدية الشفافة حول أصول الجائحة دون أن تدعو بشكلٍ مباشر وعلني إلى تحري نظرية الأصل المختبري للفيروس.

ويتساءل بعض العلماء عن أسباب عدم تمكن الفريق الذي تقوده منظمة الصحة العالمية، والذي عمل على تحري أصول الجائحة في دول أخرى؛ مثل إيطاليا، من إجراء اختبارات الأجسام المضادة وغيره على الناس والحيوانات في المنطقة المحيطة بالمنجم الذي احتضن أقرب الفيروسات قرباً من فيروس SARS-CoV-2.

وقال بيتر بن مبارك؛ عالم سلامة الأغذية الذي ترأس الفريق: “أوصى الفريق بمثل هذا البحث؛ ولكن الجدول الزمني لا يزال غير واضح”.

اقرأ أيضاً: وباء كورونا.. كيف استطاعت الصين إدارة الأزمة؟

فيروس غامض

يأتي الوصف الأكثر تفصيلاً للمرض الذي أصاب عمال المنجم من أطروحة الماجستير التي كتبها لي شو، من كلية الطب السريري رقم 1 في جامعة كونمينغ الطبية في جنوب غرب الصين، والذي لم يستجب لأيٍّ من طلبات التعليق. وتصف أطروحته التي أشرف عليها رئيس قسم الطوارئ في المستشفى، آنذاك، كيف أُدخِل رجل في الثانية والأربعين من عمره يدعى “لو” إلى المستشفى في الخامس والعشرين من أبريل 2012.

كان السيد “لو” يعمل في إزالة فضلات الخفافيش في المنجم منذ 2 أبريل، وكان يعاني حمى وسعالاً لمدة أسبوعين. وفي الأيام الثلاثة الأخيرة أصبح يعاني صعوبة في التنفس، وبدأ يسعل بلغماً بلون الصدأ مصحوباً ببقع من الدم.

أظهرت صور الأشعة المقطعية وجود التهاب رئوي حاد مصحوب بنفس العلامات الرئوية التي نشاهدها اليوم على رئات مرضى “كوفيد-19″؛ ولكن اختبارات الدم والاختبارات الأخرى لا يمكن أن تحدد السبب بدقة. وخلال الأسبوع التالي، دخل إلى المستشفى خمسة عمال آخرون من المنجم تتراوح أعمارهم بين 30 و63 عاماً، وكانوا جميعهم يعانون الأعراض نفسها.

استشار الأطباء خبراء الأمراض التنفسية؛ ومن بينهم زونغ نانشان، الذي ترأس معركة الصين بين عامَي 2002 و2003 ضد تفشي مرض الالتهاب التنفسي الحاد الوخيم “سارس”. شخَّص الدكتور زونغ الالتهاب على أنه التهاب فيروسي على الأرجح، وأوصى بإجراء اختبار سارس، ومحاولة تحديد نوع الخفافيش في المنجم. وهو أيضاً لم يستجب لطلبات التعليق.

وجاء في أطروحة أخرى لطالب دكتوراه بإشراف الدكتور جورج غاو، رئيس المركز الصيني لمكافحة الأوبئة والوقاية منها، أن أربعة من عمال المناجم الستة جاءت نتائج تحاليل الأجسام المضادة لسارس لديهم إيجابية.

تواصَل المستشفى مع خبراء من مؤسساتٍ عديدة أخرى؛ من بينها معهد ووهان لعلوم الفيروسات، ولكن لم يتمكن أي منها من تحديد سبب مرض العمال.

اقرأ أيضاً: لماذا لا تثق الولايات المتحدة في الأرقام الصادرة عن الصين بخصوص “كورونا”؟

وبحلول منتصف أغسطس، توفي ثلاثة منهم. كان الاعتقاد السائد هو أنه فيروس تاجي تنقله الخفافيش يشبه فيروس سارس، وفقاً لأطروحة السيد لي. لاحظ العلماء الذين كانوا لا يزالون يبحثون عن أصل سارس أن كهوف الخفافيش في المنطقة كانت مصدراً محتملاً، وبدأوا بجمع عيناتٍ منها.

لاحظ العلماء أن كهوف الخفافيش يمكن أن تكون مصدراً محتملاً لنشأة الفيروس وبدأوا بأخذ عيناتٍ منها- “سيدني مونيتور هيرالد”

 وعلى مدى العام التالي، دخل علماء معهد ووهان لعلوم الفيروسات إلى منجم موجيانغ، وأخذوا عينات براز من 276 خفاشاً وتمكنوا من تحديد ست فصائل متخلفة، وفقاً لورقة بحثية نشرها المعهد لاحقاً. وقاموا باستخراج المواد الجينية من العينات ودراستها، فتبين أن نصف العينات كانت إيجابية لاختبارات الفيروسات التاجية؛ ومن بينها سلالة غير معروفة شبيهة بفيروس سارس، أطلقوا عليها تسمية فيروس RaBtCoV/4991.

ووجد الباحثون أن جميع السلالات الست أظهرت أدلة على الإصابة بعدوى الفيروس التاجي. وبعبارةٍ أخرى، فإن هذا الفيروس قادر على تبادل المواد الوراثية بسهولة مع الفيروسات المشابهة لخلق فيروس تاجي جديد؛ وهذه بيئة ملائمة لخلق فيروسات جديدة قادرة على الانتقال إلى البشر.

قادت هذا البحث شي زينغلي؛ كبيرة خبراء معهد ووهان التخصص في الفيروسات التاجية التي تصيب الخفافيش. وعندما نشرت النتائج في عام 2016 لم ينتبه إلى فيروس RaBtCoV/4991 إلا عدد قليل جداً من العلماء. لم يبدُ وكأنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بفيروس سارس، وقد جاء من منجم مهجور، كما ذكر البحث الذي لم يُشر إلى عمال المنجم الذين أصيبوا بالمرض آنذاك.

ولم يكتسب البحث أهمية إلا بعد أن بدأت جائحة “كوفيد-19”. ففي فبراير 2020، نشرت الدكتورة شي وزملاؤها بحثاً في مجلة “نيتشر” العلمية، كشف عن وجود فيروس يُدعى RaTG13، كشفت دراسة تسلسله الجيني عن أنه يتطابق بنسبة 96.2% مع فيروس SARS-CoV-2؛ مما يجعله الفيروس الأقرب للفيروس الذي سبب الجائحة. وقالوا إنه وجد في خفاش من منطقة يونان التي يقع فيها منجم موجيانغ؛ ولكنهم لم يذكروا متى وأين تم ذلك. وقد اعتبر هذا الكشف بمثابة اختراق في البحث عن مصدر “كوفيد-19″، ويشير بقوة إلى أن أصوله ترجع إلى الخفافيش.

اكتشف العلماء في خفافيش المنطقة التي يوجد فيها منجم موجيانغ فيروساً هو الأقرب إلى الفيروس المسبب لـ”كوفيد-19″- “ريد سيكتور”

أوجه شبه صارخة

وفي الأسابيع التي تلَت ذلك، لاحظ بعض العلماء من خارج الصين أوجه تشابه مذهلة في تواريخ أخذ العينات والتسلسل الجيني الجزئي لفيروس RaTG13، والفيروس الذي يدعى RaBtCoV/4991، الذي عثر عليه فريق الدكتورة شي في منجم موجيانغ.

وبعد طلباتٍ متكررة من العلماء لتوضيح المسألة، قالت الدكتورة شي إن هذين الفيروسين كانا فيروساً واحداً. ونشرت تحديثاً لبحثها في عدد نوفمبر من “نيتشر” لتوضح ذلك، وتذكر تفاصيل عن عمال المنجم الذين أصيبوا بالمرض. وعندئذ، أعيدت تسمية الفيروس لتعكس فصيلته، ومكانه، وسنة أخذ عينات منه. وكشفت أيضاً أن معهد ووهان لعلوم الفيروسات قد أعاد فحص العينات المأخوذة من عمال المنجم، وتأكد من أنهم لم يكونوا مصابين بفيروس SARS-CoV-2. وكشفت أن فريقها اكتشف لاحقاً ثمانية فيروسات أخرى من نوع سارس في المنجم.

اقرأ أيضاً: هل تؤدي جائحة كورونا إلى تمكين الصين على حساب الولايات المتحدة؟

وبعد طلباتٍ متكررة أيضاً من العلماء لإِطلاعهم على التسلسل الجيني للفيروس، قامت الدكتورة شي وزملاؤها بنشر ورقة بحث علمية على خادم ما قبل الطباعة (مما يعني أن النتائج لم تتم مراجعتها بعد). وجاء في الورقة: “الفيروسات الثمانية كانت تقريباً متطابقة في ما بينها، وتطابقت بنسبة 77.6% فقط مع فيروس SARS-CoV-2، مع أن أحد أجزاء رموزها الجينية كان متطابقاً بنسبة 97.2%”. وقالت الورقة إنه “على الرغم من وجود تكهنات تدَّعي إمكانية تسرب فيروس RaTG13 الذي سبب SARS-CoV-2 من المختبر؛ فإن أدلة التجربة لا يمكن أن تدعم هذه التكهنات”.

يتساءل العديد من العلماء عن سبب امتناع معهد ووهان لعلوم الفيروسات عن الإعلان عن وجود هذه الفيروسات في وقتٍ سابق، وكذلك عن ارتباطها بالمنجم، ولماذا انتظر المعهد طويلاً قبل أن يسمح للعلماء بفحص تسلسلها الوراثي. ويقول العلماء إن مثل هذه المعلومات حول أنواع الفيروسات التاجية التي كانت متداولة هي أمر بالغ الأهمية في تحديد أصل الجائحة.

وأشار بعضهم إلى أن الدكتورة شي أكدت مراراً أن عمّال المنجم كان يشتبه بإصابتهم بعدوى فطرية، وليس بعدوى فيروسية، وهذا ما يتعارض مع الأبحاث في ذلك الوقت، ومع التحديث الذي نشرته في مجلة “نيتشر”؛ حيث قالت إنه من المرجح أن العمال قد أصيبوا بفيروس.

يتوق الكثير من الباحثين إلى تفحص بيانات معهد ووهان حول 22,000 عينة، وتسلسل جيني فيروسي؛ بما فيها 15,000 من الخفافيش عندما تصبح هذه البيانات متاحة للعموم، بعد أن أزيلت من موقع المعهد على الإنترنت عام 2019. قالت الدكتورة شي لفريق منظمة الصحة العالمية في فبراير إن المعهد أزال البيانات عن الإنترنت، بعد أن تعرضت إلى أكثر من 3000 هجوم إلكتروني.

منظمة الصحة العالمية تقول إن الفيروس من منشأ حيواني وليس من مختبر- “إي بي سي نيوز”

لم يطلب فريق منظمة الصحة العالمية الاطلاع على تلك البيانات، وفقاً للدكتور بيتر دازاك؛ رئيس مؤسسة “إيكو هيلث ألايانس” غير الربحية، مقرها نيويورك، والتي كانت جزءاً من الفريق. وتضمنت البيانات معلوماتٍ جمعها معهد ووهان، من خلال العمل مع مؤسسة “إيكو هيلث ألاينس”، التي كان يمولها المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية والتي تعاونت مع معهد ووهان في دراسة الفيروسات التاجية التي تصيب الخفافيش. قال الدكتور دازاك في وقتٍ سابق من هذا العام، إنه بسبب علاقة مؤسسته مع معهد ووهان “نعرف بشكلٍ أساسي” ما الفيروسات الموجودة في البيانات، ولم يكن أي منها أقرب إلى SARS-CoV-2 من فيروس RaTG13.

علاوة على ذلك، كان فيروس RaTG13 مختلفاً جداً عن SARS-CoV-2 ولم تتم زراعته بنجاح في المختبر. قال الدكتور بن مبارك؛ رئيس فريق منظمة الصحة العالمية: “بالطبع ناقشنا الأمر، وحسب ما نعرفه، هنالك تسلسل فقط، وليس فيروساً. لم ينجحوا قط في زراعة فيروسٍ من عينة فضلات الخفاش”.

إذن ما كان لدى معهد ووهان هو مجرد تسلسل وراثي، وليس فيروس RaTg13 المعدي الذي يمكن أن يتسرب من المختبر. إن امتلاك الجينات الوراثية يثير التساؤلات حول مدى إمكانية استخدامها كأساس لخلق فيروسات من صنع الإنسان. ومع ذلك يقول علماء آخرون إنه لا يمكن التحقق من ذلك بشكل مستقل من دون تفحص سجلات مختبرات معهد ووهان، وسجلات العينات فيها، والبيانات الفيروسية، وأن الأوراق البحثية تظهر أن موظفي المعهد كانوا يجمعون الفيروسات التاجية من الخفافيش، ويزرعونها مع مواد جينية أخرى.

هنالك مَن لا يشعر بالارتياح لدور الدكتور دازاك في فريق منظمة الصحة العالمية؛ بسبب علاقته الوثيقة مع معهد ووهان لعلوم الفيروسات، ورفضه المعلن لنظرية المختبر منذ مطلع العام الماضي. وقال الدكتور دازاك إنه قدم بيان عدم تعارض المصالح إلى منظمة الصحة العالمية، عندما تقدم بطلبه لعضوية الفريق، وقالت منظمة الصحة العالمية إنها توصلت إلى قناعة مفادها أن عمله لا يشكل تعارضاً.

اقرأ أيضًا: تسييس “كورونا”.. يشعل فتيل حرب باردة جديدة بين أمريكا والصين

التجارب المخبرية

أحد مجالات الجدل هو التجارب التي كان يقوم بها معهد ووهان لخلق فيروسات جديدة عن طريق جمع عناصر من الفيروسات التاجية التي تصيب الخفافيش، لمعرفة ما إذا كان بإمكانها أن تصبح أثر عدوى بالنسبة إلى البشر. ومثل هذه التجارب -التي تعرف أحياناً باسم تجارب اكتساب الوظيفة- لطالما أثارت الجدل بين العلماء. فداعموها يقولون إنها أفضل الطرق لتحديد المصادر المحتملة للأوبئة المستقبلية، ولتطوير اللقاحات، بينما يقول منتقدوها إن خطر تسرب فيروسات مؤذية معززة وراثياً من المختبرات كبير جداً. ويختلف العلماء حول أنواع الأبحاث التي تشمل تجارب “اكتساب الوظيفة”.

توقفتِ المعاهد الصحية الوطنية في الولايات المتحدة عن تمويل أبحاث “اكتساب الوظيفة” منذ عام 2014، وفي عام 2017 وضعت نظاماً يتطلب مراجعة لجنة من الخبراء جميع طلبات المنح التي تتضمن تجارب “اكتساب الوظيفة”. ولكن القيود في الصين كانت أخف بكثير.

توقفت المعاهد الصحية الوطنية عن تمويل أبحاث “اكتساب الوظيفة” منذ عام 2014- “ذا لانسيت”

يقول بعض العلماء إن العمل الذي وصفته الدكتورة شي يتناسب مع تعريفٍ واسع لتجارب “اكتساب الوظيفة”. هنالك اختلافات كبيرة في الرأي حول نقاط ترسيم الحدود في هذا الشأن. وقد وصفت الدكتورة شي علناً إجراء التجارب؛ بما فيها تلك التي أُجريت بين عامَي 2018 و2019، لترى ما إذا كان بإمكان فيروسات الخفافيش المختلفة استخدام أشواك بروتينية معينة على سطحها للالتحام مع إنزيم في الخلية البشرية، يعرف باسم ACE2. وهذه هي الطريقة التي يصيب بها كل من فيروس سارس وفيروس SARS-CoV-2 البشرَ.

وقالت الدكتورة شي لفريق منظمة الصحة العالمية، في فبراير الماضي، وفقاً لتقريرها، إن هذه التجارب تضمنت الجمع بين أحد فيروسات الخفافيش مع الأشواك البروتينية لنوع آخر، ثم حقنه في فئران معدلة وراثياً لاحتواء إنزيم ACE2 البشري.

وصف الدكتور دازاك عملاً مماثلاً قام به الدكتور باريك من جامعة نورث كارولينا، في تسجيلٍ صوتي قام ببثه قبل انتشار الجائحة بوقتٍ قصير، قال فيه إن الهدف كان إنتاج لقاح لمرض سارس. ووصفت مؤسسة “إيكو هيلث ألاينس” هذه التجارب بأنها أحد أهداف منحة أبحاث المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية المتعلقة بالفيروسات التاجية التي تصيب الخفافيش؛ ولكنَّ متحدثاً باسم هذه المؤسسة غير الربحية، قال “لم تشارك في أبحاث اكتساب الوظيفة، ولم تمولها”.

وقال الدكتور دازاك، في وقتٍ سابق من هذا العام: “إذا كان العالم يريد إيقاف العمل الذي لم يكن أبحاث (اكتساب الوظيفة) بسبب نظرية مؤامرة، فهذا خطأ كبير. فمن غير المحتمل على الإطلاق أن يكون هذا الفيروس قد جاء من مختبر. وإذا ركزنا على قضية المختبر وتجاهلنا ما حصل في الحقيقة، فإننا نفعل ذلك على مسؤوليتنا الكاملة”.

اقرأ أيضاً: الصين و”بلهاء كوفيد” المفيدون: نموذج لمتلازمة ستوكهولم

أحد الأسئلة التي تقسم المجتمع العلمي الآن هو ما إذا كان يمكن لمثل هذه التجارب أن تكون قد خلقت فيروس SARS-CoV-2 سواء بطريق الصدفة أو كجزء من جهود مقصودة لمعرفة أي الفيروسات يمكن أن تتطور لتصبح خطيرة على البشر.

يقول العديد من العلماء البارزين إن ذلك مستحيل في حالة RaTG13 وإن فيروس SARS-CoV-2 لا يمكن أن يكون قد نشأ إلا من فيروس أقرب إليه وراثياً. وبينما يقول معهد ووهان لعلوم الفيروسات إن فيروس RaTG13 هو أقرب فيروس كان لديه للفيروس الذي سبب الجائحة، يطالب العلماء بتقصي مختبرات المعهد والاطلاع على سجلاتها للتأكد من ذلك.

أظهر التسلسل الوراثي لفيروس RaTG13 أنه لا يمكن أن يتم تعديله في المختبر ليصبح SARS-CoV-2- “ريسيرش غايت”

 يقول العديد من العلماء المتخصصين في علم الأحياء الجزيئي، إن تجارب اكتساب الوظيفة سوف تترك بصمة جينية واضحة في التسلسل الجيني للفيروس تظهر بوضوح الجزء الذي تم إدخاله في المختبر. بينما يجادل علماء آخرون بأن تقنياتٍ أحدث بإمكانها ألا تترك أي أثر.

إيان ليبكن، عالم الأمراض المعدية في جامعة كولومبيا الذي عمل عن قرب مع شركاء صينين في أبحاثٍ مشتركة، كان واحداً من خمسة علماء شاركوا العام الماضي في كتابة بحث يستبعد فكرة أن يكون الفيروس قد تم التلاعب به في المختبر. والآن يقول إنه مقتنع بأن معهد ووهان لعلوم الفيروسات كان يجري تجارب على فيروساتٍ تاجية في مختبراتٍ لا تحظى بمستوى الأمان المطلوب في الولايات المتحدة.

قالت الدكتورة شي للفريق الذي تقوده منظمة الصحة العالمية، إنه لم يكن هنالك أي تسرب للفيروسات، وإن أحداً من أعضاء فريقها لم يصب بـ”كوفيد-19″.

وقال العديد من الشركاء الأجانب في أبحاث الدكتورة شي إنهم وجدوا مختبراتها وأساليب عملها آمنة. قالت مورين ميلر، عالمة الأمراض المعدية في جامعة كولومبيا، “تمتلك شي زينغلي قبضة حديدية. إنهم أشخاص أذكياء؛ لقد كانت تعمل على منع جائحة كهذه بالضبط، وهي تدرك مدى خطورة العمل مع الفيروسات التاجية”.

قال العديد من العلماء الأجانب إن مختبرات معهد ووهان وأساليب عملها آمنة- أرشيف

المصالح السياسية

بدأ الرئيس ترامب بالترويج لفرضية المختبر في العام الماضي؛ ولكن إدارته لم تفصح عن أي دليل.

يقول أندرو بريمبيرغ، السفير الأمريكي لدى منظمة الصحة العالمية، في ذلك الوقت: “لقد نأت بعض الدول التي كان من الممكن أن تدعم التحقيق في فرضية المختبر بنفسها عندما بدأ ترامب بالحديث عن هذا الأمر. كان تغيراً بين ليلة وضحاها. عندما لمس الرئيس هذا الموضوع، تخلى عنه الآخرون”.

بدأت مجموعة صغيرة من العلماء الذين يتواصلون عبر “تويتر” بتبادل الأبحاث مفتوحة المصدر التي تدعم فرضية المختبر. وقد نجحت أستراليا، دون أن تؤيد الفرضية بشكل علني، بالضغط على منظمة الصحة العالمية لتشكيل فريق من العلماء لتحري أصول الفيروس في الصين.

ولم تقل إدارة بايدن إنها تعتقد بوجود تسرب من المختبر؛ بل اكتفت بالقول إن هذا الاحتمال يجب أن يدرس بعناية أكبر.

اقرأ أيضاً: الجرائم والمضايقات العنصرية ضد الآسيويين ترتفع إلى مستوى قياسي خلال جائحة “كوفيد-19

قبل زيارة فريق منظمة الصحة العالمية إلى ووهان، قال بعض أفراده إنهم كانوا يشككون أيضاً في فرضية المختبر؛ فمثل هذه الحوادث هي نادرة للغاية، بالمقارنة مع عدد الانتقالات من الحيوانات إلى البشر، ولكنهم قالوا إنهم كانوا منفتحي الذهن.

في نهاية المطاف، لم يتمكن الفريق من الاطلاع على أي من سجلات السلامة الخاصة بمختبرات معهد ووهان أو سجلات اختبارات العاملين فيه. ولكن رغم كل شيء، يقول أعضاء الفريق إن الزيارة كانت مفيدة جداً.

ومن بين الذين يطالبون بإجراء تحقيقات شاملة جايمس لو دوك، المدير المتقاعد لمختبر غالفستون الوطني، أحد أهم مرافق الاحتواء الحيوي في الولايات المتحدة الذي ساعد في تدريب العديد من كبار مسؤولي الأمن والسلامة في معهد ووهان، ومهندسي البناء الذين عملوا فيه. ويقول الدكتور لو دوك: “أعتقد أنه من المهم أن ندقق جيداً في ظروف المختبر، وأن نستطلع الإجراءات المتبعة، وأن نجري تحقيقات جدية”، وقال إنه يستبعد كثيراً فرضية المختبر؛ ولكن الغرض من كل هذا هو “اتباع العلم”.

المصدر: ذا وول ستريت جورنال

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة