الواجهة الرئيسيةحواراتشؤون عربية

بنعضرا: الواقع كشف تناقضات “إخوان المغرب”

في حوار مع "كيوبوست" يشدد الباحث في تاريخ الإسلام السياسي على أن نتائج الانتخابات الأخيرة في المغرب لا تعكس حجم التغلغل الذي يضطلع به الخطاب الإسلامي

المغرب- حسن الأشرف

أكد عبدالواحد بنعضرا، الباحث في التاريخ والخبير في قضايا الإسلام السياسي، أن إسلاميي المغرب بمجرد خوضهم غمار الانتخابات تورطوا في تناقضات مع أدبياتهم الرافضة للعلمانية؛ من قبيل التخلي عن فكرة “الحاكمية لله” وأن “البشر لا يحق لهم التشريع”، فضلاً عن اصطدام الشعارات المجردة مع الواقع العنيد.

وانتقد بنعضرا، في حوار خصّ به “كيوبوست”، اختزال الإسلاميين بصفة عامة الأخلاق في الجنس؛ حيث يسعون إلى استهداف خصومهم السياسيين عبر اتهامهم بمعاداة الأخلاق، ونشر الفساد والفجور، والشذوذ الجنسي، والمساهمة في تفكيك الأسرة.

وذهب مؤلف كتاب “العقل المستقيل.. نقد الإسلام السياسي ومرجعيته”، إلى أن الإسلاميين يربطون بين اقتراف الذنوب وحدوث الكوارث الطبيعية والفقر، وبين الإقلاع عن الذنوب ورفع الغضب الإلهي؛ وذلك من أجل تكريس الحاجة إليهم وتبرير وجودهم.

وهذا نص الحوار مع عبدالواحد بنعضرا:

اقرأ أيضاً: الريسوني وبن كيران.. صراع “إخوان المغرب” يظهر للعلن

*ما قراءتك بشكل عام لواقع الإسلام السياسي في المغرب؟

-لا يمكن التنبؤ بتطور الإسلام السياسي؛ قد يبدو ظاهرياً أنه تراجع كثيراً من خلال نتائج الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2021، ولكن الحديث هنا يخص جزءاً من الإسلام السياسي المشارك في البرلمان والحكومة، وحتى هذا الجزء المشارك لا يمكن الجزم بكونه انهار تماماً؛ لأسباب عدة مرتبطة بطبيعة المجتمع المغربي نفسه.

لقد نبَّهت في محاضرة لي سابقة يوم 6 أكتوبر سنة 2019 على ضرورة تفادي الأحزاب حاملة القيم الإنسانية إقحام الزمن الثقافي في الزمن السياسي بالخوض في بعض القضايا التي يحتاج تقبُّلها إلى تغيير في العقليات؛ إذ هذا يُسهم في تقديم هدايا للإسلام السياسي وإعطائه الفرصة لكسب التعاطف من جديد.

إن نتائج الانتخابات نفسها لا يمكن أن تعكس وضعية الإسلام السياسي إلا نسبياً؛ ففي غياب دراسة معمَّقة عن السلوك الانتخابي للمواطن المغربي، وباستحضار طبيعة العملية الانتخابية في المغرب، يصعب علينا المطابقة التامة بين النتائج الانتخابية والحجم والوزن السياسيَّين لأي كيان سياسي على أرض الواقع.

إسلاميو المغرب اصطدموا مع الواقع العنيد

*برأيك، ما أسباب انتعاش أسهم “إسلاميي المغرب” ليُسهموا في تدبير الشأن العام لمدة عقد كامل، ثم انحسارهم بشكل صادم؟

-نعود إلى مسألة الهدايا؛ استطاع حزب العدالة والتنمية في المغرب استثمار هدية قدمت له على طبق من ذهب، ألا وهي “الخطة الوطنية لدمج المرأة في التنمية”، التي تقدم بها كاتب الدولة -سابقاً- المكلف بالرعاية الاجتماعية وحماية الأسرة، سعيد السعدي، سنة 1999؛ حيث سارع الحزب “الإسلامي” إلى خلق تقاطب كسب منه تعاطف جزء كبير من المغاربة حين قدَّم نفسه كمدافع عن الإسلام بمعارضته الخطة. لقد أسهم طرح “الخطة” من قِبل وزير منتمٍ إلى حزب يساري في حكومة الراحل عبدالرحمن اليوسفي، إلى جانب عوامل أخرى طبعاً، في صعود نجم الحزب الإسلامي؛ إذ ينبغي استحضار معطى مهم حينها، وهو حاجة مجموعة من الأطراف محلية وأجنبية إلى بروز الإسلام السياسي في المغرب في ظل رهانات معينة، وكذلك لا ينبغي أن نغض الطرف عن أن ذلك أيضاً كان حاجة مجتمعية؛ بمعنى أنه كان هناك طلب من قِبل شريحة لا بأس بها من المغاربة على مَن يمثل التوجه الديني في السياسة.

اقرأ أيضاً: إسلاميو المغرب وممارسة الحكم.. نقد ذاتي أم مناورة سياسية؟

أما ما وقع لاحقاً؛ فمن الطبيعي أن يتراجع تدريجياً إشعاع هذا الحزب، حيث تقلَّص بريق الأفكار المجردة التي تمنح قوة لأصحابها؛ إلى حين، طبعاً، اختبارها على أرض الواقع. حزب العدالة والتنمية بالمغرب، إذن، بمجرد خوضه الانتخابات دخل في تناقض مع أدبياته الرافضة للعلمانية؛ حيث أصبح ملزماً بالتخلي عن فكرة “الحاكمية لله وأن البشر لا يحق لهم التشريع”. أما التناقض الأكبر فيظهر مع اصطدام كلامهم المطلق المجرد بالواقع العنيد.

وإذا ما رجعنا إلى البرنامج الانتخابي لسنة 2002، مثلاً، نجد أنه نصَّ في الفقرة الخاصة بـ”تعزيز المرجعية الإسلامية” بخصوص الإجراءات الكفيلة بتحقيق ذلك، على الآتي: “العمل على إعادة الاعتبار للمرجعية الإسلامية في توجيه السياسة الاقتصادية ومراجعة القوانين والتشريعات الاقتصادية المخالفة للإسلام؛ مثل قانون السلفات الصغرى، وتطهير موارد الدولة من المحرمات كالخمور والقمار، ودعم نمط للسياحة يراعي قيم المجتمع المغربي وأخلاقه ومروءة شعبه”، وهو ما لم يظهر له كبير أثرٍ بعد وصولهم إلى رئاسة الحكومة.

وما زاد من تراجع التعاطف مع حزب العدالة والتنمية وتآكل رصيده الرمزي، الضغوطات التي مارسها الواقع المعيش من فقر وبطالة وضعف الخدمات الصحية وارتفاع المديونية.. والقرارات المتخذة من قِبل الحكومة التي يرأسها الحزب، والتي رأى فيها الكثيرون مساً بالقدرة الشرائية لهم وتراجعاً عن مكتسبات سابقة، ثم لدينا واقع الضغوطات الخارجية؛ بما في ذلك الالتزام بالاتفاقيات التي وقَّعها المغرب في عهدهم، ولربما كان أيضاً لبعض “الفضائح” التي تورط فيها بعض قياديي الحزب وحركة التوحيد والإصلاح سهمٌ في ما وقع.

إسلاميو المغرب انهزموا في انتخابات 2021

*سبق لك الحديث في كتبك وندواتك عن العلاقة بين الأخلاق والدين.. وقُلت إن الإسلاميين في العموم يحولون موضوع الأخلاق إلى وسيلة لضرب خصومهم السياسيين.. كيف ذلك؟

-إذا تأملت الخطاب الديني المعاصر، تجد لدى أصحابه هوساً بالمسألة الجنسية؛ فكثير من بلاغتهم وبياناتهم تدور حول المسألة. أحيلك مثلاً على بلاغ حركة التوحيد والإصلاح الموقع يوم السبت 31 مارس 2018؛ حيث جاء الحديث فيه عن انتقاد مبادرات قال عنها إنها سعت إلى تفكيك الأسرة و”شرعنة جريمة الإجهاض، وإباحة العلاقات الجنسية خارج الزواج، وتطبيع الشذوذ الجنسي”.

يتم إذن اختزال الأخلاق في الجنس، وبهذه الطريقة يتم ضرب خصومهم السياسيين؛ فالحديث عن حقوق المرأة من قِبل أي حزب يساري أو ليبرالي، أو أي حركة حاملة، عموماً، للقيم الإنسانية، كان يتم وصمه بكونه ممهداً للانحلال الخلقي ولتفكيك الأسرة، والحديث عن الحرية كان يتم اعتباره دعوة إلى الفجور وانتشار “الزنى” و”الشذوذ الجنسي”؛ ما يجعلهم يسجلون نقاطاً كثيرة على خصومهم وبأدنى جهد، في ظل الثقافة السائدة بين عموم الناس، وضعف الحس النقدي، وارتفاع نسبة الأمية والهدر المدرسي.

وهذا ما أطلقت عليه منذ 2004 “ممارسة السياسة في الجنس”؛ بمعنى أن الإسلاميين عوض الانكباب على تقديم برنامج سياسي واقعي مفصل لكيفية الإجابة عن المشكلات المطروحة بالنسبة للبطالة والفقر والأمية وضعف الخدمات على مستوى النقل والصحة ومشكلة الماء وقضايا البيئة والبحث العلمي.. إلخ، يكتفون بإقناع الناس بالتعاطف معهم أو التصويت عليهم بالحديث عن الجنس، وأن خصومهم السياسيين لديهم نية مبيَّتة لإشاعة الفاحشة بين الناس، ولعل ما وقع أثناء الحملة الانتخابية لسنة 2002 واستغلال حزب العدالة والتنمية موضوع الخطة الوطنية لدمج المرأة في التنمية مثال على ذلك؛ إذ صارت الخطة عنواناً على الإباحية.

عبدالإله بنكيران زعيم حزب العدالة والتنمية المغربي

*يربط الإسلاميون في كثير من الأحيان علاقة بين اقتراف الذنوب وحدوث الكوارث الطبيعية والفقر.. إلخ، ما قراءتك لمثل هذا الربط؟

-طبعاً من الأشياء التي تترتب على تحويل الأخلاق إلى موضوع جنسي، الربط بين “الذنوب” والكوارث الطبيعية والفقر.. ما يعني أن على الناس التوبة والعودة إلى الدين لرفع الغضب الإلهي؛ وهو ما يكرس الحاجة إلى الإسلاميين ويعطيهم المشروعية المرتبطة بقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الفساد، بمعنى آخر أن هذه الفكرة تخدم تبرير سبب وجود الإسلاميين والحركة الإسلامية. ومن السهل الاحتجاج على هذا الربط بهذا السؤال: هل كان طاعون عمواس وعام الرِمادة، وقد حدثا في عهد عمر بن الخطاب واغتيال الخلفاء عمر وعثمان وعلي، عقاباً وغضباً من عند الله؟

أسجل هنا أن الخطاب الديني المعاصر بقدر ما تخترقه تلك الفكرة، يخترقه أيضاً الحديث عن القوانين الثابتة والنواميس التي يسير عليها الكون؛ وبالمجمل تكشف هذه المسألة عن تمثل ملتبس لقضية الجبر، ومسألة العلاقات السببية، يعكس بدوره التناقض الداخلي للخطاب الديني المعاصر، ومحاولته التوفيق أو التلفيق بين مذاهب شتى.

وهنا لا بد طبعاً من التنبيه على أن من تداعيات فكرة الربط بين الذنوب والكوارث الطبيعية والفقر إنكار العلاقات السببية، وعدم الاقتران بين النتائج والمقدمات وبين الأسباب والمسببات؛ ما يعني في المحصلة أننا لا ينبغي أن نحاسب أي مسؤول، بل ولن نكترث لإيجاد حلول لمشكلاتنا، ولن نهتم بالتربية، ناهيك برفضنا أي بحث علمي، فما الفائدة من البحث عن حلول لمشكلاتنا أو محاسبة أي مسؤول بما أن ما يقع هو رهينٌ فقط بمشيئة الله، وليس تبعاً للقوانين الطبيعية ولا لإرادة الإنسان؟

قدمتُ هنا رداً متناسباً مع موضوعنا، وهو الإسلام السياسي؛ إذ هناك مستويات مختلفة للرد، فالأنثروبولوجي -مثلاً- يسهل عليه إظهار كون فكرة الربط بين الذنوب والكوارث من خصائص المجتمعات القديمة، كما أن المؤرخ من جهته يستطيع إبراز كيفية إعادة إنتاج هذه التمثلات في سياقات وأزمنة معينة وفي ظل رهانات سياسية أحياناً في إطار نقاشه تاريخ الذهنيات.

اقرأ أيضاً: لماذا عادت قيادات “العدالة والتنمية” إلى المواعظ الدينية؟

*هل يمكن أن تجمل لنا نقاط قوة هذا الخطاب الديني وأيضاً عيوبه الرئيسية؟

-إن كان لهذا الخطاب من قوة، فهي أولاً في المجال المتاح أمامه؛ بما في ذلك المناسبات التي تحظى باحترام وتقديس المسلمين، فلا ننسى أن هذا الخطاب يتم تصريفه في مختلف المناسبات وبطريقة شفهية: الحافلات، المواعظ في الجنائز، عند الدفن، المساجد، المدرسة.. وبالمناسبة فميثاق حركة التوحيد والإصلاح -الجناح الدعوي لحزب العدالة والتنمية- ينص في إحدى فقراته على ضرورة استغلال هذه المجالات كوسائل لنشر الدعوة.

وثانياً، قوة هذا الخطاب مرتبطة أيضاً بعدم مشاركة أصحابه في الحياة السياسية مباشرةً: فكأي خطاب مجرد، يكتسي مظاهر النقاء والطهرانية، ويبدو المنتقد له بمظهر المنتقد للدين؛ لأن عموم الناس ليست لديهم القدرة على التمييز بين الدين والخطاب المنتج حول الدين.

ولا أريد أن أتجنَّى على الإسلاميين؛ ولكن الحق يُقال إني لم أصادف لديهم خطاباً متماسكاً، على الأقل من خلال ما انكببتُ على دراسته لسنوات عديدة، بل رأيتُ خطاباً مهزوزاً متهافتاً مليئاً بالتناقضات؛ إذ يحاول هذا الخطاب أن يبدو مقنعاً من خلال المزاوجة بين الاستشهاد بالنصوص الدينية أحياناً، وبالمعارف الجديدة أحياناً أخرى؛ ولكنه لا يستطيع الذهاب لا بالنصوص الدينية ولا بالمعارف الحديثة إلى أقصى حد، فاستشهاده بالنصوص الدينية يحده الواقع الضاغط، واستشهاده بالمعارف الحديثة يدخله في تناقضات مع أدبياته ومع ما يروّج له؛ لذلك تغلب عليه الانتقائية وغياب الصرامة المنهجية.

سعد الدين العثماني إلى جانب بنكيران

*برأيك أستاذ عبدالواحد.. هل لا تزال هناك حاجة إلى وجود الإسلام السياسي؟

-نعم، باستحضار طبيعة مجتمعاتنا، وبأن هناك طلبا على من يمثل التوجه الديني في السياسة -يقوى أحيانا ويتوارى أحيانا- وسيكون الأمر مفيدا إذا دفعت الظروف الإسلامَ السياسي إلى أن يتأنْسَن. 

كذلك قد يسهم وجوده في تدبير الشأن العام في تمرير بعض القوانين التي لا يزال كثير من الناس رافضين لها، على الأقل سيكون هناك اجتهاد من الإسلاميين لتبريرها، إما بتأويلات جديدة، أو بالحديث عن مقاصد الإسلام.. إلخ مما يخفف من ردة الفعل.
 
أخيرا، ستكون فرصة للإسلام السياسي لمزيدٍ من اختبار خطابه على أرض الواقع، فإما أنه سيستطيع تحويل أفكاره النظرية إلى قوانين ومؤسسات “تنافسية” لديها القدرة على إقناع الناس بتبنيها والدفاع عنها، وإما العكس وحينها تقل مقاومة المتاح أمامه مما سبقه إليه غيره.
وأشدد على عبارة “تنافسية” في ظل غزو ثقافة السوق لمختلف المجالات السياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية، يحكمها منطق المنافسة والتنافسية والجودة والقيمة المضافة، فلا تنتظر أن يقبل الناس بأي قانون لمجرد دغدغة العواطف حتى لو قمتَ بتغليفه بنص ديني، ينبغي أن تقدم عرضا أفضل من الموجود.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

حسن الأشرف

صحفي مغربي

مقالات ذات صلة