الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
تراجع سوق الأسرار
يجب على وكالات التجسس الأمريكية أن تتكيف مع عالم المصادر المفتوحة

كيوبوست- ترجمات
زاكري تايسون براون- كارمن ميدينا♦
لما يقارب ثلاثة أرباع القرن، اعتمد القادة العسكريون والسياسيون الأمريكيون على أجهزة الاستخبارات الأمريكية في تزويدهم بالمعلومات والتحليلات الضرورية؛ لمساعدتهم على اتخاذ القرارات المناسبة في مسائل الأمن القومي. وأثناء الحرب الباردة كانت المعلومات السرية هي أهم تلك المعلومات، وكانت طائرات الاستطلاع وأبراج التنصت والطرق والوسائل الأخرى التي جرى اختراعها للحصول على المعلومات مكلفة للغاية، وتتطلب بنية أمنية معقدة من أجل حمايتها.
غير أن الهيكلية المغلقة للأجهزة الاستخباراتية أصبحت، منذ انتهاء الحرب الباردة، تشكل عقبة أمام التدفق السريع للمعلومات. والآن في عصر الوفرة الهائلة في البيانات والتهديدات الجديدة التي أصبحت تواجه المصالح الأمريكية، أصبح التواصل عن بُعد والتبادل السريع للمعلومات والحقائق أكثر أهمية، وأصبح لزاماً على قادة الأمن القومي البحث عن مصادر أكثر ملاءمة في مكان آخر. وأصبح لزاماً على مجتمع الاستخبارات الأمريكية الذي يقوم على عالم من الأسرار أن يتأقلم على العمل بفعالية في العراء.
اقرأ أيضاً: آخرها السيارات.. هكذا تعمل تكنولوجيات التجسس بين أيديكم
بالطبع لسنا أول مَن أدرك مدى حاجة وكالات الاستخبارات في واشنطن إلى إعادة اكتشاف نفسها كي تحافظ على فعاليتها. كان المدير السابق للمخابرات المركزية الأمريكية ستانسفيلد تيرنر، على قناعة بأن التهديد الأكبر للولايات المتحدة لن يكون من صراع مسلح، بل من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وقال مرة إن التحليلات الاستخباراتية يجب أن تستفيد أكثر من المصادر المفتوحة، ويجب أن تكون أكثر انفتاحاً. وهذه النصيحة ترجع إلى ثلاثين عاماً مضت.
في الأشهر الأخيرة اشتدت الدعوات إلى تنشيط هذه الوكالات، إلا أن معظم المقترحات كانت غير كافية؛ لأنها تركت الآلية المغلقة لجمع المعلومات ونشرها دون تغيير. فمع أن هذه الوكالات الكبيرة تصدر نحو 50.000 تقرير إخباري كل عام، فإن معاييرها الأمنية الصارمة إلى حد مبالغ فيه لا تسمح لمعظم هذه التقارير بالوصول إلا إلى ضباط الاستخبارات أنفسهم. ومع أن المهمة الرئيسية لهذه الوكالات هي “قول الحقيقة لمن هم في السلطة” إلا أن مجتمع الاستخبارات غالباً ما يتحدث مع نفسه.
اقرأ أيضاً: كيف استخدمت المخابرات الأمريكية الجراحة الدماغية من أجل إنتاج 6 كلاب يجري التحكم بها عن بعد؟
بيئة عمل جديدة
لقد نثرت ثورة المعلومات بذور نظام بيئي جديد لعمليات الاستخبارات مفتوحة المصدر. وأصبحت شركات مثل “ريكوردد فيوتشر، وديجيتال غلوب، ومكينزي” توفر معلومات أشبه بالاستخباراتية مثل تجميع المعلومات وتحليل البيانات، بالإضافة إلى خدمات عند الطلب؛ كتقديم صور الأقمار الصناعية، والاستشراف الاستراتيجي بعيد الأمد، بعد أن كانت من اختصاص الحكومات وحدها؛ حتى إن بعض الشركات، مثل “بيلينغكات”، قد أزالت إلى حد ما الحد الفاصل بين الصحافة والاستخبارات، من خلال تقنيات المصادر المفتوحة التي تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، والصور التجارية والوثائق الرمادية (يشير تعبير الوثائق الرمادية إلى المعلومات التي تجمعها الوكالات الحكومية، والمؤسسات الأكاديمية، والمؤسسات التجارية، والتي لا تكون عادة متاحة للجمهور- المترجم).
وكثيراً ما تتفوق الشركات الخاصة والمؤسسات الصحفية على الوكالات الاستخباراتية في لعبتها الخاصة من حيث السرعة وإمكانية الوصول إلى المعلومات.

ومع ذلك، فلا تزال وكالات الاستخبارات تعمل في جوٍّ من السرية، وتطلب من موظفيها أن يكونوا في منشآت آمنة للحصول على معلومات ينتجها المجتمع، وهذا أمر يتطلب ميزانيات ضخمة، وطرقاً مكلفة للغاية لجمع المعلومات، ويدفع المحللين إلى وصم تقاريرهم بالسرية البالغة من أجل تبرير هذه النفقات. وغالباً ما تكون المعلومات التي يجمعونها بوسائل سرية متاحة من مصادر مفتوحة لا تتطلب أية حماية أمنية. لذلك يجب أن يكون التوجه نحو هذه المصادر هو القاعدة في العمل الاستخباراتي، وليس الاستثناء.
اقرأ أيضاً: التعلم من إخفاقات الاستخبارات
التفكير خارج الصندوق
وجدت الولايات المتحدة نفسها مؤخراً في خضم جائحة مميتة، وحملة تضليل هائلة أدت إلى اضطرابات سياسية؛ لذلك ينبغي لواشنطن أن توسع مفهومها للأمن القومي إلى ما هو أبعد من تهديد الجيوش الأجنبية والشبكات الإرهابية. تتسرب شبكات النفوذ إلى الحكومات والأحزاب السياسية والأفراد، وكثيراً ما تتداخل التهديدات المحلية والأجنبية في ما بينها، ومن السهل أن تجد الحكومات والشركات وحتى الأفراد، أنفسهم في مواجهة مباشرة مع منافسة القوى العظمى. ما يسميه خبراء الأمن السيبراني “ساحة المعركة” يشمل الكوكب بأسره؛ مما يجعل المسافات عديمة المعنى، ويعرض البلاد إلى التلاعب والهجوم من قِبل أي شخص تقريباً ومن أي مكان. وربما تكون هذه المعارك افتراضية، إلا أن تأثيراتها -من نشر التطرف إلى اختطاف البنى التحتية الحيوية- ستكون حقيقية دون ريب.

لم تعد الأطر التقليدية لمجتمع الاستخبارات صالحة لهذا العصر الجديد؛ حيث يتم التعامل مع الأمن القومي كمجموعةٍ من القضايا المنفصلة التي يمكن توزيعها على ملفات منفصلة. ربما يساعد فصل هذه الملفات الحكومات على توزيع الموارد البشرية والميزانيات عليها؛ ولكن اليوم يمكن لمشكلات كل من هذه الملفات أن تتفاعل مع بعضها، وتؤثر في ملفاتٍ أخرى. اليوم أصبحت جدران الحماية التي أنشأها مجتمع الاستخبارات لحماية هذه الملفات عالية؛ لدرجة أنها صارت تضر أكثر مما تنفع.
الوقت هو العامل الأساسي
قال أحد المسؤولين الكبار في وكالة المخابرات المركزية إن أثمن سلعة لدى صانعي السياسات هو الوقت؛ وهم لا يملكون فائضاً منه للبحث عن المعلومات. في الوقت الراهن يتلقى عدد قليل من المسؤولين المعلومات الاستخباراتية من خلال الملخص اليومي للرئيس أينما كانوا في أنحاء العالم؛ لكن حتى هؤلاء لا يمكنهم في كثيرٍ من الأحيان سوى إلقاء نظرة عابرة على محتوى هذا الملخص.
أما بقية كبار المعنيين بمسألة الأمن القومي في دوائر الدفاع والشرطة، ولجان صياغة السياسات، ممن يتخذون القرارات كل يوم، فلا يستطيعون الوصول إلى المعلومات السرية إلا وراء أبواب مغلقة أو أقبية تحت الأرض قد يضطرون إلى القيادة لمدة ساعة أو أكثر للوصول إليها. وبالنظر إلى مدى انشغالهم بالاجتماعات المتتالية، وبقراءة بريدهم اليومي، لن يكون لديهم الكثير من الحوافز للسعي للحصول على هذه المعلومات السرية والاطلاع عليها.
على النقيض من ذلك، يسعى مقدمو المصادر المفتوحة إلى تسهيل الوصول إلى خدماتهم؛ حيث تشكل سهولة وصول المستخدم إلى المعلومات أساس نجاح أو فشل عملهم. ويجب على مجتمع الاستخبارات أن يكون قادراً على فعل الشيء نفسه. فاليوم يحتاج المستفيدون من المعلومات الاستخباراتية إلى المزيد من الشفافية، والمزيد من سهولة الوصول إلى المعلومة، والتعاون بين ما كان يطلق عليه سابقاً “المنتجون” و”المستهلكون” للمعلومات. يجب أن يكون مسؤولو الأمن القومي، في مختلف فروع الحكومة، قادرين على الوصول إلى المعلومات الاستخباراتية بسرعة وسهولة بطريقة تسهم في عملهم اليومي وفي القرارات التي يتخذونها.
اقرأ أيضاً: كيف تعاون “الموساد” و”CIA” لاغتيال سليماني؟
وسائل جديدة
لم يتم بناء الهيكل المغلق لمجتمع الاستخبارات في يومٍ واحد؛ ولذلك لا يمكن تحقيق مستقبل أكثر انفتاحاً بين عشية وضحاها. لذلك يجب أن تطور هذه الوكالات نظرتها من خلال التجريب، وإعادة المعايرة بما يحمي أسس مجتمع الاستخبارات، ويشجع تطورها ونموها.

يمكن البدء باقتراح متواضع مثلاً. تخيل منصة معلومات ديناميكية يجيزها مدير الاستخبارات الوطنية، ويمكن الوصول إليها من أي مكان وعبر أي جهاز؛ إن منصة كهذه ستوفر المعلومات الاستخباراتية بطريقةٍ سهلة ومريحة للعاملين في مجال الأمن القومي، وستتم حماية هذه المعلومات من خلال شبكة افتراضية خاصة يمكن في البداية أن تضم المعلومات الأقل حساسية ريثما يكتسب مجتمع الاستخبارات الخبرة والثقة في هذا النظام الجديد.
في البداية، سيتم تشجيع ضباط المخابرات على إنشاء المحتوى ونشره، وقد يقدمون، على سبيل المثال، خطوطاً فكرية جديدة في التحليل، أو يسلطون الضوء على وجهات نظر جديدة من مصادر متنوعة. وربما ينشرون تأملاتٍ قد تثير اهتمام محللين آخرين.
وتتيح مثل هذه المنصات لمحللي الاستخبارات إضافة المحتوى والحصول على ردود الفعل الفورية عند وقوع الأحداث. وسيكون المستخدمون قادرين على تجربة أشكال ومقاربات جديدة، فعلى سبيل المثال يمكن لصانعي السياسات والمحللين التعاون في ما بينهم من خلال نقاشات منضبطة للوصول إلى تقييم التطورات المستجدة. ويمكن للمحللين تحفيز إبداع بعضهم الآخر، وهذا أمر نادر الحدوث في عالم الاستخبارات.
وسوف تثبت بعض التعديلات نجاحها، وسيتم الاستغناء عن بعضها؛ ولكن النظام الأساسي سوف يتطور وينمو، كما فعلت التقنيات الحديثة، بطريقة ربما لم تخطر على بال مصمميه؛ ولكنها تعكس احتياجات مستخدميه.
♦الكاتبان:
زاكري تايسون براون: زميل في مشروع ترومان للأمن القومي، وضابط مخابرات سابق في وزارة الدفاع الأمريكية.
كارمن ميدينا: عملت كنائبة مدير الاستخبارات، في وكالة المخابرات المركزية، ومديرة مركز دراسات الاستخبارات.
المصدر: فورين أفيرز