الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

تحليل للغارات ضد قادة داعش في شمال سوريا

كيوبوست- ترجمات

كايل أورتن♦

أعلنت الولايات المتحدة في 12 يوليو أنها قتلت والي سوريا في تنظيم داعش في غارة بطائرة مسيّرة في قرية غالتان في منطقة جنديرس في محافظة عفرين شمال غرب سوريا على الحدود مع تركيا. وقد حدد بيان القيادة المركزية الأمريكية الرجل المقتول باسم “ماهر العجال”، على الرغم من أن التهجئة الأكثر دقة لاسمه هي ماهر العقال. وكان الشخص الذي كان يركب بجوار العقال عند مقتله على الدراجة النارية ذاتها “مسؤول كبير في داعش” و”على صلة وثيقة به”. وأشارت القيادة المركزية الأمريكية إلى أن هذا المسؤول في داعش “أصيب بجروح خطيرة خلال الغارة”، مضيفة أن غارة جنديريس لم تسفر عن أي إصابات بين المدنيين.

ماهر العقال

في حين أن العقال، سوري من قرية سلوك في منطقة تل أبيض في محافظة الرقة، لكنه لم يكن اسمًا مألوفًا قبل هذه الضربة، ومع ذلك فلم يظهر الرجل فجًأة بل لعب دورًا مهمًا داخل داعش في سوريا. من جانب آخر كان شقيقه فايز العقال (أبو سعد الشمالي)، شقيق ماهر قد قتل في شمال سوريا في 20 يونيو 2020 في غارة جوية يُفترض أن الولايات المتحدة هي من نفذتها، على الرغم من أنها لم تتبناها أبدًا.

عرف عن فايز تبنيه الخط شديد التطرف من أفكار داعش وبمعايير التنظيم اعتبر من المتطرفين، وقد أطلق سراحه من سجن صيدنايا السوري سيئ السمعة في بداية الانتفاضة في عام 2011. مسار فايز مألوف- فهو يكرر مسار عمرو العبسي (أبو الأثير)، على سبيل المثال- لأنه يشكل جزءًا من إحدى الحقائق الرئيسة الكامنة وراء الحرب السورية والتي تدور حول استراتيجية نظام بشار الأسد لتقسيم التمرد ضده وتطرفه من خلال دعم الجهاديين على أمل جعل البديل الوحيد للنظام غير مقبول. ومن ثم يدفع المجتمع الدولي مضطرا إلى دعم الأسد في عمليات القمع التي يقوم بها لأنها تتم ضد داعش، وهو ما حدث بشكل أو بآخر في نهاية المطاف. (كان تنظيم داعش على استعداد لمجاراة حيلة الأسد لجعل الصراع ثنائيًا بينهما، ومن الواضح أنه يأمل في التوصل إلى نتيجة مختلفة).

اقرأ أيضًا: داعش سوريا.. جيل جديد من الإرهابيين!

أصبح فايز أكبر مسؤول أمني في سوريا، ويبدو أنه كان يتولى بعض مهام الولايات (المحافظات) الأجنبية، وعُيّن واليًا للرقة خلال فترة “الخلافة”. كان فايز مقربًا جدًا من “الخليفة” في ذلك الوقت- كان حسب بعض الروايات رئيسًا للهيئة التنفيذية لداعش، اللجنة المفوضة- وخليفة محتمل. قتل فايز بالقرب من مدينة الباب، التي كانت مقرًا لحملة هجمات داعش الخارجية حتى صيف عام 2016 عندما استولت تركيا على المدينة. بحلول صيف عام 2020، كانت مدينة الباب تظهر علامات على أنها أصبحت مركزًا لنشاط تنظيم داعش مرة أخرى. وكان فايز يتجول باستخدام بطاقة هوية مزورة، تظهر اسم “أحمد الدرويش”، صادرة عن “الجيش الوطني السوري”، القوة التركية الوكيلة التي تدير شمال حلب. وكان ماهر يحمل أيضًا إحدى بطاقات الهوية هذه باسم “خالد صبيح”.

في يناير 2021، شنت قوات الأمن التركية سلسلة من المداهمات ضد خلايا داعش في جميع أنحاء الدولة. اعتقلت القوة المداهمة في شانلي أورفا (المعروفة أيضا باسم أورفا)، المحافظة الواقعة على الجانب الآخر من الحدود مباشرة من محافظة الرقة السورية، أحد قادة داعش الذي يُدعى “عزو خلف سليمان العقال”. وأفيد بأن سليمان اعترف بتزويد المتفجرات لهجومين إرهابيين متتاليين في تركيا: تفجير 20 يوليو 2015 في سروج، على الحدود السورية مباشرة في محافظة أورفا، الذي أدّى إلى مقتل أكثر من ثلاثين شخصًا في تجمع لليساريين والأكراد الأتراك، والهجوم الانتحاري الذي وقع في 20 يناير 2016 في السلطان أحمد في اسطنبول، بالقرب من المسجد الأزرق وآيا صوفيا، الذي أسفر عن مقتل ثلاثة عشر شخصًا.

“آيا صوفيا”– وكالات

قتلت جماعة حزب العمال الكردستاني الإرهابية شرطيين تركيين في 22 يوليو 2015 في جيلان بينار، شرق سروج، المتاخمة لرأس العين على الجانب السوري، ووصفت الجريمة صراحة بأنها انتقام من “التعاون” التركي مع داعش. وبذلك، انهار وقف إطلاق النار بين تركيا وحزب العمال الكردستاني الذي أبرم في مارس 2013، ما أدّى إلى استئناف الحرب من جديد، وأسفرت الانتخابات المبكرة التي عقدت في نوفمبر 2015 إلى استعادة الأغلبية التي خسرها حزب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في انتخابات يونيو 2015. استهدفت فظائع السلطان أحمد المنطقة السياحية- وكان الضحايا اثني عشر مواطنًا من ألمانيا ومواطن من بيرو- وأضرت باقتصاد تركيا الهش بالفعل. ويزعم أن سليمان شهد بأنه تصرف بناءً على تعليمات من ماهر العقال.

ووفقًا للباحث العراقي رائد الحامد، كما ورد في قناة “الحرة“، فإن ماهر وأبو إبراهيم الصفراني كانا هدفًا للغارة الأمريكية في 16 يونيو 2022 في شمال حلب، لكنهما لاذا بالفرار. ونجحت الغارة في قتل هاني أحمد الكردي (سالم)، “صانع قنابل متمرس وميّسر عملياتي أصبح أحد كبار القادة في الفرع السوري لداعش… [شارك الكردي في] إصدار تعليمات للآخرين بشأن صنع العبوات الناسفة، ودعم بناء مرافق المتفجرات بدائية الصنع، وتسهيل الهجمات على القوات الأمريكية والقوات الشريكة”. ونقلت قناة الحرة عن محلل آخر قوله إن ماهر كان يتقاسم الكثير من صفات الكردي، قائد ميداني متمرس في العمليات الحركية، وقد ترقى من موقع “الصف الثاني” هذا بعدما قضى التحالف المناهض لداعش بقيادة الولايات المتحدة على “الصف الأول”، ما يجعله في بعض النواحي أكثر خطورة من كبار المسؤولين الذين يقضون سنوات عديدة في إصدار التعليمات من المنازل الآمنة.

استخدم ماهر العقال أكثر من كُنيّة، “ماهر الشمالي” و”أبو أيمن الشمالي” و”أبو البراء الشمالي”، وفقًا لحامد، الذي يقدم ادّعاء مثيرًا إضافيًا بأن ماهر كان المتحدث باسم داعش المعين في مارس 2022، والمعروف حتى الآن باسم أبو عمر المهاجر فقط. (كانت هناك موجة من التكهنات حول مقتل المتحدث باسم داعش بعد خطأ طباعي في العدد رقم 339 من النبأ، النشرة الإخبارية الأسبوعية، في 19مايو، ولكن يبدو أن هذا لا علاقة له بمسألة ما إذا كان ماهر هو أبو عمر).

اقرأ أيضاً: داعش والقاعدة والإخوان المسلمون

مع الزمن سوف يمكن اكتشاف الدور الذي قام به ماهر بالضبط في داعش. في الوقت الحالي، من الواضح أن ادّعاء القيادة المركزية الأمريكية بأن ماهر كان “أحد أكبر خمسة قادة لداعش” أمر معقول. ومن الآثار المترتبة على ذلك أن الولايات المتحدة لديها معرفة جيدة بقيادة داعش وخلاياه في شمال سوريا لتكون قادرة على قتل المتحدث والخليفة في فبراير، وتنفيذ الغارة في يونيو (سواء كان ماهر هو الهدف أم لا)، وقتل ماهر بعد شهر.

توثيق لقيادات داعش

تقييم موقع ماهر العقال داخل داعش أمر صعب لسبب واضح هو أننا نتعامل مع تنظيم سري، حيث، بحكم تعريفه، يكون الحفاظ على سرية هيكله القيادي أولوية قصوى، وقد أثبت قدرته على القيام بهذه المهمة.   تمكّنت “حركة الدولة الإسلامية” من إخفاء حقيقة أن القوات الأمريكية في العراق قد اعتقلت عبد الرحمن القدولي (أبو علي الأنباري) في عام 2006، الخليفة المحتمل للمؤسس، أحمد الخلايلة، المعروف باسم أبو مصعب الزرقاوي. أطلق سراح القدولي في عام 2012، وقام بدور مهم في وضع الأساس لـ “الخلافة” في سوريا، ولم نكن لنعرف أبدًا عن أسره لو لم يختر داعش أن يخبرنا. وتحت قيادة الرجل الذي خلف الزرقاوي بالفعل في أواخر عام 2006، أبو عمر البغدادي، تمكّن التنظيم من زرع عدم اليقين بشأن ما إذا كان موجودًا أصلًا، على الرغم من خطاباته المنتظمة وحتى بعد أن كشفت مصادر محلية أن اسمه حامد الزاوي في مايو 2008. ولم يتضح هذا بشكل كامل حتى قتل الزاوي في أبريل 2010. كان خليفة الزاوي، الذي ربما يكون الزعيم الأكثر شهرة في التنظيم- “الخليفة” المعلن بعد يونيو 2014- هو أبو بكر البغدادي: استغرق الأمر أكثر من عام بعد تعيين أبو بكر في مايو 2010 لمعرفة أن اسمه إبراهيم البدري. إحدى الطرق التي أبقى بها البدري هويته مخفية، مع إعادة بناء داعش في 2010-2012، كانت تأجيل أول خطاب علني رئيس له حتى يوليو 2012، وتفويض مهام المتحدث الرسمي إلى طه فلاحة (أبو محمد العدناني).

أبو بكر البغدادي في آخر ظهور له – أرشيف

ومع ذلك، كانت هناك “نوافذ” على قيادة داعش. أدّت عملية قتل نائب البدري، سمير الخلفاوي (حاجي بكر)، على يد المتمردين السوريين في تل رفعت في يناير 2014، إلى العثور على وثائق سلّطت بعض الضوء على كيفية انتقال داعش إلى سوريا وهيكل الدولة البوليسية التي بدأوا في بنائها. وجاءت أخطر الخروقات في تدابير السرية التي تتبناها داعش بعد أن دخل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في حرب مع خلافة داعش في أواخر عام 2014. تبنت الولايات المتحدة نهج “العراق أولًا” تجاه داعش، مع تركيز الموارد على هذا الجانب من الحدود، لكنها شنت في مايو 2015 غارتها الأولى على سوريا، مستهدفة مسؤولًا ماليًا بالغ الأهمية، هو فتحي التونسي (أبو سيّاف العراقي). ستقدم الوثائق التي عثر عليها في تلك الغارة، وغيرها من الوثائق مع بدء الحرب، صورة مفصّلة إلى حد ما في عامي 2016 و2017 لهيكل قيادة داعش، وغيرها من المعلومات منذ ذلك الحين ملأت بعض الثغرات.

الجدير بالذكر أن آخر محاولات داعش للدفاع عن نفسه كانت في الباغوز في شرق سوريا، بقيادة أبو عمر الخلفاوي. وفي ظل سقوط الباغوز والتدمير النهائي للخلافة في مارس 2019، كان من المحتم تراجع كم المعلومات حول قيادة داعش: فهناك عدد أقل من المعلومات المتاحة مع انخفاض وتيرة عمليات الاستيلاء والقتل، ما يعني أن عددًا أقل من الوثائق الداخلية لداعش سيقع في أيدي العدو، وهناك اهتمام أقل، جزئيًا نتيجة لدورة الأخبار التي تنتقل إلى الاهتمام بقضايا أخرى مثل الغزو الروسي لأوكرانيا وجزئيًا لأن تهديد داعش قد تراجع. وقد تضاءل الشعور بالإلحاح مع “مغادرة التنظيم إلى الصحراء” لإعادة تجميع نفسه وانخفاض وتيرة وحجم حملته الهجومية الخارجية في الغرب بشكل كبير، على الرغم من أن داعش يواصل عملياته في المركز وتوسعه في أفغانستان وأفريقيا وأماكن أخرى.

ومع ذلك، لم يتوقف تدفق المعلومات. فمن الواضح أن الاستخبارات العراقية واصلت الاهتمام بمعرفة من يدير داعش، وكان هذا مهمًا في أحد أكثر التقارير الموضوعية التي أعدت عن قيادة التنظيم بعد الخلافة بواسطة الراحل هشام الهاشمي. وفي حين أن خسارة الخلافة قد دفعت داعش إلى أسفل قائمة الأولويات العامة في الغرب، فإن انهيار الدويلة أدّى أيضًا إلى القبض على العديد من كبار مسؤولي داعش، الذين يمكنهم تقديم معلومات تاريخية عن التنظيم، إن لم يكن معلومات استخباراتية يمكن اتخاذ قرارات بناء عليها.

اقرأ أيضاً: داعش يعيد لملمة صفوفه في سوريا والعراق وعبر مواقع الإنترنت

وكان من بين أسرى داعش في الفترة 2018-2020 بعض المسؤولين من الرتب الأدنى مثل صدام الجمل وأسامة العويد وجمال المشداني (أبو حمزة الكردي). بعض الجهاديين الأجانب البارزين، مثل “البيتلز” البريطانيين المسؤولين عن قتل الرهائن، الشافعي الشيخ وألكسندرا كوتي؛ وبعض كبار العناصر: إسماعيل العيثاوي (أبو زيد العراقي)، وعبد الناصر القرداش (الذي قد يكون اسمه الحقيقي طه الغساني)، وسامي جاسم الجبوري (حجي حميد). ومن المفترض أنه بمساعدة المعلومات الاستخبارية التي انتزعت أو استخلصت من هؤلاء الرجال تمكّنت الولايات المتحدة من التعرّف على محمد خضر موسى رمضان (أبو بكر الغريب) كأحد المسؤولين الإعلاميين الرئيسيين في داعش وتخصيص مكافأة لمن يدلي بمعلومات تقود للقبض عليه في مايو 2020.

وربما سمح هذا الكم الهائل من المعلومات للولايات المتحدة بوضع الخطط التي أدّت إلى القضاء على فابيان كلان (أبو أنس الفرنسي)، الذي قاد بعضًا من أسوأ فظائع داعش في أوروبا، قبل زوال الخلافة مباشرة، ولاحقًا معتز نعمان الجبوري (حجي تيسير)، عضو اللجنة المفوضة. كما فقد داعش اثنين من الأمراء أو الخلفاء في هذه الفترة. وأخيرًا ألقت القوات الخاصة الأمريكية القبض على البدري في أكتوبر 2019، وفي فبراير من هذا العام، ألقت القبض على خليفته أمير محمد المولى (أبو إبراهيم الهاشمي القريشي).

أبو إبراهيم الهاشمي القريشي الزعيم السابق لتنظيم داعش

البعد التركي

عندما قُتل البدري كان هناك جانب مثير للدهشة بشكل خاص: إنه الموقع. لقد قتل البدري في 27 أكتوبر 2019 في قرية باريشا في محافظة إدلب، في شمال سوريا، وليس في العراق، حيث كان يُفترض أن يختبئ الخليفة. كانت إدلب- ولا تزال- تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، فرع تنظيم القاعدة في سوريا كانت تعرف سابقًا باسم جبهة النصرة، التي كانت ذات يوم مجموعة واجهة لداعشأعلنت هيئة تحرير الشام انفصالها عن هيكل قيادة تنظيم القاعدة في يوليو 2016، وأعادت تسمية نفسها باسم جبهة فتح الشام، وفي يناير 2017، أعيد تسمية جبهة فتح الشام لتصبح هيئة تحرير الشام. ومنذ ذلك الحين، تطورت هيئة تحرير الشام بطرق مثيرة للاهتمام ومعقدة، ربما قبل كل شيء من خلال التعامل مع تركيا. وعلى الرغم من التغييرات التي طرأت على هيئة تحرير الشام ومعها على مدى السنوات الخمس الماضية وأكثر، فإنها ظلت دائمًا محاطة بالشكوك حول ولاء زعيمها، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، وما تفعله الجماعة. وقد سلّط مقتل البدري الضوء على ملابسات هذه القضايا مرة أخرى.

خلفية ضرورية

أطلقت تركيا ثلاث عمليات في سوريا: “درع الفرات” في أغسطس 2016 التي قادت للاستيلاء على شمال حلب من داعش. و”غصن الزيتون” في أوائل عام 2018 التي أدّت إلى الاستيلاء على محافظة عفرين المجاورة إلى الشرق من حزب العمال الكردستاني، الذي يطلق على نفسه اسم “قوات سوريا الديمقراطية” في سوريا. و”نبع السلام”، التي أدّت إلى الاستيلاء على محافظة الرقة الشمالية وجزء من شمال غرب محافظة الحسكة من حزب العمال الكردستاني.

يوجد في هذه المناطق الثلاث جنود أتراك، لكن الجزء الأكبر من المسؤولية الإدارية والأمنية يقع على عاتق الجيش الوطني السوري، الذي يتألف من بعض المتمردين السابقين والكثير من المجندين من مخيمات اللاجئين في تركيا، والشباب اليائسين الذين يحتاجون إلى دخل وغاضبون من تجريدهم من ممتلكاتهم من قبل نظام الأسد/ إيران و/أو حزب العمال الكردستاني، الذي يميلون إلى مساواته بنظام الأسد بعد أن ساعد حزب العمال الكردستاني تحالف النظام السوري على سحق مدينة حلب، المعقل الحضري الأخير للتمرد، في أواخر عام 2016. وفي حين أن “جهاز الاستخبارات الوطني” التركي يشرف على “جميع القرارات، الكبيرة والصغيرة” في “الجيش الوطني السوري”، فإنه لم يتمكن من تشكيله في هيكل حاكم وعسكري متماسك، كما أن طبيعته- كونه يتشكّل من فصائل متعددة يعمل بها رجال مدفوعون بالأجور، وكثير منهم يأتون من شرق سوريا وبالتالي ليس لديهم روابط اجتماعية مع الأشخاص الذين يحكمونهم ظاهريًا- تجعل من غير المرجح أن يحدث ذلك.

اقرأ أيضاً: نهاية الحملة العالمية ضد داعش في سوريا.. ماذا بعد؟

وهكذا، كانت النتيجة في المناطق التي تحكمها تركيا عبارة عن أرخبيل فوضوي من الإقطاعيات المتحاربة، حيث تقاتل مجموعات الجيش الوطني السوري بعضها البعض من أجل الأراضي والموارد، والمدنيون عالقون في مرمى النيران، عندما لا يتم استهدافهم مباشرة من قبل الميليشيات المفترسة التي هي في عدد من الحالات أشبه بعصابات المافيا. ينتقد بعض القوميين السوريين الوجود التركي باعتباره “استعمارًا“، لكن معظمهم سعداء بوجود جنود أتراك في مناطقهم لمنع الاشتباكات داخل الجيش الوطني السوري، وحيث يكون الوجود العسكري التركي أقوى، بالقرب من الحدود، يعيش السوريون في أمن وتنمية اقتصادية أفضل بكثير من غيرهم.

تتمتع إدلب، التي تحدها عفرين التي تسيطر عليها تركيا من الشمال وتركيا نفسها من الغرب، بوضع استثنائي، وإن كان متناقضًا، في سوريا. قاتلت جبهة النصرة/هيئة تحرير الشام جنبًا إلى جنب مع التمرد السوري بين عام 2012 وحاولت استمالته، وخلال هزيمته في حلب في عام 2016. في يوليو 2017، تخلت هيئة تحرير الشام عن المراوغة، وبعد “دمج” بعض الجماعات المتمردة، استولت بعنف على محافظة إدلب. وسمحت لبعض المتمردين الذين أعادوا الانضواء تحت راية الجيش الوطني السوري بالبقاء في إدلب، ولكن بعد تجريدهم من كل أشكال الحكم الذاتي. كانت رسالة هيئة تحرير الشام إلى الداخل هي أن أي شخص يريد مواصلة النضال الثوري ضد النظام يجب أن يلتف تحت رايتها، وإلى العالم الخارجي أي شخص يريد حلًا لإدلب لا ينطوي على إعادة غزو من قبل نظام الإبادة الجماعية ومن ثم تدفق ملايين اللاجئين إلى تركيا وبالتالي إلى أوروبا، يجب عليه التعامل مع هيئة تحرير الشام. وسرعان ما حصلت المجموعة على ما مبتغاها.

صورة لريف محافظة إدلب السورية بعد أن أنهكتها الحرب – وكالات

في أكتوبر 2017، وفي محاولة لمنع حزب العمال الكردستاني (الذي كان لا يزال يسيطر على عفرين في هذا الوقت) من التحول غربًا بعد الاستيلاء على الرقة، “العاصمة” السورية لتنظيم داعش، أقامت تركيا سلسلة من “نقاط المراقبة” العسكرية في إدلب بعد “عملية تفاوض مكثّفة” مع هيئة تحرير الشام. كان تفسير تركيا لما بدا وكأنه تأكيد لأسوأ الاتهامات الموجّهة ضدها حول التعاون مع الجهاديين في سوريا ذا شقين. أولًا، كانت الخيارات العسكرية لاقتلاع هيئة تحرير الشام مستحيلة- فقد كانت الجماعة راسخة جدًا في إدلب- وأي هجوم مباشر من شأنه أن يؤدي إلى وقوع هجمات إرهابية داخل تركيا. ثانيًا، كان وجود الأتراك في إدلب جزءًا من اتفاق “خفض التصعيد” مع روسيا في إطار أستانا (الذي يشمل إيران أيضًا) ومن شأنه أن يقضي على “الجماعات الإرهابية المتطرفة كافة”. كل ما في الأمر أن هذا يجب أن يكون من خلال حملة أطول من الحرب السياسية والسرية. في الواقع، قيل إن هذا قد بدأ بالفعل من خلال إجبار هيئة تحرير الشام على تجاوز خط أحمر أيديولوجي جهادي في التعامل مع دولة “كافرة”، ومع مرور الوقت ستجبر “هيئة تحرير الشام على القبول بحل وسط”. وكانت هناك بعض المؤشرات على هذه العملية، بما في ذلك ظهور “تنظيم حراس الدين” في فبراير 2018، الذي يدل على انشقاق مُعلن بين الموالين المتشددين لتنظيم القاعدة بعيدًا عن هيئة تحرير الشام، التي كان أحد اعتراضاتها المعلنة هو تعامل هيئة تحرير الشام مع أنقرة. ومع ذلك، سرعان ما تحولت الأحداث في اتجاه مختلف إلى حد ما.

توقفت عمليات زعزعة الاستقرار ضد هيئة تحرير الشام وتمكّنت المجموعة من تشديد قبضتها على إدلبووسعت تركيا وجودها في إدلب، ومن الواضح أنه من دون اعتراض هيئة تحرير الشام. وباستخدام الوجود المستمر لهيئة تحرير الشام كذريعة، بدأ التحالف المؤيد للأسد هجومًا على إدلب في ديسمبر 2019، وقدمت تركيا الدعم للمقاومة التي تقودها هيئة تحرير الشام لصد التوغل. بعد غارة جوية في 27 فبراير 2020- من شبه المؤكد أنها روسية- قتلت ثلاثة وثلاثين جنديًا تركيا في منطقة بليون، هاجمت تركيا مباشرة نظام الأسد/إيران في حرب جوية ومدفعية مدمرة استمرت أسبوعًا، بشكل رئيس باستخدام طائرات بيرقدار بدون طيار من طراز TB2 التي أثبتت فعاليتها بالفعل في ليبيا، وستحسم الحرب بين أرمينيا وأذربيجان بعد أشهر، وأصبحت الآن مشهورة جدًا في مساعدة أوكرانيا ضد روسيا.

شعرت الحكومة التركية أنها أوضحت وجهة نظرها السياسية في إدلب بحلول وقت وقف إطلاق النار في 5 مارس 2020، على الأقل للشعب التركي الذي طالب بالانتقام، لكن التسوية كانت أقل حسمًا بكثير من ذلك. وكان هجوم تحالف النظام على مدى الأشهر الثلاثة السابقة قد أدّى إلى الاستيلاء على أجزاء كبيرة من إدلب، بما في ذلك الطريق السريع الاستراتيجي المعروف باسم”M5″ والأراضي المحيطة بثمانية من مراكز المراقبة التركية الاثني عشر. وصدّقت تركيا على خط المواجهة الجديد. ومع ذلك، حدث تغيير كبير داخل ما تبقى من إدلب خارج سيطرة النظام: اعترفت هيئة تحرير الشام بأنها “مكسورة“، وخاضعة للأهواء التركية. ومع ذلك، لا تزال هيئة تحرير الشام موجود هناك، بعد مرور عامين ونصف.

عناصر من هيئة تحرير الشام- أرشيف

عدم وفاء تركيا بتعهدها للروس بالقضاء على هيئة تحرير الشام ليس مهمًا، فلقد كانت عملية أستانا نموذجًا لعدم الإخلاص من قبل الأطراف التي تتصرف بسوء نية متبادلة. كان هناك، يجب الاعتراف، عدالة في حجة أنقرة بأنه كان من حقها إعطاء الأولوية لأمنها القومي الضيق- بعد كل شيء، كل شخص آخر في سوريا- من خلال احتواء عدم الاستقرار على حدودها. لكن ما لا يمكن تجنبه هو أن هذه السياسة تنطوي ضمنًا على الحفاظ على هيئة تحرير الشام: ذلك أن حل هيئة تحرير الشام من شأنه أن يفتح إدلب أمام تحالف النظام والتداعيات التي تسعى تركيا إلى تجنبها، أي موجات أخرى من اللاجئين ورد فعل داخلي من هيئة تحرير الشام. وسواء كانت هيئة تحرير الشام ستتفكك من دون الدعم التركي بعد ربيع عام 2020 أم لا، فإن هذا أمر مشكوك فيه للغاية تجاه مجموعة مدرجة على قائمة الإرهاب التركية نفسها. ويزداد الأمر سوءًا.

وقد لخّص تقرير صادر عن “مجموعة الأزمات الدولية” جوهر هذه المسألة كما يلي:

وفقًا للمسؤولين الأتراك، تكمن المشكلة الحقيقية في إدلب في مجموعة فرعية أصغر من المتطرفين الأجانب في الغالب، مجموعة تشمل حراس الدين ولكن ليس بالضرورة هيئة تحرير الشام بأكملها. ويشيرون إلى الانقسام بين هيئة تحرير الشام وحراس الدين باعتباره ربما يكون مفيدًا، بقدر ما يسلّط الضوء على التمييز بين المقاتلين [السوريين] المستعدين للتعامل وأولئك [معظمهم من الأجانب] الذين لا يمكن التعامل معهم … ويُزعم أن هؤلاء السوريين يحرصون على نجاح مشروعهم للحكم ومن ثم استمراريتهم. وإذا ما أعطينا الوقت الكافي، فمن المحتمل أن يقتنعوا بسحق المتطرفين الخطرين دوليًا.

ما لا يمكن إغفاله هنا، مرة أخرى كما وثّقته مجموعة الأزمات، هو أن نظرية تركيا حول الوضع في سوريا تتأثر بالنظرة الأيديولوجية لنخبتها السياسية: “يشير المسؤولون الأتراك على وجه التحديد إلى المقاتلين الأردنيين والمصريين كمحرضين ومثيري شغب ويلمحون إلى أنهم قد يكونون عناصر استخباراتية أجنبية”. وتقول وسائل الإعلام والقيادة التركية بانتظام أشياء في العلن، تختلف اختلافًا حادًا، على أقل تقدير، عن الواقع المعروف، وغالبًا ما يتملصون منها باعتبارها قد صدرت “للاستهلاك المحلي”. والحقيقة هي أن نظريات المؤامرة تهيمن على الحزب الحاكم المستمد من الإسلامويين في تركيا، وقد عزّز أردوغان سلطاته الآن إلى درجة أنه لم يعد هناك مسؤولين كبار يستطيعون تحدي مفاهيمه المضطربة. ومن الأمثلة الكلاسيكية على ذلك فهم أردوغان للاقتصاد، الذي طالما استهجن باعتباره غريب الأطوار، ولكنه يُنفذ الآن، والآثار الكارثية التي ألقي باللوم فيها على القوى الخارجية بعبارات تشير بوضوح إلى اليهود، التي تؤكد معاداة السامية المتأصلة في نسخة الأيديولوجية الإسلاموية التي استقاها أردوغان من بين أمور أخرى من معلمه نجم الدين أربكان، والشاعر نجيب فاضل قيصاكورك.

نجم الدين أربكان

تِيهُ المرايا[1]: الطبعة الجهادية

إذا كانت النظرية التركية للقضية هي استخدام (جزء من) هيئة تحرير الشام لقمع تنظيم حراس الدين، فإنها تتطلب دراسة العلاقة بين هيئة تحرير الشام وحراس الدين، وبالتالي تنظيم القاعدة. ليس هناك شك في أن الادّعاء الأصلي بقطع العلاقات بين هيئة تحرير الشام وتنظيم القاعدة عندما غيّرت جبهة النصرة اسمها إلى جبهة فتح الشام في عام 2016 كان خدعة. وكان زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري قد أشار إلى دعمه لهذا المسار- الذي يرقى إلى “تخلي القاعدة عن الاسم من أجل الشيء (دولة أو إمارة إسلامية)”- وترك نائبه عبد الله رجب عبد الرحمن (أبو الخير المصري) في سوريا للإشراف على أحمد الشرع والتواصل معه. وتوضح الوثائق الداخلية التي تسربت في أواخر عام 2017، أن الشرع والظواهري بقيا على اتصال بعد تشكيل هيئة تحرير الشام، على الرغم من بعض السجالات الخطابية العامة ووفاة أبو الخير في فبراير 2017.

لم يكن هناك أي رفض علني من قبل أحمد الشرع لمبايعة الظواهري، ولم يطرد الظواهري- كما فعل مع داعش– هيئة تحرير الشام من تنظيم القاعدة. وكما أشار المحلل حسن حسن، فإن الحرب الكلامية “وصلت إلى نهاية مفاجئة في أوائل عام 2018” مع التوصل إلى اتفاق بين الجانبين، وفقًا لمصادر جهادية في سوريا، للتعايش معًا، ما تركهما في وضع “لا يزال من الممكن اعتبارهما جزءًا من مدرسة القاعدة أو فلكها”. وهذه ليست سابقة: فهذا يشبه العلاقة الغامضة التي كانت تربط تنظيم القاعدة بتنظيم داعش في الفترة من عام 2006 إلى عام 2013. وفيما يتعلق بما يمكن أن يعنيه هذا الوضع، في حين اشتكى أحد قادة القاعدة في عام 2011 من أن “علاقات” القاعدة مع داعش قد “انقطعت عمليًا لعدة سنوات”، كان لا يزال هناك ما يكفي من القدرة القيادية التي عندما أمرت القاعدة داعش بالتوقف والكف عن الهجمات على إيران، خطابيًا أو حركيًا، امتثل داعش للأمر. واعترف الناطق بلسان داعش في وقت لاحق بأن التنظيم استجاب لهذا “التوجيه” وذكر متهكمًا “دعوا التاريخ يسجل أن إيران تدين بفضل لا يقدر بثمن للقاعدة”.

عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين هيئة تحرير الشام وحراس الدين، فإن ما لم يحدث هو الأكثر بروزًا من الناحية الأيديولوجية: في حين أن تنظيم داعش قد كفّر حراس الدين علنًا، فإن هيئة تحرير الشام لم تفعل ذلك. من الناحية العملية، هناك غموض أقل: حراس الدين يعتمدون على هيئة تحرير الشام، سواء بشكل مباشر- هيئة تحرير الشام تزوّد حراس الدين بالأسلحة والمال والموارد الأخرى– أو بشكل غير مباشر، بمعنى أن هيئة تحرير الشام يمكن أن تقضي على حراس الدين إذا وصلت العداوة لدرجة مميتة. وكانت وقد اعتقلت هيئة تحرير الشام بعض أعضاء حراس الدين، على الرغم من أن هذه الاعتقالات المتقطعة لا تدوم طويلًا. ويعتقد تنظيم حراس الدين أن هيئة تحرير الشام تقف وراء ضربات الطائرات الأمريكية بدون طيار التي تستهدف قيادتها، والفكرة هي أن هيئة تحرير الشام تنقل المعلومات الاستخباراتية إلى تركيا، التي تسلمها بدورها إلى الأمريكيين، بل ووقعت بعض الاشتباكات المباشرة بين التنظيمين في يونيو 2020. لكن القول بأن هذا أدّى إلى “تدمير” حراس الدين يعد مبالغة: لكن بعد وضع حراس الدين في حجمها الصحيح، انتهت المناوشات بالتوصل إلى اتفاق. ويشير أحدث تقرير صادر عن “فريق الأمم المتحدة للدعم التحليلي ورصد العقوبات”، الذي نشر في وقت سابق من هذا الشهر، إلى أن عدد أفراد تنظيم حراس الدين “يُقدّر ببضعة آلاف من المقاتلين”.

اقرأ أيضًا: هيئة تحرير الشام: هل أردوغان جاد في القضاء على الجماعة الإرهابية السورية؟

وقد تناول تقرير الأمم المتحدة هذه الاشتباكات، وألمح إلى ما قد يحدث بالفعل هنا: “تواصل هيئة تحرير الشام السعي إلى تصوير نفسها على أنها تكافح الإرهاب الدولي”، و”تنفذ بانتظام عمليات عدائية” ضد حراس الدين في محاولة لدعم هذه الرواية. ومع ذلك، وكما يشير التقرير، “أفرجت هيئة تحرير الشام أيضًا عن عدد قليل من سجناء [حراس الدين]”. وتبرر هيئة تحرير الشام سياسة القبض والإفراج هذه بالقول إنها حصلت على وعود من عناصر حراس الدين المُحررين بأنهم لن ينفذوا عمليات إرهابية في الخارج. ويمكننا التساؤل عن مدى جديّة هذه الوعود، على افتراض أن هناك وعود بالأساس.

إحدى الطرق لقراءة هذا الوضع هي أنه يوضح “الاختلافات بين هيئة تحرير الشام وحركة طالبان. وهذه الأخيرة تتجاهل فعليًا قضية [القاعدة] في أفغانستان وتحاول خداع الجميع بشأن وجود [القاعدة] و/أو صلاتها بطالبان. في المقابل، لاحقت هيئة تحرير الشام [القاعدة] في سوريا”، حتى لو كان ذلك فقط لضمان احتكارها للسلطة في إدلب، ما يجعل هيئة تحرير الشام وطالبان “مختلفتين جدًا” في نهجهما تجاه تنظيم القاعدة.

لكن هناك طريقة ثانية للنظر إلى هذا الوضع. فمن شأن الإبقاء على وجود حراس الدين أن يجعل هيئة تحرير الشام تبدوا أنها أكثر “اعتدالًا”، كما أن انتقاد حراس الدين العلني أحيانًا لتعامل هيئة تحرير الشام مع تركيا والمناورات الدينية والسياسية والدبلوماسية الأخرى التابعة لهيئة تحرير الشام يعزز فكرة أن هيئة تحرير الشام تنحرف عن أصولها الجهادية-السلفية. وهذا يسمح لهيئة تحرير الشام بتقديم نفسها، للسوريين والعالم الخارجي، على أنها تركز على سوريا، وإلى هذا الحد، أقل تهديدًا، وبالتالي فإن إبادتها لا تصبح أولوية غربية. وعلى الجانب الآخر من هذه الاستراتيجية، يستوعب تنظيم حراس الدين أولئك الجهاديين الذين يكرهون نهج هيئة تحرير الشام، ما يمنعهم من القيام بعمليات مدمرة ضد هيئة تحرير الشام؛ ويبقيهم متاحين عندما تكون هناك حاجة إليهم في الجهود المشتركة، مثل محاولة هيئة تحرير الشام وحراس الدين كبح هجوم تحالف النظام على إدلب في أوائل عام 2020.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان- “AP”

إذا كان شيء من هذا القبيل صحيح فيما يتعلق بشكل العلاقة بين حراس الدين وهيئة تحرير الشام، فإنه يجعل المجموعتين متكاملتين بدلًا من أن تكونا متعارضتين. وهذا يعني، كما اقترح حسن حسن، أن حراس الدين بالنسبة لهيئة تحرير الشام يشبه ما كان عليه “أيلول الأسود” بالنسبة لمنظمة التحرير الفلسطينية: جبهة يمكن إنكارها تهدف إلى امتصاص الازدراء لقيامها بالأعمال القذرة للجماعة، في حين أن الجماعة نفسها تحقق تقدمًا في إضفاء الشرعية على نفسها في النظام الدولي.

الاحتمال الثالث، بطبيعة الحال، هو أن ما بدأ كسيناريو ثانٍ أصبح مع مرور الوقت هو الأول. فهناك مضاعفات محتملة أخرى مع وجود تنظيم حراس الدين. وقد زعم تقرير أعده أسعد المحمد لبرنامج التطرف بجامعة جورج واشنطن بعد أيام من مقتل البدري، معتمدًا بشكل كبير على “ثلاث شبكات من المخبرين” المزروعة في شمال سوريا، أنه يوثق جهدًا من قبل داعش للتسلل واستمالة العناصر الموالية للقاعدة في هيئة تحرير الشام، الذين كانوا غير راضين عن المسار الذي كان يتخذه أحمد الشرع، في العام السابق لإعلانهم رسميًا عن أنفسهم كحراس في فبراير 2018.

يشير المحمد إلى علي موسى الشواخ (أبو لقمان)، والي داعش في الرقة في عام 2017، باعتباره الرجل الأول “المكلف بإعادة هيكلة” داعش في الفترة الزمنية بين تحرير الموصل في يوليو 2017 وتحرير الرقة في أكتوبر 2017، عندما تخلى داعش عن الحفاظ على الخلافة وكان ينتقل مرة أخرى إلى كونه تمردًا. كان داعش يبحث عن معاقل بديلة في سوريا ورأى في إدلب، التي طرد منها بالكامل في مارس 2014، مرشحًا قابلًا للتطبيق. ويقول المحمد إن الشواخ الذي ربما يكون قد قتل في أبريل 2018، شرع في القيام بذلك من خلال حشد الموالين لتنظيم القاعدة الذين أصبحوا حراس الدين، وتزويدهم “بجهاز أمني ومكتب إعلامي قوي”، والقضاء على عناصر هيئة تحرير الشام الذين سيقفون في طريق داعش، فضلًا عن الانخراط في “تجنيد السكان المحليين من إدلب الكبرى” على نطاق أوسع. وعلى حد رواية المحمد، بعد اتفاق داعش مع حزب العمال الكردستاني بخصوص فلول الجهاديين لمغادرة الرقة، والترتيب ذاته في الباغوز بعد 18 شهرًا، ذهب العديد من عناصر داعش إلى إدلب بمساعدة من عملاء داعش في حراس الدين.

شاهد: فيديوغراف.. ما الذي يريده أردوغان من سوريا؟

وقد خلص المحمد إلى أنه “طوال فترة إنشاء وتشكيل [حراس الدين]، استخدم [داعش] وكلاءه وموارده لتشكيل الهيكل التنظيمي [لحراس الدين] بطريقة تسهّل دمج أصول المجموعتين ومواءمة أساليب عملهما. … ومن الصعب تحديد فعالية استمالة [داعش] [لحراس الدين] وما إذا كانت هذه العملية لا تزال نشطة أو وصلت إلى النتيجة المرجوة”.

هذا الأمر أصبح مهمًا كخلفية لأنه أفيد فيما بعد بأن المنزل الذي كان يختبئ فيه البدري في باريشا منذ يوليو2019 قد وافق عليه أبو محمد الحلبي أو أبو محمد السلامة، على ما يبدو اسمان للشخص نفسه، وهو قائد معروف في حراس الدين، كان مواليًا سرًا لداعش. وزعم تقرير لاحق أن الرجل الذي رتّب استضافة الخليفة في باريشا هو سلام حاج ديب، أحد عناصر داعش. ولم تناقش علاقة ديب بحراس الدين: هل كانت هناك علاقة؟ هل ديب هو الشخص نفسه الحلبي و/أو السلامة؟ نحن ببساطة لا نعرف. وبالمثل، فإن اكتشاف أن مجموعة من الوثائق التي قدمها بعض مخبري المحمد، التي تظهر أن داعش تدفع لحراس الدين لحماية الخليفة، كانت مزورة، لم تثبت الكثير بطريقة أو بأخرى. حتى أشد منتقدي المحمد، في حين استبعدوا إمكانية التنسيق المؤسسي مع حراس الدين، اعترفوا بأن هناك كل احتمال لاختراق داعش لتنظيم حراس الدين. من المنطقي أن داعش قد تسلل إلى حراس الدين وهيئة تحرير الشام خلال تقاربه معهما في إدلب في عام 2017: فقد استطاع داعش القيام بذلك في كل وسط متمرد آخر عمل فيه؛ الشيء غير العادي هو أن الأمر لم يكن كذلك. لكن أين يوجد هؤلاء العملاء الآن، وما هو حجم الحلول الوسط في الوقت الحاضر، كما قيل ذات مرة، هي مجهولات معلومة.

عناصر من تنظيم “حراس الدين”- أرشيف

التداعيات

كان الجدل التحليلي حول حراس الدين عندما قتل البدري في أكتوبر2019 قد تلاشى منذ فترة طويلة بحلول الوقت الذي قتل فيه خليفته أمير محمد المولى في فبراير 2022، لكن الأسئلة التي لم تجد إجابة، التي أثيرت في المرة الأولى، قد تكررت ثانية. لقد قتل المولى في إدلب، في أطمة، على بعد حوالي خمسة عشر ميلًا جنوب باريشا، في مُجمع كان يقيم فيه منذ مارس 2021.

إذا كانت الشكوك التي خيمت على هيئة تحرير الشام وتركيا مع البدري باهتة ومعقدة إلى حد ما- علاقة حراس مع هيئة تحرير الشام ومن خلال هيئة تحرير الشام بتركيا – فإن الأسئلة بخصوص المولى كانت أكثر حدة: لم يكن هناك شك هذه المرة في أن هيئة تحرير الشام قد أخضعت حراس الدين وحققت “سيطرة قوية” على ما تبقى من إدلب، ولم يكن هناك أي شك حول “تحالف تركيا غير المعلن مع هيئة تحرير الشام” الذي يمنحها، على الأقل، “النفوذ غير المباشر على إدلب“. قد يُعتقد أن المجمع الكبير الذي كان يقيم فيه المولى وتردد السُعاة عليه سيجذبان بعض الاهتمام من الشرطة السريّة الفعّالة إلى حد ما التابعة لهيئة تحرير الشام، خاصة بعد أن كسر المولى غطاء السرية هذا في يناير 2022 لترتيب عملية التهريب الهائلة من السجن في الحسكة، وأن بعض هذه المعلومات الاستخباراتية قد تجد طريقها إلى الاستخبارات التركية. ومع ذلك، فإن عدم الكفاءة ستظل أمرًا دائم الحدوث في مسائل التجسس، ويمكن القول إن إدلب منطقة فوضوية، لا تسيطر عليها تركيا ووكلاؤها بشكل مباشر، وتعج بالنازحين السوريين، حيث لم يعد من غير المعتاد أن يكون الناس محاطين بالغرباء.

غير أن القضية أكثر وضوحًا تمامًا فيما يتعلق بماهر العقال: الذي قتل في محافظة عفرين، التي تسيطر عليها تركيا، وفي منطقة من تلك المحافظة تقع بالقرب من الحدود، حيث تتمتع تركيا بوجود عسكري واستخباراتي أقوى.

اقرأ أيضاً: داعش- ولاية خراسان: قوة مؤثرة في الجهاد الأفغاني

تتعرض تركيا لانتقادات مستمرة بسبب سياستها تجاه داعش، سياسة يعتبرها بعض النشطاء والمحللين في أحسن الأحوال غض الطرف عما يجري بسبب تركيز أنقرة على حزب العمال الكردستاني، وفي أسوأ الأحوال شكل من أشكال التواطؤ. وعلى الرغم من أن البعض يعتبر عناصر من هذا غير عادلة، فإن الانتقادات- التي صدرت بالفعل بعد اكتشاف البدري والمولى- ستزداد صخبًا نظرًا للظروف التي اكتنفت مقتل العقال.

ويشير تقرير الأمم المتحدة الصادر هذا الشهر إلى أن إدلب “لا تزال تمثل موقع استراتيجي لداعش”، وهي منطقة مفيدة ذات عمق استراتيجي في ظل تصعيد داعش لحملة “كسر الجدران” لإطلاق سراح السجناء الجهاديين، من بين أمور أخرى، ويحدث هذا على الرغم من سيطرة هيئة تحرير الشام شبه الكاملة على إدلب. إن انخراط تركيا مع هيئة تحرير الشام، التي يُنظر إليها بعين الريبة العميقة في العديد من العواصم الغربية منذ البداية، قد أخذ أنقرة إلى منطقة خطرة. وعلى الرغم من أن الحكومة التركية لا تزال تدرج هيئة تحرير الشام على قائمتها الإرهابية، فإنها تعتبر أجزاءً على الأقل من هيئة تحرير الشام هي الحل “للعناصر التي ترفض التفاوض” التي يجب القضاء عليها، لكن هيئة تحرير الشام لا تظهر أي أَمَارَات على رغبتها في القضاء على حراس الدين، ما يمثل فشلًا لشروطها الخاصة في الأساس المنطقي للانخراط مع هيئة تحرير الشام. ويمكن القول إن البنية الأمنية التي أنشئت من قبل ما يعتبر “نظامًا اجتماعيًا واقتصاديًا مفردًا” في شمال سوريا لم تنجح: فقد تمكّن اثنان من خلفاء داعش من الاختباء في إدلب، وأحد كبار قادة داعش في مناطق الجيش الوطني السوري، باستخدام وثائق الجيش الوطني السوري. ووفقًا لروايتهم، لم يكن لدى هيئة تحرير الشام وتركيا أي فكرة عن وجودهم هناك. من الواضح أن الكثيرين سيكون لديهم قراءة أكثر قتامة لما يحدث هنا. لذا، فإن الحكومات الغربية بحاجة إلى طرح بعض الأسئلة الصعبة للغاية حول ما تفعله تركيا في شمال سوريا والبدء في صياغة سياسات للتخفيف من المخاطر الأمنية.

وختامًا، فيما يتعلق بموضوع الأسئلة التي ستوجّه إلى تركيا، ذكرت قناة إعلامية تركية- و”أكدها” كبار المسؤولين الحكوميين- في 26 مايو أن الزعيم الجديد لداعش، أبو الحسن الهاشمي القريشي، قد اعتقل في اسطنبول قبل أسبوع. وانتشرت صور على وسائل التواصل الاجتماعي ووعدت بتقديم تفاصيل حول الموضوع “في الأيام المقبلة“. وقد مرّ شهران، وما زلنا ننتظر. لقد دأبت الحكومة التركية الحالية على طرح شيء غريب والقول إنها “ستعلن قريبًا” عن الحقائق التي تدعمه، غير أن أنها لا تُعلن أبدًا. والآن يبدو مرجحًا أن “اعتقال” أبو الحسن هو من قبيل هذه الحالات. ومع ذلك، سيكون من المفيد انتزاع نوع من التفسير المسجل من الأتراك حول هذا الحادث المثير للدهشة.

♦محلل في شؤون الأمن القومي ومكافحة الإرهاب، يقيم في بريطانيا.

المصدر: عين أوروبية على التطرف

اتبعنا على تويتر من هنا

 

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة