الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات
تأثير الحضارمة في المملكة العربية السعودية

منير بن وبر
في السنة الثانية للهجرة، انطلق عبدالله بن جحش على رأس سريَّة عُرفت باسمه إلى منطقة نخلة، بين مكة والطائف؛ حيث التقى هو ورفاقه قافلة تحمل زبيباً وتجارة من تجارة قريش. وكان من نتائج تلك السريَّة مقتل أمير القافلة عمرو بن الحضرمي، وهو أحد التجار الحضارمة ورواد القوافل الذين سكنوا مكة. كما أُسر اثنان، وغُنِم العِيرُ بما عليها؛ فكانت تلك أول غنيمة في الإسلام، كما كان ابن الحضرمي أول قتيل في الإسلام.
كانت مكة إحدى أهم وجهات الحضارمة للهجرة والتجارة منذ ما قبل الإسلام، كما كانت للعرب أسواق موسمية عدة، كسوق عكاظ الشهيرة؛ منها سوق الشحر وسوق رابية في وادي العين بحضرموت. وتذكر كتب التاريخ أن تجار قريش كانوا ينتحلون لأنفسهم نسباً ينحدر أو ينتسب إلى الملك الحضرمي الكِندي الحارث بن عمرو، الشهير بآكل المِرار، وذلك عندما يأتون إلى بلاد بني كِندة للتجارة أو غيرها؛ علَّهم يحظون بمعاملة خاصة تليق بذوي القربى وأبناء الملوك. ومن أشهر أولئك المنتسبين كان العباس بن عبدالمطلب، عم النبي، صلى الله عليه وسلم.
اقرأ أيضاً: اليمن.. ستون عاماً من البحث عن الدولة
وقد كانت للسلع الحضرمية، كاللبان والعسل والمنسوجات، شُهرة واسعة في الجزيرة العربية؛ حتى إن ثوب النبي، صلى الله عليه وسلم، الذي كان يرتديه عند لقاء الوفود، كان رداءً حضرمياً. وهكذا، أسهمت الهجرة والتجارة في نمو وازدهار العلاقة بين الحضارمة وأهل الحجاز لقرونٍ مديدة، وخلال دول مختلفة تعاقبت على الحكم وصولاً إلى الدولة السعودية الحديثة اليوم.
ولعل مما أتاح للحضارمة الاندماج في مجتمعات المهجر هو قدرتهم على التعايش مع الغير وبناء العلاقات المتينة، وسخاء العطاء في كل الجوانب، وقد أدَّى ذلك، إضافة إلى عوامل أخرى، إلى جعلهم جزءاً أصيلاً من نسيج المجتمع، يُشارك في مختلف مجالات الحياة بلا استثناء تقريباً، كما تبوأ بعضهم المراتب العالية على مرّ التاريخ، فكان منهم القاضي والمفتي والمعلم وحتى الوزير؛ إذ تولَّى عبدالله بامصفر، مثلاً، منصب وزير المالية في عهد الولاية العثمانية للحجاز، وقد تقلَّد هذا المنصب عددٌ من الحضارمة خلال تلك الفترة، ولاحقاً خلال عهد مملكة الحجاز.
وفي عهد المملكة العربية السعودية، التي أُعلن عن قيامها في عام 1932م، استمر الحضارمة في التوافد بأعداد متزايدة؛ ففي منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، وفقاً لبعض التقديرات، فاق عدد الحضارمة في السعودية 10 آلاف شخص. وخلال الأربعينيات، أجبرتِ المجاعةُ وآثارُ الحرب العالمية الثانية العديدَ من الحضارمة على ترك حضرموت، والهجرة إلى مختلف دول الخليج العربي؛ وفي مقدمتها السعودية.

وقد استمر مع تلك الهجرات الدور المميز للأجيال الحضرمية القديمة، التي أصبحت سعودية، مُضافاً إليها أدوار متنوعة لمهاجرين جدد يحملون معهم العزيمة والأمل والطموح. فهذا عبدالله بن عمر بلخير، من مواليد دوعن بوادي حضرموت، يهاجر في سن مبكرة إلى المملكة، ويتدرَّج في التعليم والعمل حتى يصبح مُترجماً مقرباً للملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، يرافقه في مختلف رحلاته، والتي كان منها لقاؤه التاريخي مع الرئيس الأمريكي روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل، إبان الحرب العالمية الثانية. كما عمل بلخير كرئيس لديوان الملك سعود بن عبدالعزيز، وأسس في عهده المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر، وهو ما يمكن اعتباره نواة وزارة الإعلام السعودي.
اقرأ أيضاً: 90 عاماً.. السعودية ملحمة التأسيس ورؤية 2030 المستقبلية
ومن بين الشخصيات ذات الأصول الحضرمية التي أدَّت دوراً بارزاً في حكومة المملكة، عمر بن عباس السقاف، الذي كان أول وكيل دائم لوزارة الخارجية السعودية، وأول وزير دولة للشؤون الخارجية. اكتسب السقاف شهرة عالمية في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز، الذي تولَّى الحكم عام 1964م، بفضل ما شهدته تلك الفترة من أحداث وتقلبات محلية ودولية؛ منها إيقاف السعودية تصدير النفط إلى الولايات المتحدة على خلفية حرب أكتوبر. ويُذكر أن السقاف قد خاض حينها مفاوضات شاقة مع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر؛ لمعالجة هذه الأزمة.
منح اكتشاف وإنتاج النفط السعودية ثقلاً سياسياً واقتصادياً عالمياً، كما ووهبها فرصة استثنائية للازدهار والرخاء. وقد أسهم الحضارمة في بناء المملكة الحديثة بشكل لافت؛ سواء من خلال الشركات والمصانع العملاقة التي أسسها الحضارمة أو من خلال العمالة البسيطة المهاجرة التي لا تزال تتدفق إلى الآن. ففي عام 1988 –مثلاً- فازت شركة البناء التابعة للملياردير من أصول حضرمية، الشيخ محمد بن حسين العمودي، ببناء مجمع تخزين النفط تحت الأرض في المملكة العربية السعودية. كما قامت مجموعة “بن لادن”، التي وُلِد مؤسسها محمد عوض بن لادن في دوعن بحضرموت، بعدد كبير من مشروعات البنية التحتية العملاقة؛ منها مطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة، ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية، وبرج الفيصلية.. وغيرها من المشروعات.
اقرأ أيضاً: دراسة حديثة للبنك الدولي.. تحديات ومستقبل النفط والثروة في الخليج
أدَّت سنوات من العمل المتقن والنزيه الذي قام به الحضارمة في السعودية إلى اكتسابهم علاقات متينة مع الأسرة المالكة، ناهيك بشرف التفرُّد بتأسيس وبناء مشروعات تاريخية؛ فهذا سالم بن محفوظ، المولود في حضرموت، يتشارك في تأسيس أول بنك سعودي في عام 1953، وهو البنك الأهلي التجاري، أحد أعرق وأكبر البنوك في الشرق الأوسط. كما تفرَّدت مجموعة “بن لادن” بمشروعات توسِعة الحرمين الشريفين، المكي والنبوي، ومشروع مسجد قباء وجسر الجمرات.

أسهمت المشروعات والاستثمارات العملاقة التي نفذها وأسسها الحضارمة في توفير فرص العمل للآلاف من مختلف الجنسيات، سواء داخل السعودية أم خارجها. كما تمكَّنت تلك الإمبراطوريات التجارية من الفوز بسمعة دولية مكَّنتها من تطوير أنشطتها؛ حيث نفَّذت مجموعة “بن لادن” -مثلاً- مشروع مطار كوالالمبور بماليزيا، ومطار القاهرة. كما يمتلك الشيخ محمد بن حسين العمودي عدداً من الاستثمارات الخارجية؛ منها شركة “بريم” النفطية، والتي تعتبر أكبر شركة للوقود في السويد. كما تمتلك شركة “مينابيف”، التابعة لمجموعة “بقشان”، أكبر مصنع تعبئة لعبوات المشروبات الزجاجية لمنتجات شركة “بيبسيكو” في العالم.
ولا تقتصر التأثيرات الجليَّة للحضارمة في السعودية من خلال التجارة والاستثمار على تلك الأسماء فحسب؛ فهناك عائلات أكثر مما يمكن حصره ببساطة، منها: “بن زقر، باعشن، باناجا، بغلف، باخشب، باوزير، العطّاس، الجُفري”.. والقائمة تطول. كما لا يقتصر تأثيرهم على التجارة والمال، وإن عُرفوا به أكثر من غيره؛ بل امتد تأثيرهم إلى مختلف مجالات الحياة بلا حصر.

وربما يُعد الفنان السعودي الكبير أبو بكر سالم بلفقيه، المولود في تريم بحضرموت، أحد الأمثلة على التنوع الكبير لتأثير الحضارمة على مختلف المجالات؛ فهو سفير الفن والغناء الحضرمي في دول الخليج العربي، وأبو الأغنية الخليجية كما يُقال.
قضى أبو بكر بلفقيه أكثر من نصف عمره في المملكة، ويُنظر إليه كمؤسس للأغنية الخليجية، حتى أصبح مرجعاً ومُشجعاً لفنانين آخرين؛ كعبدالله الرويشد وعبدالمجيد عبدالله وراشد الماجد وطلال مدّاح، ولطالما رُدِّدت أغانيه من قِبَل أجيال من المطربين العرب؛ من الخليج إلى لبنان وسوريا، وحتى المغرب.
اقرأ أيضاً: أبو بكر سالم بلفقيه.. أبو الأغنية الخليجية
كانت مسيرة بلفقيه، إلى جانب عدد آخر من الحضارمة المهاجرين، مثالاً يُفتخر به لإصرار الحضارمة ونفعهم الذي لا ينضب في مجتمعات شتاتهم؛ حيث حفروا على صخور تلك البلدان أسماء وأمجاداً لا يمحوها غبارُ الزمن.
الحلقة الأولى: لماذا ترك الحضارمة وطنهم؟
الحلقة الثانية: كيف أثر الحضارمة في جنوب شرق آسيا؟
الحلقة الثالثة: المهاجرون الحضارمة في قارة إفريقيا
الحلقة الرابعة: تأثير الحضارمة في الحضارة الإنسانية