الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون دولية
برويز مشرف… وحكايته الملحمية على خطوط النار
حياة الرئيس الباكستاني الأسبق المليئة بالمخاطر تمثل فصلاً مهماً من تاريخ باكستان والعالم مع الإرهاب

كيوبوست
تُوفي الرئيس الباكستاني السابق، الجنرال برويز مشرف، الأحد، بعد صراعٍ طويل مع المرض، في دولة الإمارات العربية المتحدة. لطالما اعتبر مشرّف نفسه محظوظاً عندما يتعلق الأمر بـ النجاة، والبقاء على قيد الحياة، في بيئة باكستان التي تلفها المخاطر، ربما أكثر من أي مكان آخر من العالم.
قصة ملاقاة الموت مع برويز مشرف سيطرت على جزء مهم من سيرته؛ وصفت مجلة “نيويورك تايمز” حكم باكستان ذات مرة بأنه “أخطر وظيفة في العالم”. كان برويز مشروف قد اختار “على خط النار” عنواناً لكتاب مذكراته؛ حيث نجا من الموت المحقق مرتين نتيجة موقفه من أحداث الحادي عشر من سبتمبر الذي أثار غضب طالبان وتنظيم القاعدة والخصوم، وحتى الجماهير.
اقرأ أيضاً: الاتفاق بين الولايات المتحدة وطالبان لا يضمن السلامَ في أفغانستان
منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، 2001، على الولايات المتحدة، تعرضت باكستان لضغوط مكثفة لبذل المزيد من الجهود لمكافحة الإرهاب داخل حدودها.
كان الرئيس الباكستاني آنذاك، برويز مشرف، حليفاً رئيسياً في الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على الإرهاب؛ حيث سمح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي الباكستانية لشن هجماتٍ على أهداف طالبان والقاعدة في أفغانستان.
ومع ذلك، فلم تكن سياسات مشرف تجاه مكافحة الإرهاب تحظى دائماً بشعبية في الداخل. في نهاية المطاف، استقال مشرف في عام 2008 لتفادي احتمالية عزله عن منصبه، ليعيش بعدها في منفى اختياري، ويواجه تهماً جنائية.
انعطافه خطيرة
هيمنت علاقة برويز مشرف بالولايات المتحدة على حوالي عقدٍ حاسم من حياته. كان شن هجمات الحادي عشر من سبتمبر المُدبّر من أفغانستان المجاورة لباكستان نقطة تحول مهمة في تاريخ البلاد، وحياة رئيسها حينها. وصف برويز مشرف الحادث في مذكراته بأنه غيّر مجرى حياته و”مسار باكستان”.
تلقى برويز مشرف خبر اصطدام الطائرات بأبراج التجارة العالمية، في نيويورك، بينما كان في زيارة ميدانية لمدينة كراتشي، المركز المالي والتجاري لباكستان. عندما تلقى مشرف الخبر لأول مرة، قال إنه لم يكن يتوقع أن يدفع الحادثُ بلاده إلى الخطوط الأمامية لحربٍ أخرى، حرب ضد “الظلال” حسب وصفه. لكنه، ما إن شاهد صور وفيديوهات الحادث، عرف على الفور أن الاصطدام لم يكن مجرد حادث، بل “عملٌ إرهابي متعمد ووقح”.

تابع مشرف مشاهد انهيار البرجين التوأم كما فعل كل سكان العالم في ذهولٍ تام، لكن موقف مشرف كان الأصعب والأكثر حرجاً؛ كان يعلم أن واشنطن سوف ترد بعنف فور التأكد من أن الجاني هو تنظيم القاعدة الذي يتخذ من أفغانستان المجاورة مقراً وملاذاً آمناً له. في ذلك الحين، كانت باكستان الدولة الوحيدة التي تقيم علاقات دبلوماسية مع طالبان وزعيمها الملا عمر. عرف مشرف حينها أن باكستان سوف تكون وجهة أمريكا الأولى في ردة فعلها.
معنا أو ضدنا
لم يكد يمضي بعض الوقت بعد الهجوم على برجي التجارة العالمي حتى تلقى برويز مشرف مكالمة هاتفية طارئة من وزير الخارجية الأمريكي حينها، الجنرال كولن باول. كانت المكالمة مختصرة وصريحة؛ حيث قال باول لمشرف: “إما أن تكون معنا أو ضدنا”.
كانت المكالمة إنذاراً صارخاً توقعه برويز مشرف؛ لذا لم يتردد في الرد بأن باكستان ستقف إلى جانب واشنطن ضد الإرهاب. كان خطاب كولن باول، بالرغم من صراحته ومباشرته المطلقة، لا يزال في حدود الدبلوماسية “الحازمة”، لكن نائبه لم يكن كذلك، حيث أخبر المدير العام للاستخبارات الباكستانية الداخلية أن عدم وقوف باكستان إلى جانب الولايات المتحدة سيجعلها عرضة لقصف أمريكي يعيدها إلى “العصر الحجري”، كما يروي برويز مشرف في مذكراته.
اقرأ أيضاً: “الحرب الأبدية” لباكستان التي دامت خمسين عامًا في أفغانستان والسياسة الأمريكية بعد 11 سبتمبر
قرر برويز مشرف الاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة لثلاثةِ اعتباراتٍ أساسية، ضعف باكستان عسكرياً مقارنة بالولايات المتحدة، والضعف الاقتصادي، وعدم التجانس الاجتماعي.
كان مشرف يدرك أن باكستان لا تملك القوة العسكرية الكافية لمواجهة واشنطن الغاضبة، ولن يكون اقتصاد بلاده كافياً لتحمل تبعات الهجوم، كما أنه يعجز عن حشد أمته للمواجهة في ظل عدم تجانسها.
إلى جانب كل ذلك، أخذ مشرف في الاعتبار أيضاً التنافس مع الهند، واحتمالية أن تتخذ واشنطن من أي موقف غير ملائم من إسلام آباد ذريعة لتدمير أسلحة باكستان النووية، والأهم من كل ذلك، هل تستحق طالبان كل تلك التضحيات؟

وقفت باكستان في يوم من الأيام إلى جانب طالبان بدافع الحماسة الدينية، من أجل تحقيق السلام في بلد مُدمّر، لكن طالبان، كما يقول مشرف، أطلقت العنان لـ “تعصب” ديني يتعارض “مع الروح الإسلامية المعتدلة والمتسامحة والتقدمية لغالبية الشعب الباكستاني”.
ومع ذلك، بالرغم من فتور العلاقة بعد وصول طالبان إلى السلطة، كانت باكستان تنظر إليهم من زاوية الأهمية الجغرافية الاستراتيجية فحسب؛ لذا، لم يتردد مشرف في الوقوف إلى جانب واشنطن عندما أصبح مستقبل بلاده على المحك.
الموت وتهم الخيانة يلاحقان مشرف
بعد الحادي عشر من سبتمبر أصبحت باكستان حليفاً رئيسياً في الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على الإرهاب. أثار ذلك التحالف غضب طالبان والقاعدة، وشرائح واسعة من الجمهور.
أدى تعاون مشرف مع واشنطن إلى زيادة نشاط طالبان والقاعدة في باكستان، فضلاً على زيادة الهجمات الإرهابية التي تستهدف المدنيين الباكستانيين، وقوات الأمن الباكستانية. كان من نتائج ذلك هجوم إرهابي كبير في عام 2007؛ إذ أسفرت سلسلة من التفجيرات في مدينة كراتشي عن مقتل أكثر من 150 شخصاً.
في المُجمل، تعرضت باكستان لأكثر من 400 هجوم أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 2366 شخصاً، بما في ذلك 245 مدنياً.
اقرأ أيضاً: لماذا تفشل استراتيجية باكستان في مكافحة الإرهاب؟
لم يسلم برويز مشرف من الاستهداف كذلك؛ حيث تعرض لعدة محاولات اغتيال. كانت الأولى في العام 2003 باستخدام مركبة مفخخة، لحقت تلك المحاولة الفاشلة محاولات أخرى، من بينها استهداف طائرته أثناء الاستعداد للإقلاع، وكمين محكم لموكبه.
ينسب مشرف نجاته دائماً إلى الحظ. في بلد مثل باكستان، تعد النجاة من محاولات الاغتيال، التي لا تيأس، أمراً ليس بالهين.
في العام 2007 بدأ مشرف معركة أخرى، هذه المرة مع القضاء الباكستاني؛ حيث أقال رئيس المحكمة العليا، وعلق الدستور، وأعلن حالة الطوارئ في البلاد. استقال مشرف من منصبه في العام 2008 مع ظهور احتمالات عزله، ولاحقاً، في 2009، قضت المحكمة العليا بأن قرار مشرف فرض حالة الطوارئ كان غير قانوني، ثم وُجهت إليه اتهامات بالخيانة العظمى في العام 2013 بناءً على ذلك.
تم تأجيل جلسات المحاكمة عدة مرات لسنوات. وفي العام 2016 سافر مشرف إلى دولة الإمارات، حيث بقي حتى وفاته على فراش المرض.

أثار الحكم بالإعدام على برويز مشرف، على خلفية الخيانة العظمى، حنق المؤسسة العسكرية الباكستانية؛ التي أكدت أن رجلاً قضى أربعين عاماً في خدمة بلاده، وخاض حروباً من أجلها، لا يمكن أن يكون خائناً. وصف الجيش المحاكمة التي تمت دون حضور مشرف بأنها خيانة لـ “الإنسانية، والدين، والثقافة، وأي قيم أخرى”.
حياة برويز مشرف المليئة بالمخاطر تمثل فصلاً مهماً من تاريخ باكستان والعالم مع الإرهاب، والحكم المدني والعسكري، واختباراً لا يُحسد عليه بين مصالح الوطن والعاطفة والدِين، وخيارات السياسة مع جيران غاضبين.
كتب مشرف ذات يوم “أصلّي فقط من أجل أن يكون لديّ أكثر من تسعة أرواح”، وها قد استنفد جميع خياراته، في المنفى، مُتهماً بالخيانة، رغم أنه جنب بلاده كوارث حسابات تنظيم القاعدة وطالبان الخاطئة.