الواجهة الرئيسيةشؤون خليجيةشؤون دوليةمقالات
تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة: كيف تحول مشروع بريطاني فاشل إلى قصة نجاح عربيـة

خاص- كيوبوست
د. دينيس ساموت♦

مقدمة
تحتفل دولة الإمارات العربية المتحدة بالذكرى التاسعة والأربعين لتأسيسها في الثاني من ديسمبر. وبينما تستعد للاحتفاء بيوبيلها الذهبي عام 2021 فإن قادتها وشعبها لديهم كل الحق بأن يشعروا بالرضا؛ فهي واحدة من أنجح دول العالم في العديد من النواحي. وفي السنوات الأخيرة ازدادت أهميتها كلاعب إقليمي بشكل كبير. ولكن ربما يكون السبب الأهم للابتهاج في هذا اليوم بالتحديد هو قوة ومرونة الاتحاد بحد ذاته. على خلاف العديد من اتحادات ما بعد الاستعمار التي قامت في لندن أو باريس في الخمسينيات والستينيات، حققت دولة الإمارات العربية المتحدة نجاحاً كبيراً. والسبب الرئيسي وراء هذا النجاح هو أن الإمارات، على عكس الاتحادات الأخرى التي كانت مجرد كيانات مصطنعة رُكِّبت في مراكز الإمبراطورية، نشأت من إرادة مكوناتها الخالصة. ويمكن القول إن ذلك كان مفاجئاً للحكومة البريطانية.
رجلان لعبا دوراً أساسياً في إنشاء دولة الإمارات العربية المتحدة في ديسمبر 1971: حاكم أبوظبي المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والدبلوماسي البريطاني السير ويليم لوس. وغالباً ما يُشار إلى الشيخ زايد على أنه “أبو الاتحاد”، وإلى السير ويليم على أنه القابلة التي ساعدت في الولادة. وقد لعبا دورَين مختلفَين، ولكنّ المؤرخين البريطانيين كانوا ميالين إلى التقليل من أهمية دور الشيخ زايد وتضخيم دور السير ويليم لوس. ومع توفر مواد أرشيفية جديدة أصبح من الواضح أن هذا الأمر كان تصوراً خاطئاً. فتأسيس الاتحاد كان مسعًى محلياً يقوده الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، بدعم من الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي، أكثر بكثير مما كان مسعًى بريطانياً. هذا هو السبب الرئيسي لنجاح هذا الاتحاد، بينما فشلت اتحادات أخرى مشابهة صنعها البريطانيون في ذلك الوقت، وكان فشل بعضها ذريعاً.
شاهد: سيرة حياة الشيخ زايد في دقيقة!

منطقة الخليج كانت مجموعة من المفارقات الإمبريالية
كانت الإمارات المتصالحة في الخليج تشكل إلى حد ما مفارقة تاريخية في الشبكة المعقدة والمتنوعة من الكيانات والترتيبات الدستورية مثل جميع مناطق السيطرة وشبه السيادة والمستعمرات والمحميات والتجمعات السكنية التي شكَّلت الإمبراطورية البريطانية. وكانت الإمارات في بداية الأمر مرتبطة بالراج البريطاني (الراج البريطاني مصطلح يشير إلى المرحلة التاريخية التي استعمرت فيها الإمبراطورية البريطانية مناطق الهند وباكستان وبنغلاديش وميانمار منذ بداية القرن الـ19 حتى منتصف القرن الـ20. وكلمة “راج” تعني في الهندية “الحكم”- المترجم) في الهند بسلسلة من المعاهدات التي جرى إبرامها طواعية أو تحت الضغط العسكري، والتي تمكَّن الحكام المحليون بموجبها من السيطرة على سياساتهم المحلية بشكل كامل؛ ولكنهم فوضوا البريطانيين بالشؤون الخارجية والدفاعية.
كان الخليج بحيرة بريطانية، وأرادت لندن إبقاءه كذلك. ولكن في عام 1947 نالت الهند استقلالها، وجرى حل الراج على وجه السرعة. وفي هذه المرحلة جرى اتخاذ قرار كبير كانت له تبعات بعيدة المدى. ففي جنوب شبه الجزيرة العربية (جنوب اليمن الآن) انضمت المحمية الشرقية والمحمية الغربية والدويلات الموجودة فيهما إلى عدن كأجزاء من المكتب الاستعماري، بينما وُضعت الكيانات الخليجية؛ بما فيها مسقط وعمان، تحت سيطرة وزارة الخارجية على اعتبار أنها لم تكن قط جزءاً من الإمبراطورية. وقد أثار هذا القرار جدلاً كبيراً في وايتهول (إشارة إلى الحكومة البريطانية- المترجم)؛ لأن البعض اعتقد أن “المكتب الاستعماري كان هو الأنسب لإدارة هذه الكيانات غير المتطورة”.

لم يتغير شيء يُذكر على الأرض؛ ولكن على المدى الأبعد فإن هذا القرار هو ما رسم مسار المنطقة حتى عام 1971. قال بيتر تريب، وهو مسؤول كبير في القسم العربي في وزارة الخارجية، في تقرير داخلي للوزارة مؤرخ في 15 ديسمبر 1966 وعنوانه “الدول العربية في الخليج منذ 1947”:
إن قرار إسناد المسؤولية إلى وزارة الخارجية حدَّد فعلياً وبشكل نهائي ومسبق نوع العلاقة التي ستنشأ بين حكومة صاحبة الجلالة ملكة بريطانيا ودول الخليج. وعلى الرغم من عدم الاعتراف بها في ذلك الوقت؛ فإن القرار وضع حدوداً واضحة للمدى الذي يمكن لبريطانيا أن توجه هذه الدول في تنميتها. وهذه الحدود نادراً ما كانت تعجب الإدارات البريطانية المتعاقبة، ولم يتم الاعتراف بها لا من قِبل حلفاء بريطانيا ولا من منتقديها في الأمم المتحدة أو في الداخل. وفي أحيان كثيرة لم تكن حيرة وزراء حكومة جلالة الملكة بأقل من حيرة ممثلي جلالتها في الخليج من فشلهم في التغلب على شيوخ المنطقة بالحوارات المنطقية؛ فهم قد بالغوا في تقدير الأهمية التي يعلقها الشيوخ على نصيحة حكومة صاحبة الجلالة، خصوصاً عندما تتناقض هذه النصيحة مع رغبات الشيوخ”.
اقرأ أيضاً: الإماراتيون يحتفون بعام زايد: كل ما تريد معرفته عن الشيخ المؤسس
استراتيجية خروج الإمبراطورية
لم يكن البريطانيون سعداء بتفكك إمبراطوريتهم؛ ولكن الواقع الذي خلقته الحرب العالمية الثانية جعل هذا التفكك أمراً لا مفر منه. فعلى الرغم من أن بريطانيا كانت في صف المنتصرين؛ فإنه قد تسببت هذه التجربة في إضعافها اقتصادياً، وأصيبت الهيبة البريطانية التي قامت عليها الإمبراطورية بهزائم مذلة؛ مثل سقوط سنغافورة بأيدي اليابانيين. وقد حاول تشرشل تأخير هذه العملية بقوله الشهير “أنا لم أصبح الوزير الأول للملك كي أتولى رئاسة عملية تصفية الإمبراطورية البريطانية”. وفي بداية الأمر كان يعارض استقلال الهند، إلا أن نائب الملك الأخير اللورد مونتباتن، أقنعه بحتمية الأمر.
السويس ونهاية الإجماع في السياسة البريطانية
على الرغم من منح الاستقلال للهند -جوهرة التاج البريطاني- عام 1947؛ فإن البريطانيين ظلوا يأملون في الحفاظ على حياة الإمبراطورية لعدة عقود قادمة، وتم إنشاء الكومنولث ليكون حلاً وسطاً. وكان هنالك أيضاً اعتراف بالحاجة إلى إعداد المناطق لإقامة دولة، والأهم من ذلك القبول بضرورة إنفاق الأموال في سبيل ذلك. ثم جاءت قضية قناة السويس عام 1956. ولم تكن مجرد كارثة عسكرية، وإذلال سياسي هائل، وتذكير فاضح بالوضع المالي المتردي لبريطانيا، بل كانت أيضاً علامة على انتهاء الإجماع داخل المؤسسة السياسية البريطانية حول الشؤون الخارجية والسياسات الاستعمارية، إجماع لم تتم إعادة بنائه قبل عام 1970.
اقرأ أيضاً: الإمارات العربية المتحدة.. أكثر الدول العربية ازدهاراً للعام الرابع عشر على التوالي
وقد أثرت أحداث السويس بشكل مباشر على الوضع في شبه الجزيرة العربية والخليج. وظهرت مجموعة متشددة من النواب المحافظين بقيادة جوليان آميري، وكانوا مصممين على استعادة قناة السويس وضرب عبدالناصر. وفجأة أصبحت شبه الجزيرة العربية خط مواجهة جديد للإمبراطورية البريطانية. ثم اصطبغت السياسة البريطانية في المنطقة بهذا النمط من التفكير؛ مما أدى بها إلى زلَّات عديدة، من بينها عدن واليمن الشمالي والساحل المتصالح.

في عام 1964 حل حزب العمال محل المحافظين في الحكومة التي ترأسها هارولد ويلسون. وحصل الكثير من سوء الفهم بخصوص نيَّات حزب العمال بشأن نهاية الإمبراطورية وبشأن منطقة الخليج على وجه الخصوص. وفي حين كان هنالك عناصر داخل حزب العمال يؤيدون الإنهاء السريع للاستعمار ونزع السلاح، فقد كان من الصعب وضع ويلسون، الذي قال مرة إن مصالح بريطانيا تمتد إلى سفوح جبال الهيمالايا، من بين هؤلاء. ولم يكن الدافع وراء سياسة حزب العمال هو الأيديولوجية الاشتراكية، بل مأزق الخزينة. كانت بريطانيا في وضع مالي متردٍّ. وفي نوفمبر 1967 تم تخفيض قيمة الجنيه الإسترليني في ما اعتبر في حينه ضربة كبيرة. كانت بريطانيا في هذه المرحلة متورطة في حرب خطيرة في جنوب شبه الجزيرة العربية ورثتها من الحكومة السابقة. وقد أجبرت الصعوبات المالية، وليس الأيديولوجية، حكومة حزب العمال على إعلان انسحابها من قناة السويس عام 1968. والدليل على ذلك أنه عندما عادت حكومة محافظة للسلطة في عام 1970 التزمت بقرار الانسحاب شرق السويس، على الرغم من أن العديد من النواب المحافظين كانوا يودون الرجوع عن هذا القرار. وفي هذه المرحلة أخذ الحكام المحليون زمام المبادرة.
في أواخر عام 1967 أرادت بريطانيا الحفاظ على موقع متميز في شبه الجزيرة العربية. وكانت لا تزال تأمل في الاحتفاظ بقاعدة عسكرية بشكل ما في عدن، وكانت حريصة على الاحتفاظ بالخليج بوصفه بحيرة عربية، على أن تكون لندن مصرفاً لعائدات النفط التي تدفقت مؤخراً. وكانت الاتحادات هي الحل.
الترياق الفيدرالي
في عام 1957 أمر رئيس الوزراء المحافظ هارولد ماكميلان، بعد توليه منصبه، بإجراء مسح لجميع أراضي الإمبراطورية “عمل يشبه حساب أرباح وخسائر لكل مستعمرة”، فقد أراد أن يعرف ما إذا كانت بريطانيا ستربح أم ستخسر بمغادرتها. كان ماكميلان مهووساً بمسألة تكاليف إنهاء الإمبراطورية. وكتب عبارته الشهيرة في مذكرته بتاريخ 12 يونيو 1962 “إن كلفة خسارة إمبراطورية مخيفة. الربح كان أرخص بكثير”.

في معظم فترة الخمسينيات وأوائل الستينيات كان الجدل الدائر في بريطانيا عن كيفية إدارة انسحاب منظم يضمن أن تحافظ بريطانيا، حيث أمكنها، على موقع متميز. في بعض المناطق كانت هنالك خصوصيات تتطلب تدخلاً بريطانياً أكثر دقة كالدفاع (كما في قبرص، ومالطا، وسنغافورة) والتجمعات الكبيرة للمستوطنين البيض (كما في جنوب روديسيا وكينيا) أو كما كانت الحال في الخليج الذي يتسم بوجود مصالح تجارية واحتمال إيداع أموال كبيرة في لندن.
وكان ينظر إلى الاتحادات على أنها إحدى الأدوات لتحقيق ذلك. وتم إنشاء العديد من الاتحادات التي كان مصير معظمها الفشل حتى قبل نيلها استقلالها؛ مثل اتحاد وسط إفريقيا، واتحاد شرق إفريقيا، واتحاد جزر الهند الغربية وماليزيا، وأخيراً والأكثر غرابة الاتحاد العربي الجنوبي.
الاتحادات في شبه الجزيرة العربية
اتحاد الجنوب العربي
على الرغم من أنه أصبح واضحاً بالفعل أن الاتحادات لم تكن ترياقاً سحرياً لإنهاء الإمبراطورية البريطانية، استمر البريطانيون في اتباع النموذج الفيدرالي في شبه الجزيرة العربية. وكان أولها في جنوب شبه الجزيرة، هذا الجزء من العالم الذي لم يكن يظهر بين أولويات لندن خلال معظم فترة حياة الإمبراطورية. ولكنه بدأ يحظى في عام 1959 بأهمية كبيرة في تفكير جزء من المؤسسة البريطانية على الأقل. وتم وضع خطة على عجل؛ بهدف إغراق مستعمرة عدن، التي شعر البريطانيون أنها أرض خصبة للفكر الناصري والقومية العربية، بينما اعتبروه محيطاً أكثر مرونة، حيث يفترض أن يمنح هذا الاتحاد الجديد البريطانيين الحق في إقامة قاعدة عسكرية كبيرة في عدن، القاعدة التي لم تكن موجودة قبل عام 1956، وظهرت فجأة لتصبح أكبر موقع للإمبراطورية في الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من أن لندت ضخَّت أموالاً طائلة وأعداداً كبيرة من الجنود؛ فإن الاتحاد المصطنع انهار بطريقة دراماتيكية فور مغادرة البريطانيين عام 1967. وحتى قبل ذلك كان الجيش الاتحادي، وهو الهيكل الاتحادي الوحيد الذي كان قائماً، قد تمرد؛ ما سبب صدمة لضباطه البريطانيين.
اقرأ أيضاً: الهندسة الاجتماعية: هكذا يعيد النظام التعليمي بناء الإنسان في الإمارات
ولا عجب في أن البريطانيين بعد ذلك حولوا انتباههم إلى مشروع اتحادهم الثاني في شبه الجزيرة، منطقة الخليج حيث قوبلت الفكرة بالكثير من السخرية.
الاتحاد التساعي
روج البريطانيون -عندما كان ذلك يناسبهم- للعلاقات الجيدة بين مختلف الإمارات الخليجية، واكتسبوا الكثير من شرعيتهم من خلال لعبهم دور المحكمين الصادقين كلما نشأ خلاف بين الشيوخ المحليين. وشجعوا على التعاون بين الدول المتصالحة. أدى إعلان المملكة المتحدة يناير 1968 عن انسحابها إلى شرق السويس، وكذلك الفوضى الدائرة في جنوب شبه الجزيرة، إلى التحول للتركيز على إطلاق عملية جمع قطر والبحرين وإمارات الساحل المتصالح السبع في اتحاد واحد. كانت العملية بطيئة للغاية وشابها الكثير من الارتباك.
كانت الإمارات التسع في مواقع مختلفة جداً من حيث التطور والثروات والاستعداد للحياة بعد مغادرة البريطانيين. فالبحرين تمتعت بعدد أكبر من السكان وبتعليم أفضل؛ ولكنها حملت معها أعباءها الخاصة، ومنها الادعاء الإيراني بملكية الجزيرة، الأمر الذي لم يكن قد جرَت تسويته بعد. وعلى الرغم من أن قطر لم تكن في وضع يختلف عن غيرها؛ فإنها كانت متقدمة بسنواتٍ قليلة في مجال استفادتها من عائدات الطاقة. وكان لحاكم قطر مستشار قانوني مصري لامع لعب دوراً رئيسياً في النقاش. بينما لم يكن لدى الآخرين أي شكل من أشكال الدعم الاحترافي المشابه. بعض الإمارات الأصغر كان من الصعب جداً أن تجد فيها مَن يستطيع القراءة والكتابة بشكلٍ صحيح، فما بالك بمَن يستطيع صياغة نص دستوري؟! لذا فقد تعثرت المفاوضات التي كانت تسير بشكل ودي وإيجابي بين القادة بمجرد الشروع في مناقشة التفاصيل بين المسؤولين.

وأصبح واضحاً عند البعض أن هذه النقاشات لن تؤدي إلى أية نتيجة. استمرت النقاشات حتى عام 1970 عندما أعلنت كل من البحرين وقطر أنهما ستسعيان لإعلان الاستقلال بشكل منفرد؛ ما جعل السبعة الأخرى تشعر بالحاجة إلى الدفاع عن أنفسها. وعلى مدى كل هذا كان الدور البريطاني مشوشاً ومربكاً. تصف فروكي هيرد-باي في كتابها “من الدول المتصالحة إلى الإمارات العربية المتحدة” كيف فشل الاجتماع السادس الحاسم للحكام التسعة في أكتوبر 1969 في الوصول إلى اتفاق بعد التدخل المفاجئ من المقيم البريطاني. وكان هنالك البعض خصوصاً في البحرين، ممن تم إيهامهم بأنه إذا حدث تغيير في حكومة لندن فإن السياسة البريطانية بالانسحاب سوف تتغير، ولذلك كانوا يماطلون. ولم يتم تأسيس الاتحاد التساعي بشكل رسمي، وببساطة تبخرت الفكرة وتجاوزتها الأحداث.
ولكن النقاشات والاجتماعات التي جرت ساعدت السبعة الباقين على فهم ما يجب عليهم فعله. وفي هذه المرحلة قرر حكام أبوظبي ودبي أنه قد حان الوقت لأخد المبادرة والعمل. وكانت معظم نقاشاتهم تجري دون تدخل البريطانيين، وكان هذا الإطار المحلي والتقليدي هو ما أنتج الصيغة التي سيتم حكم الإمارات العربية المتحدة من خلالها عند تأسيسها.
السير ويليم لوس المراوغ وإصلاحاته السريعة
كان السير ويليم لوس واحداً من الشخصيات الرئيسية في القصة، وهو الذي لا يزال بعض مؤرخي الإمبراطورية يرونه القابلة التي ساعدت في ولادة دول الخليج المعاصرة. لم تكن آراؤه في العديد من القضايا بعيدة عن تلك التي أدت إلى الكارثة في عدن وجنوب شبه الجزيرة؛ ولكن ميزته كانت في مرونته وبراغماتيته. في الواقع كان هو من اقترح رسمياً، بصفته حاكم عدن (1956- 1960) فكرة اتحاد الجنوب العربي على الحكومة البريطانية، على الرغم من أن الفكرة جاءت في الحقيقة من زميله كينيدي تريفاسكيس، الذي كان شديد الإصرار والعناد في التمسك بها، على العكس من ميزة لوس في مرونته وبراغماتيته.
بعد عدن، أصبح لوس المقيم البريطاني في الخليج، وهو اللقب الذي يطلق على أعلى مسؤول بريطاني في المنطقة، وبقي في منصبه من عام 1961 إلى عام 1966.

كان لوس يتمتع بجاذبية شديدة واحترام كبير، وكان لديه كثير من المعجبين في المؤسسة البريطانية وبين العرب على حد سواء. قال السير أنتوني بارسونز؛ السفير البريطاني السابق لدى إيران، إن لقب لوس يجب أن يكون “الحزم الملطف بالتعاطف والفكاهة”. ويضيف في مقدمة كتاب “نهاية إمبراطورية في الشرق الأوسط” لمؤلفه بلفور بول:
“التقيت عرباً لم يعرفوه مطلقاً ممن اعتبروه إمبريالياً قديم الطراز؛ فمظهره وخلفيته يمكن أن يعطيا هذا الانطباع السخيف الخاطئ. كانت لديه موهبة رائعة في إقناع الآخرين بتبني وجهة نظره دون أن يشعروا بأنهم تعرضوا إلى الإكراه أو الإذلال. لا أزال أذكر اجتماعات الموظفين في مقر الإقامة في البحرين التي كانت تضج بموجات الضحك؛ ولكني لا أتذكر الشعور بأن قراراته النهائية كانت خاطئة أو كانت تؤخذ دون مشاركة الجميع بوجهات نظرهم. أتذكر مرافقته لدعوة كبار الشخصيات العربية ممن كان يريد إقناعهم بتغيير المسار الذي كانوا يتبعونه أو بالشروع في مسار كانوا مترددين باتباعه، وغالباً ما كانت الاجتماعات تنتهي بروح الدعابة وبالاتفاق مع حججه. هذه القدرة على شق طريقه دون استفزاز أو شعور بالاستياء كانت دائماً حاضرة في المفاوضات التي انتهت في ديسمبر 1971.
كان يجب على لوس أن يتعامل مع حكومة بهلوي العبثية المتعجرفة في طهران، ومع السعوديين المرتابين وحكام الخليج القلقين، بالإضافة إلى رؤسائه السياسيين في لندن الذين كان بعضهم بعيداً عن قرار إنهاء الوجود البريطاني الحمائي في الخليج. وقد سحر الجميع، وأقنع الجميع، كان صبوراً وتمتع بحس الفكاهة والمهارة. كانت الظروف العامة مواتية، وانتهى الإجراء البريطاني الأخير بمشكلات أقل وحسن نية أكثر مما كانت عليه الحال في أي من فصول تقهقر الشرق الأوسط الأخرى”.
هذا المديح يماثل ما جاء على ألسنة زملاء آخرين له في وزارة الخارجية في وصف لوس. فقد كان الدبلوماسي البريطاني المثالي، ولكن مع ذلك لا يمكن لوم مَن يرون لوس من منظور مختلف تماماً. فقد أمسك لوس بيديه بالقرارات النهائية بشأن مَن يحكم ومَن لا يحكم في المنطقة التي تقع تحت حمايته. لم يكن عزل سلاطين لحج ويافع السفلى في جنوب شبه الجزيرة، وحكام الشارقة وأبوظبي وتفكيره في خلع حكام رأس الخيمة وعجمان مجرد انتهاك لمعتقداته، بل كان أيضاً عملاً يخالف القانون الدولي. ولم يكن تلاعبه في أي شيء يقف في طريقه أقل قسوة من نظيره في عدن كينيدي تريفاسكيس، حتى لو تم تنفيذ هذا التلاعب بشكل ألطف. ومع ذلك فقد غادر المنطقة عام 1966 بكامل مجده، ورافقته فرق كشافة عمان المتصالحة وهي تعزف لحن الصخور القاحلة في عدن على ساحة الاستعراض في الشارقة.
ولكن عمله لم ينتهِ بعد، ففي غضون أسابيع من تقاعده من وزارة الخارجية، كان ويليم لوس يقدم النصح للمحافظين في ما يخص السياسة البريطانية في الخليج. وتحدث في اجتماع مشترك للجنتي الخارجية والدفاع في حزب المحافظين عُقد في 24 يناير 1967 في مجلس العموم؛ حيث كانت اللجان تعد تقريراً عن الوضع في الخليج. كانت أفكار لوس متسقة مع تلك التي دافع عنها عندما كان في مهمة المقيم البريطاني، حيث قال: “كانت أهداف السياسة البريطانية في الخليج وشبه الجزيرة هي إبعاد الشيوعية للحفاظ على المصالح البريطانية، وبشكل خاص تدفق النفط وفق شروط معقولة، والحفاظ على شاه إيران موالياً للغرب، والمحافظة على الطريق الجوي نحو الشرق الأقصى”.
وجاء في محضر ذلك الاجتماع:
“قال السير ويليم إنه لا يمكن توقع بقاء بريطانيا في الخليج إلى ما لا نهاية. ولم يرَ أي أمل في بناء كيان قابل للحياة من دول الخليج نفسها. ولا يمكن لجامعة الدول العربية أن تقدم الحل. ويرى أنه من المهم أن يكون هنالك تفاهم ضمني بين الملك فيصل (ملك السعودية) وشاه إيران. وفضل منظومة (تضامن شبه الجزيرة العربية). وفي منظومة كهذه ستحافظ دول الخليج على استقلاليتها الداخلية، ولكنها ستحظى بحماية المملكة العربية السعودية وبقيادتها للشؤون الخارجية لهذه الدول. وعلى الحافة الخارجية لهذه المنظومة ستكون الكويت، التي ستحافظ على وضعها المستقل في العالم العربي، صديقة ومتعاونة مع جيرانها الخليجيين. فالعرب يفضلون ترتيبات غير رسمية من هذا القبيل على الاتحاد الرسمي وتوحيد السيادة”.
وقد ثبت لاحقاً أن لوس كان مخطئاً. فإسهامه الأكبر لم يكن في إنشاء دولة الإمارات العربية المتحدة؛ بل في إقناع إيران بقبول الأمر الواقع والاعتراف باستقلالها واستقلال قطر والبحرين مع أن ثمن هذا الأمر لا يزال غير واضح.
لماذا كانت شخصية زايد هي العامل الحاسم؟
من غير الممكن أن نناقش تأسيس واستمرارية نجاح دولة الإمارات العربية المتحدة دون أن نفهم وندرك الدور المحوري الذي لعبه الشيخ زايد. ويظهر تقييم مواد الأرشيف البريطاني خلال الثلاثين عاماً من الحكم البريطاني أن زايد كان يتصرف بحكمة حتى في الأوقات التي كان البريطانيون يندفعون فيها باتجاه مختلف. وعلى مدى عقود كان عليه أن يوازن بين ضغوط البريطانيين وضغوط داخلية أخرى.
ولكن بعد أن استلم زمام الحكم عام 1966 فإن الحكمة من وراء صبره الطويلة وحكمته أصبحت واضحة تمام الوضوح، وهذا أمر أصبح معروفاً على نطاق واسع.
شاهد: روح زايد.. روح الاتحاد
لقد أدرك الشيخ زايد أن العالم يتغير، وأن أبوظبي يجب أن تدخل إلى العالم المعاصر. وتمكن أيضاً من فهم تغيرات السياق العالمية التي تعني أنه في ظل الظروف الصعبة التي يمرون بها، لا يمكن الاعتماد على البريطانيين للعب نفس الدور الذي لعبوه طويلاً، كما فهم الشيخ زايد شعبه أيضاً وجيرانه القريبين. وهذا يعني أنه أدرك مبكراً أن اتحاداً من الإمارات السبع المتصالحة كان ممكناً بينما الاتحاد التساعي لم يكن كذلك.
وهكذا بالتوازي مع أية محادثات أو أعمال يقترحها البريطانيون قد تبدو لطيفة على الورق؛ ولكنها لا تناسب واقع المنطقة، شن زايد هجومه الساحر. وكان استعداده لتقديم التنازلات هو الذي أدى إلى إبرام الصفقة أخيراً. لم يكن البريطانيون قد دفعوه لذلك بل في الواقع كانوا قد تفاجؤوا بالمدى الذي يمكن لزايد أن يصل إليه لضمان الاتحاد الجديد. يوجد في الأرشيف البريطاني برقية شديدة الأهمية من المقيم البريطاني السير جيفري آرثر، يفيد فيها عن اجتماع قام به مع الشيخ زايد في 24 نوفمبر 1971. وكانت هذه لحظة تقرير المصير بالنسبة إلى الاتحاد؛ حيث صدم السير جيفري بمقدار التنازلات التي كان الشيخ زايد مستعداً لتقديمها. ولكن الحاكم الحكيم قال له إن “الصبر والكرم ليسا من الأمور التي يخجل منها المرء”.
والآن بإمكاننا القول إن الإمارات قد نجحت؛ لأن الديناميكية ضمن الاتحاد كانت إيجابية، مع أنها لم تخلُ من بعض المشكلات التي كانت سرعان ما تعالج. في السنوات المبكرة كان الفضل في ذلك يرجع إلى شخصية الشيخ زايد الذي لطالما اعتبر نفسه جامعاً للآخرين ضمن أبوظبي وعلى نطاق أوسع على مساحة الإمارات. ولحسن الحظ عاش الشيخ زايد طويلاً بما يكفي لأن تمتلك المؤسسات الإماراتية جذوراً عميقة وقوية.
اقرأ أيضًا: مبادرة إنسانية إماراتية على أعتاب نظام عالمي جديد
إن الاتحاد التساعي كان سينهار عاجلاً؛ فديناميكيات الدولتَين الأخريين، والواقع الديمغرافي للبحرين كان سيجعل منهما شريكَين محرجَين. وهذا ما فشل البريطانيون في رؤيته؛ فقد تسبب دفعهم باتجاه الاتحاد التساعي إلى تأخير العملية. وفي ذلك الوقت قال الشيخ زايد بواقعية كبيرة في مقابلة مع صحيفة “الاتحاد” التي صدرت في 1 ديسمبر 1971:
“سيظل إخواننا في البحرين وقطر أعزاء على قلوبنا، سواء أن انضموا إلى الاتحاد أم لم يفعلوا. فنحن مرتبطون بالدم.. وأنا أعتقد أن أقدارنا متشابكة مثل مصير شعوبنا… وطالما بقي إيماننا راسخاً وطالما ظلت أبوابنا مشرعة فأنا متأكد أننا جميعاً سنتفق على ما يرضي الله ويخدم مصالح شعوبنا وبلداننا”.
اقرأ أيضاً: البحرين والإمارات: علاقة أخوّة أزلية لجمت الأحقاد
هذه الكلمات لا تزال صالحة اليوم، بينما تقف منطقة الخليج على مفترق طرق مرة أخرى، عندما يواجه مجلس التعاون الخليجي تحديات كبيرة. ولكن الإمارات العربية المتحدة اليوم دولة قوية راسخة يمكنها الاستمرار بالدور المتبصر الذي رسمه الشيخ زايد.
أنا أهنئ كل أصدقائي الإماراتيين بمناسبة اليوم الوطني للإمارات العربية المتحدة
♦مدير LINKS Europe ومدير التحرير في الموقع التحليلي commonspace.eu.. منح درجة الدكتوراه من جامعة أوكسفورد عن أطروحته “نهاية الحقبة البريطانية في شبه الجزيرة العربية 1951- 1972”. وهو يكتب في قضايا الأمن الأوروبي والعالمي، والشؤون القوقازية والخليجية.
لقراءة الأصل الإنجليزي: UAE national day
اقرأ أيضًا:
1) استقرار الإمارات من منظور خارجي
2) اليوم الوطني 49.. رؤية الشيخ زايد لا تزال حية وفعالة
3) من معبد يهودي سري إلى البيت الأبيض اندفعت العلاقات الإسرائيلية- الإماراتية عام 2020
4) العلاقات الإماراتية- الأمريكية في ظل إدارة بايدن