الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة

«بدرو مونتابث».. مؤسس مدرسة الاستعراب المعاصر في إسبانيا

رحيل "بيدرو مونتابث".. مترجم روائع الأدب العربي المعاصر إلى الإسبانية من الجيل الذهبي عن 90 عاما

كيوبوست- إيهاب الملاح

  • 1 –

اعلن هذا الاسبوع في الدوائر العلمية والأكاديمية الإسبانية، عن رحيل آخر رواد الجيل الذهبي في حركة الاستعراب الإسباني في القرن العشرين؛ شيخ المستعربين الإسبان؛ البروفيسور بدرو مارتينيث مونتابث (1933-2023)؛ تلميذ المستشرق الإسباني الراحل إيمليو غرسيه غوميث، والحاصل على جائزة الشيخ زايد العالمية في دوراتها الأولى.

بدرو مارتينيث مونتابث، بإجماع دارسي الأدب الأندلسي والإسباني المعاصر في الجامعات العربية والعالمية، هو المرجع الأول بلا منازع أو منافس لنشاط حركة الاستعراب “المعاصر” بشبه الجزيرة الإيبيرية، وهو الذي قام منفردًا منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي بترجمة روائع الأدب العربي المعاصر؛ شعراً نثراً، إلى الإسبانية، وهو أول أستاذ في الجامعات الإسبانية والأوروبية الذي يتولى تدريس الأدب العربي المعاصر، في المقررات الدراسية الجامعية وفي الدراسات العليا أيضاً، ويكتب عن الأدب العربي العديد من الكتب والمؤلفات، هذا عدا الترجمات والمساهمات العلمية الوفيرة التي تجعله من بين الأبرز والأغزر في هذا المجال على مستوى العالم.

اقرأ أيضًا:  فيدريكو كورينتي.. في وداع شيخ المستعربين الإسبان

على المستوى الشخصي، سمعت باسمه وأنا طالب خلال السنوات التي درستُ فيها الأدب الأندلسي على يدي العلَّامة المرحوم الدكتور محمود علي مكي (1935-2013)، وقرأت له أعماله العلمية المهمة في هذه الدائرة، ومنها دراسته التأسيسية المبكرة عن “الاستشراق الإسباني المعاصر”،

كان دائما ما يردد ثلاثة أسماء في مجال الاستعراب الإسباني بامتنان وافر وتقدير حقيقي وعميق لما قدموه في هذا المجال؛ هؤلاء الثلاثة هم: غرسيه غوميث، وفيدريكو كورّينتي، وثالثهم بدرو مارتينيث مونتابث، وقد خصه الدكتور مكي بمقال كامل نشره في مجلة الهلال للتعريف بكتابه عن (الأدب العربي المعاصر) عام 1992.

غلاف كتاب “الأندلس : الدلالة والرمزية”

– 2 –

في تأصيله المبكر لحركة الاستشراق الإسباني المعاصر، كان الدكتور مكي يرى أن المستعرب الكبير إميليو غرسيه غوميث هو الذي يرجع له الفضل في الترجمات الرائعة التي قام بها للشعر الأندلسي في عصوره كافة، ولكتاب «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي، ولنماذج عديدة من الأدب العربي الحديث؛ منها كتاب «الأيام» لطه حسين، و«يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم.

وعلى غرسيه غوميث تخرج عشرات من التلاميذ الإسبان والعرب، وكان من بينهم من واصلوا عمله في الدراسات الأندلسية القديمة، ومنهم من تخصص في الأدب العربي الحديث، وعلى رأس هؤلاء بدرو مارتينيث مونتابث الذي تكونت حوله مدرسة كبيرة ورائدة تعمل على ترجمة الأدب العربي الحديث والمعاصر، شعراً ومسرحاً وفناً قصصياً.

شاهد: فيديوغراف..هل الفنون متعة خاضعة للأذواق أم قيمة خالدة؟

وقد اعتبر المرحوم مكي نشاط مونتابث نموذجاً لمرحلة مهمة اجتازها الاستشراق الإسباني، بل اعتبرها أخصب مراحل حياته، لاسيما بعد أن اعترفت الأوساط الإسبانية كلها بما للعرب من فضلٍ على إسبانيا، وبعد أن أصبحت الحقبة العربية الإسلامية تعد أكثر صفحات التاريخ الإسباني إشراقاً، وأكثرها منجزات في كل وجوه النشاط الحضاري.

أما الحيثيات التي قدمها المرحوم مكي على هذا الرأي، ووافقه فيها جل الباحثين والدارسين من بعده، فتعود إلى تتبع سيرة مونتابث، ونشاطه العلمي والأكاديمي منذ حط رحاله في القاهرة عام 1957، وتفتحت عيناه على العالم العربي المعاصر، بزخمه السياسي والثقافي في قاهرة عبد الناصر، حيث عمل مديراً للمركز الثقافي الإسباني في نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات.

ومع عودته إلى مدريد، وإنشاء جامعة مدريد أوتونوما شرع في تأسيس قسم الدراسات العربية في هذا الجامعة الفتية التي افتتحت عام 1970، وفي اتخاذ توجه جديد في هذا الحقل، ليدرس، لأول مرة، الأدب والفكر العربي المعاصرين واللهجات العربية في جامعات إسبانيا.

غلاف كتاب “أوروبا الإسلامية سحرُ حضارةٍ ألفيّة”

وفي هذا يقول الأكاديمي المصري المقيم بمدريد، الدكتور خالد سالم، في دراسةٍ له عن الاستعراب الإسباني المعاصر “ولنا أن ندرك أهمية هذا التوجه بعد أن ظلت الدراسات العربية طوال حوالي قرنين مقصورة على ما خلفه الأجداد من تراث عربي في الأندلس، وهو تراث تنظر إليه هذه المدرسة على أنه “إسباني” بقدر ما هو عربي، ويذهب البعض إلى التوكيد على أنه إسباني رغم أن هذا اللفظ لم يكن له وجود سياسي في خريطة أوروبا إلى بعد أن رحل العرب بسنوات طويلة…

يضاف إلى هذا أن حركة الاستعراب في إسبانيا ظلت أكثر حركات الاستعراب الغربية بعداً عن دوائر الاستعمار الغربية، من هنا يمكن الجزم بنزاهتها، وإن كانت أصابع الاتهام تشير إلى البعض بولوجهم هذا المجال، ولكن هذه تبقى في دائرة الاتهام”.

اقرأ أيضًا: “صلاح فضل” آخر نقاد الجيل الذهبي

– 3 –

من بين أهم المصادر السيرية عن المستعرب الراحل، ذلك الحوار المهم الذي أجراه معه في العام 2016 الروائي والمترجم والباحث في الأدب واللغة الإسبانية أحمد عبد اللطيف، والذي كشف فيه عن عميق صلاته وتعرفه على الأدب والثقافة العربية من خلال المعايشة الكاملة لواحدٍ من أهم وأعرق المراكز الثقافية العربية، خلال الفترة التي استقر فيها بالقاهرة من 1957 وحتى 1962، وأنجب خلالها ثلاثة من أولاده فيها.

وخلال تلك الفترة، وما تلاها، سيتصل مونتابث اتصالاً وثيقاً وجذرياً مع كل ألوان وفنون وأشكال الإنتاج الفكري والأدبي والثقافي العربي، بل سينخرط منذ ذلك التاريخ في قراءة ومتابعة الإنتاج الأدبي العربي من المحيط إلى الخليج، بشعره ونثره.

وحتى رحيله بالأمس عن 90 عاما، لم ينقطع بدرو مارتينيث مونتابث قط عن أخبار العالم العربي، ومتابعة أحداثه، والانغماس الكامل في نقل وترجمة إبداعات أهم وأبرز المبدعين العرب؛ مثل نجيب محفوظ، ومحمود درويش، وأدونيس، ونزار قباني، وصلاح عبد الصبور، بل إن ترجماته لبعض هؤلاء الكُتّاب، بحسب أحمد عبد اللطيف، كانت أول تقديم لهم في لغة أوروبية (قبل الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من اللغات الأخرى)، وسيدشن مونتابث بذلك النشاط ما سيعرف بـ “المدرسة الإسبانية المعاصرة” في درس الأدب العربي المعاصر، ويصبح مونتابث علما عليها ورائدا لها.

– 4 –

سيكون على رأس أولويات هذه المدرسة التي أسسها مونتابث أن تولي كل اهتمامها لدراسة العالم العربي المعاصر، أدبا وفكرا وثقافة وظواهر اجتماعية وثقافية، وهي المدرسة التي تطورت اليوم وصارت صاحبة الإسهام الأكبر في فهم الثقافة العربية ككل، ومدّ جسور التواصل مع الضفة الأخرى من البحر المتوسط، كما أنها ستكون المدرسة المهتمة بترجمة الأدب العربي للغة الإسبانية، وكذلك الدفاع الباسل عن القضية الفلسطينية، ومواجهة دعاوى الإسلاموفوبيا، والرد على اليمين المتطرف، بل وكما يؤكد كثير من الباحثين والدارسين أن مونتابث قد صار “المحامي الرئيسي” في الدفاع عن المهاجرين العرب في إسبانيا والدول الناطقة بالإسبانية في أمريكا اللاتينية.

وقد تخرج في هذه المدرسة العلمية والفكرية والثقافية الجامعة التي أسسها مونتابث مستعربون كبار ومعروفون من طراز لوث جوميث، وجونثالو بارييا، وفرنثيسكو رودريغيث سيّرا، ولويس كانيادا وباربارا أثاؤلا وميلغروس نوين وماريبيل لثارو، من بين أسماء أخرى كثيرة، تعمل على تقديم منجزات الثقافة العربية، سواء من طريق الترجمة، أو المشاركة في مؤتمرات لحوار الثقافات أو عبر تقديم دراسات وكتب أكاديمية يمكن من خلالها فهم تعقيدات التاريخ العربي المعاصر.

اقرأ أيضًا: من رفوف المكتبة… منطلقات تجديد الخطاب الديني في فكر نصر أبو زيد

ولبيان جانب واحد من جوانب إنجازات هذه المدرسة الأكاديمية الرائدة الإشارة إلى بعض ما أنجزه بمفرد بدرو مونتابث من ترجمات يصعب حصرها في هذا المقام؛ يمكن إجمالا الإشارة إلى أنها عشرات من الترجمات الأصيلة لأعظم ما أبدعته قريحة الأدباء والكتاب العرب في القرن العشرين، هذا بالإضافة إلى إنجازه العديد من الكتب التأسيسية التي صارت مرجعًا للباحثين في الثقافتين العربية والإسبانية على السواء، مثل «الشعر العربي المعاصر» (1958)، و«شعراء المقاومة الفلسطينية» (1974)، «صورة قادش الإسبانية العربية» (1974)، و«استكشافات في الأدب العربي الجديد» (1977)، و«مقالات هامشية عن الاستعراب» (1977)، «القصيدة فلسطين.. فلسطين في الشعر العربي الحالي» (1980)، و«مدخل إلى الأدب العربي الحديث» (1985)، و«الأدب العربي المعاصر اليوم» (1990).

غلاف كتاب “على حدود المُقدِّمات: رؤية ما هو عربيّ بعيونٍ أخرى”

– 5 –

وأخيرا يمكن القول؛ إنه بفضل الجهود العظيمة والهائلة التي بذلها مونتابث ورغم قصر عمر حركة الاستعراب الإسباني المعاصر مقارنة بمثيلاتها في محيطها الأوروبي، أصبحت هذه الحركة الاستعرابية من أنشط الحركات وأكثرها إنتاجاً وتأثيراً في الحياة الثقافية في هذا البلد “إسبانيا” بل تجاوزته إلى حضور الأدب العربي المعاصر في جامعات أمريكا اللاتينية أيضاً.

اقرأ أيضًا: سيد القمني.. مفكر المواجهات الصادمة

ويدلل الدكتور خالد سالم على ذلك بإلقاء نظرة عامة على ما تمخض عن هذه الحركة من “الكتب والبحوث التي يصدرها أساتذة الاستعراب في إسبانيا، والعدد الهائل من الطلاب الذين يلتحقون عاماً بعد عام بأقسام اللغة العربية التي تنتشر في معظم جامعات إسبانيا، خاصة جامعات شرق وجنوب إسبانيا”.

رحم الله المستعرب الإسباني الكبير الذي قدم للثقافة الإنسانية وللثقافتين الإسبانية والعربية عبر ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن ما لم تقدمه مؤسسات ضخمة بأكملها.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات