الواجهة الرئيسيةشؤون دوليةشؤون عربية
بريطانيا وعلاقتها بجنوب الجزيرة العربية (2-3)
(الحلقة الثانية) سياسة الحماية

كيوبوست- منير بن وبر
سعى البريطانيون منذ القرن السابع عشر إلى إيجاد روابط قوية تربطهم بسواحل الجزيرة العربية؛ وذلك لحماية مصالحهم التجارية التي تمر عبر هذه البحار قادمةً من الشرق، كالهند والصين، وكذلك للحصول على محطات تزود أساطيلهم بالوقود والمؤن؛ فكانت عدن من بين الخيارات المثالية لهذه المهمة.
تحقق هدف البريطانيين في السيطرة على عدن في عام 1839م، وكانت سياستهم تركز على حماية وإدارة منطقة الميناء أكثر من أية منطقة أخرى في الجوار الشاسع؛ ولتحقيق هذه الغاية بأقل قدر من التكاليف والموارد انتهجت بريطانيا سياسة عقد المعاهدات مع الحكام المحليين، وما أن حلّ القرن العشرون حتى تجاوز عدد الإمارات القبلية الداخلة في علاقات معاهدة مع البريطانيين، عشرين إمارة متفاوتة الحجم. وكان الأمراء يحصلون على الرواتب، وتطلق لتحيتهم سبع طلقات مدفعية أو أكثر تبعاً لأهمية مناطقهم. [1] من بين الاتفاقيات التي جرت خلال الأيام الأولى للاستعمار -مثلاً- كان عهد الصداقة والسلام مع قبيلة العزيبة العدنية، يناير 1839م، الذي يقضي بضرورة الالتزام بالسلم والصداقة من الطرفَين، وحماية التجارة وطرقها، ورعايا الجانبين.[2]
اقرأ أيضاً: بريطانيا وعلاقتها بجنوب الجزيرة العربية (1-3)
ولم تكن السياسة البريطانية ترمي إلى ضم المزيد من الأراضي في جنوب الجزيرة العربية بقدر ما ترمي إلى اتقاء إزعاج هذه المناطق التي يمكن أن تؤدي إلى عرقلة المشروع البريطاني في عدن؛ لأسباب منها اضطراب بعض تلك المناطق، والنزعة الطبيعية غير المرحبة بالأجانب في مناطق أخرى. كما أن الكثير من تلك المناطق أيضاً ليست بها فائدة اقتصادية، أو بشكل أدق لا تفي مواردها بالالتزامات المترتبة على إداراتها وحكمها؛ وهو ما لا يعني تحمل تكاليف إضافية فحسب، بل أيضاً التعرض إلى عدم الاستقرار لعدم كفاية الموارد. من جانب آخر، يمكن أن يؤدي عدم وجود علاقات تبادل منفعة مع هذه المناطق إلى تكوين علاقات مع دول معادية في وقت كانت المنافسة التوسعية فيه على أشدها.

قدمت سياسة المعاهدات واتفاقيات الصداقة والحماية والصلح نتائج إيجابية للبريطانيين؛ حيث تعهد الحكام المحليون بعدم الدخول في علاقات معاهدة مع أية دولة أجنبية، مقابل التزام بريطانيا بحمايتهم. كما اتُّفق على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للإمارات إلا إذا أدت النزاعات الداخلية إلى عرقلة النشاط التجاري في عدن؛ مثل قطع طرق القوافل المؤدية إلى عدن.
اقرأ أيضاً: 120 عاماً من الصراع في اليمن (1-10)
كما قدمت بريطانيا خدمة الاستشارة للحكام والسلاطين في ما يتعلق بالإدارة والعلاقات وغيرهما من الأمور؛ ما عدا الأمور الدينية، وفي حين أن هذه الفكرة لم تلقَ اهتماماً من معظم القبائل خوفاً من فقدان سيطرتهم؛ فإن الفكرة لاقت ترحيباً في حضرموت الواقعة إلى الشرق من عدن، والتي كانت تحكمها دولتان؛ الأولى السلطنة الكثيرية والثانية السلطنة القعيطية، ويعود هذا القبول -على الأقل في جزء كبير منه- إلى الأعداد الكبيرة من المهاجرين الحضارمة في جنوب وجنوب شرق آسيا، كالهند وسنغافورة وإندونيسيا، والذين كانوا يرغبون بشدة في رؤية بلادهم تنعم بالرخاء كما هي الحال في دول المهجر.
كانت إحدى أشهر نتائج العلاقات البريطانية في جنوب الجزيرة العربية، بالذات في ما يتعلق بالمحميات، هي صلح إنجرامز، والذي تم التوقيع عليه بين عامَي 1936- 1937م؛ وهو هدنة سلام لمدة ثلاثة أعوام بين الحكومة المركزية (الكثيري والقعيطي) و1400 قبيلة في حضرموت. حقق الصلح قدراً من الاستقرار الذي شجَّع على عقد هدنة أخرى لعشر سنوات؛ مما ضاعف إيرادات الدولة أضعافاً بسبب دوام التجارة. [3]
ولأن عقد الصلح وحده بين القبائل يمكن أن ينهار بسرعة دون وجود ضمانات والتزامات واضحة وصارمة، فقد سعى مهندس الصلح هارولد إنجرامز، إلى تكوين ما عُرف حينها بجيش البادية الحضرمي، كما تعاملت الحكومة البريطانية بحزم مع حركات التمرد والقبائل غير الملتزمة. وأخيراً، سعى إنجرامز إلى إنشاء وتثبيت دعائم الحكم الرشيد؛ إذ إن اتفاق السلام بين القبائل الحضرمية ما هو إلا الخطوة الأولى، ولا يمكن للأمن دون حكومةٍ رشيدة أن يؤدي إلى نجاح مشروعات التطوير بعيدة المدى. [4]

بالإضافة إلى الأمن وتحسين الإدارة، كانت الصحة والزراعية والتعليم مما سعى البريطانيون إلى المساهمة في تنميته؛ لكن -بالطبع- بقدر معقول بالنسبة إلى دافعي الضرائب البريطانيين الذين يرغبون في رؤية أموالهم تعود عليهم بمنافع مجزية. ويمكن ملاحظة إحدى صور هذا الاهتمام في كتاب الطبيبة الأوروبية، إيفا هوك، التي قدمت إلى حضرموت في منتصف القرن العشرين بطلب من الحكومة البريطانية لتقديم خدمات طبية، تتركز على النساء، في حضرموت، والتي كانت حينها في أشد الحاجة إليها.
اقرأ أيضاً: عبدالرزاق قرنح.. التنزاني الذي انتزع نوبل بروح “حضرموت”
وقد نقلت إيفا هوك إلينا -في كتابها- حوار أحد المسؤولين البريطانيين، الذين رتبوا هذه المهمة لها، قائلاً: “عندما قُمت بجولتي الأولى في حضرموت، أدركت أن أي تطوير للبلاد يجب أن يتركز على ثلاث نقاط متشابكة كل التشابك؛ وهي زيادة الإنتاج الزراعي، ورفع المستوى الصحي، وبناء المدارس الجديدة. وليس ثمة من شك في أن صحة أمة من الأمم تعتمد على نسائها وأطفالها، وفي بلاد إسلامية لا يمكن إلا لطبيبة مثلك أن تصل بسهولة إلى نساء تلك البلاد”.[5]
مما لا شك فيه أن البريطانيين لم يأتوا إلى جنوب الجزيرة العربية لتنميتها، بل لحماية وتعزيز مصالحهم؛ لكن ما ينبغي تأكيده هو أن السياسة البريطانية -ولتحقيق هذا الغرض- اعتمدت أسلوباً متبادلاً -إلى حد كبير- للمنافع، وذلك على عكس القوى الأخرى التي كانت لديها أهداف أيضاً في هذه المنطقة.
في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر -مثلاً- سعى البرتغاليون إلى الوصول إلى تجارة الشرق واحتكار طرق التجارة. وفي سبيل ذلك، تركَّز نشاطهم على تثبيت أقدامهم على شواطئ المحيط الهندي، ومهاجمة السفن والمراكز التجارية العربية والإسلامية في موانئ الخليج العربي والبحر الأحمر وبحر العرب بشكل عام.[6] وفي عام 1513م قام البرتغاليون بمهاجمة عدن بعشرين سفينة ومحاصرتها ثم قصفها بالمدافع؛ في محاولة فاشلة لاحتلالها.[7]
اقرأ أيضاً: دار المصطفى.. قصة منبر إسلامي معتدل من حضرموت
وبين عامَي 1522- 1523م، هاجم أسطول برتغالي من سبع سفن ميناء الشحر، في حضرموت، كان قبل ذلك قد تمكن من إحراق خمس سفن تجارية قُبالة مدينة الحامي المجاورة. هاجم البرتغاليون الشحر بنحو 400 رجل مسلحين بالبنادق النارية وحاملين معدات الحريق وكميات من الباروت،[8] وأضرموا النيران في مستودعات الأخشاب وأحواض بناء السفن، وأخذوا يطلقون النار على كل مَن يصادفونه من الأهالي الذين هبُّوا لمقاومتهم بالسيوف والرماح والأسلحة البسيطة.
وحتى عندما سَعَتِ الدولة العثمانية، في تلك الفترة، إلى مجابهة حملات البرتغاليين؛ فإنها قد استخدمت العنف أيضاً، حيث احتل العثمانيون عدن سنة 1538م أثناء قيادة حملتهم إلى الهند لمواجهة البرتغاليين. وفي معركة احتلال عدن، قام العثمانيون بسلب ونهب المدينة، وإعدام حاكم عدن، عامر بن داوود، ورفاقه، على ظهر إحدى السفن العثمانية؛ حيث ظلت جثثهم معلقة لأيام، كما تروي كتب التاريخ. وبالنظر إلى هذه السياسات المختلفة؛ يمكننا ملاحظة كيف أن العلاقات المبنية -على الأقل في جزء كبير منها- على التحالفات والمعاهدات يمكنها أن تخلق أوضاعاً أكثر استقراراً، كما يقول المؤلف الأمريكي، ستيفن كينزر، إن التحالفات والشراكات تنتج الاستقرار عندما تعكس الحقائق والمصالح.
المراجع:
[1] سنوات في اليمن وحضرموت، إيفا هوك.
[2] عدن والسياسة البريطانية في البحر الأحمر، د. فاروق عثمان أباظة. ص 37.
[3] عدن التاريخ والحضارة، علي ناصر محمد. ص 26.
[4] الشهداء السبعة، محمد بامطرف. ص 73.
[5] إحلال السلام في حضرموت، عبدالعزيز القعيطي. ص80.
[6] أيامي في الجزيرة العربية، مرجع سابق. ص 104.
[7] أيامي في الجزيرة العربية، دورين إنجرامز. ص 28.
[8] تجزئة اليمن: النزاع البريطاني العثماني في جنوب اليمن 1872 – 1873 م، الدكتور عبدالرحمن بن راشد الشملان. ص 38