الواجهة الرئيسيةشؤون دوليةشؤون عربية
بريطانيا وعلاقتها بجنوب الجزيرة العربية (1-3)
(الحلقة الأولى) الطريق إلى عدن

كيوبوست- منير بن وبر
تقع الجزيرة العربية عند التقاء قارة آسيا بإفريقيا؛ ويحيطها من جانبها الشمالي الشرقي الخليج العربي، وبحر العرب من الجنوب، ومن الغرب البحر الأحمر؛ وقد جعلتها هذه الصفات الجغرافية تؤدي دوراً مهماً في حركة المواصلات العالمية بين شرق العالم وغربه على مر العصور، وهو ما لا يعني أن تكون المنطقة محطة لتبادل نفائس الشرق كالتوابل والحرير فحسب؛ بل أيضاً مركزاً لتبادل العلاقات التجارية والثقافية والعلمية، ومكاناً تمتزج فيه الشعوب والأعراق مع بعضها بانسجام وتعايش، كما هي الحال عادة؛ خصوصاً في مدن الموانئ.
وكما يقول جون ب كيلي، في كتابه “بريطانيا والخليج”، فإنه ليس في وسع أية دولة أن تمارس نفوذاً على منطقة الخليج ما لم تكن تلك الدولة تمتلك السيطرة على البحار. ومنذ سقوط الدولة العباسية، لم تمارس أية دولة مثل هذه السيطرة سوى مملكة البرتغال في القرن السادس عشر، والإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر. وكانت السيطرة البرتغالية على الخليج تهدف للوصول إلى جزر الهند الشرقية من خلال الاستيلاء على المنافذ التقليدية المتمثلة في البحر الأحمر والخليج العربي.[1]
اقرأ أيضاً: عدن.. مدينة التسامح والتعايش والسلام
كان العرب يملكون زمام الأمور في منطقتهم الحيوية؛ بفضل موقعها المهم المؤدي إلى ثروات الشرق، وكذلك بفضل معرفتهم بموسم الرياح المؤثر على الحركة الملاحية. لكن، منذ مطلع العصور الحديثة، برزت رغبة القوى الأوروبية في انتزاع سيطرة العرب على طرق التجارة الدولية. وفي أحد فصول هذه التطورات، تمكن البريطانيون من السيطرة على الطريق التجارية في البحر الأحمر من خلال السيطرة على ميناء عدن، الذي يعد أحد أكبر الموانئ الطبيعية في العالم.
بعد سيطرتهم على عدن، توسع البريطانيون شمالاً وشرقاً وأسسوا ما عرف بـ”المحميات البريطانية” من العديد من الدويلات المحلية المنتشرة على السواحل الجنوبية للجزيرة العربية. كان الهدف من استراتيجية “المحميات” هو حماية المناطق النائية في عدن، وحماية مصالحهم في ميناء عدن من خصومهم اليمنيين ومن العثمانيين الذين يسيطرون على شمال اليمن. وطوال المراحل التي سبقت الاستيلاء على عدن، ثم الوجود البريطاني فيها، كانت العلاقات البريطانية بهذه المنطقة خصوصاً، والمنطقة العربية عموماً، جديرة بالاهتمام؛ لِمَا اتسمت به من دهاء وتفرد مقارنة بسياسات القوى الأخرى مثل الإمبراطورية العثمانية ومملكة البرتغال.

تعد المنطقة الممتدة من مسقط شرقاً، في سلطنة عمان، إلى زنجبار غرباً، في سواحل إفريقيا الشرقية، قاعدة هرم تتمثل قمته في برزخ السويس شمالاً. تمثل هذه المنطقة الشاسعة وحدة حضارية متكاملة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً بشكل عام، وتقع عدن في قلب هذه المنطقة، مسيطرةً على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.[2] لم يجعل الموقع الجغرافي لعدن ميناء مهماً على مدخل طريق المواصلات العالمية فحسب؛ بل جعل منها مدينة مهمة في بلاد اليمن التي يتسم تاريخها بالكثير من الاضطرابات، فكان للسيطرة على عدن دور مهم في السيطرة كذلك على الاضطرابات في هذا الركن من جزيرة العرب؛ مما يجعلها أول ما يرغب الفاتحون في السيطرة عليه وآخر ما يضطر المهزومون إلى التخلي عنه.[3]
وبناء على الأهمية الاستراتيجية لعدن؛ قرر البريطانيون إنشاء علاقات تجارية أو السيطرة عليها بطريقة أو بأخرى، وذلك بعد أن أنشأت بريطانيا العظمى شركة الهند الشرقية البريطانية في عام 1600م، وتمكن البريطانيون من كسر احتكار البرتغاليين والهولندين للتجارة الشرقية. أُنشأت شركة الهند البريطانية لاستغلال التجارة مع شرق وجنوب شرق آسيا والهند، وعملت كوكيل وحافز للطموحات البريطانية التوسعية.
اقرأ أيضاً: 120 عاماً من الصراع في اليمن (4-10).. دور الحدود والقبيلة في الاضطرابات الداخلية
كان أُولى بوادر العلاقات البريطانية بجنوب الجزيرة العربية في عام 1609م حينما أرسلت بريطانيا ضابطاً إلى عدن لإقامة علاقات تجارية تسهل تجارة بريطانيا في الشرق؛ لكن المحاولة فشلت بسبب تعامل العثمانيين العدواني مع الوفد، حيث كانت عدن آنذاك واقعة تحت النفوذ العثماني. وعلى الرغم من ذلك، أعاد البريطانيون المحاولة بضع مرات أخرى حتى حققوا بعض النجاح في عام 1618م. كان تفكير بريطانيا لتعزيز وجودها في السواحل الجنوبية للجزيرة العربية يزداد بمرور الزمن، وقد حاولوا لاحقاً السيطرة على جزيرة سقطرى، كما أقاموا مخزناً للفحم في ميناء المكلا،[4] في حضرموت، واستكشفوا ميناء بير علي في شبوة؛ لكن كل تلك المحاولات لم تكن متناسبة مع حجم المصالح البريطانية المتنامية.

ازدادت مصالح بريطانيا في الهند خلال السنوات اللاحقة، وتطورت معها وسائل المواصلات؛ مثل ظهور السفن البخارية، وتنامت مطامع دول أخرى للسيطرة على طرق التجارة البحرية مثل فرنسا وروسيا؛ الأمر الذي دفع بريطانيا إلى إيجاد موطئ قدم ثابت في مكان فريد واستراتيجي على السواحل الجنوبية، فكانت عدن خياراً مثالياً.
في 19 يناير 1839 تمكن البريطانيون من احتلال عدن. في ذلك العام، كتب حاكم بومباي، في الهند، رسالة إلى حكومته في لندن، قائلاً: “إن عدن بالنسبة إلينا لا تقدر بثمن؛ فهي تصلح كمخزن للفحم طوال فصول السنة، ويمكن أن تكون ملتقى عاماً للسفن المستخدمة في طريق البحر الأحمر، وقاعدة عسكرية قوية؛ بما يمكننا أن نحمي وأن نستفيد من تجارة الخليج العربي والبحر الأحمر والساحل المصري المحاذي الغني بمنتجاته”. [5]
كان قائد الحملة التي أدت إلى احتلال عدن هو ستافورد هينز، وهو بالتالي أول مَن حمل لقب الممثل السياسي البريطاني في عدن، ويُنسب إله الفضل كأول من وضع الأساس لنمو عدن وتحولها إلى مركز تجاري مزدهر وميناء وقاعدة عسكرية استراتيجية لبريطانيا. واجه الوجود البريطاني مقاومة من السكان المحليين؛ لكن موازين القوى -بطبيعة الحال- كانت في صالح البريطانيين. ومع ذلك، اتبع هينز أسلوب ترضية سياسية، وسعى لوضع أسس للاستقرار؛ من خلال الدخول في معاهدات مع زعماء القبائل في المناطق المتاخمة لعدن، وصرف الرواتب لهم، وتوفير الحماية السياسة المرتبطة بالحكومة البريطانية؛ سعياً منه لكسب ودهم ومنعهم من وضع العراقيل أمام مشروع بريطانيا في عدن.[6]
اقرأ أيضًا: إضاءة على عدن في ذكرى سقوطها (1994)
كان للوجود البريطاني في جنوب الجزيرة العربية تأثير كبير على مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبطبيعة الحال كان التأثير الكبير في عدن التي كانت مستعمرة بريطانية؛ حيث أُنشأت المشروعات الاقتصادية والمطابع والمكتبات ووسائل الإعلام والنقابات العمالية والمدارس، فكان لكل ذلك دور فعال وتأثير ليس في عدن فقط؛ بل في مختلف المناطق، بما في ذلك محاربة نظام الإمامة في اليمن الشمالي من خلال الصحافة الحرة التي مارسها اليمنيون الفارون من شمال اليمن إلى عدن. وقد كانت بريطانيا تدير علاقاتها بعدن وما حولها بأسلوب يجمع بين القوة الناعمة المتمثلة في عقود الصلح مع الزعماء والحكام المحليين، والدعم بالمال والتنمية والسلاح والتكريم، والقوة الصلبة المتمثلة في ضرب الخارجين عن القانون والمعتدين على حدودها والناكثين بالعهود.
المراجع:
[1] عدن التاريخ والحضارة، علي ناصر محمد. ص 32.
[2] أيامي في الجزيرة العربية (بتصرف)، دورين إنجرامز. ص 27.
[3] عدن والسياسة البريطانية في البحر الأحمر، د. فاروق عثمان أباظة. ص 17.
[4] عدن والسياسة البريطانية، مرجع سابق. ص 23.
[5] اليمن الجنوبي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، الدكتور محمد عمر الحبشي. ص 11.
[6] بريطانيا والخليج 1795-1870، الجزء الأول، جون ب كيلي. ص 7.