الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
بارونات بكين اللصوص.. هل ستنجو الصين من عصرها المطلي بالذهب؟

كيوبوست– ترجمات
يون يون آنغ♦
يبدو الأمر وكأنه إحدى قصص الفساد الصينية النموذجية. أغدق رجل الأعمال الرشاوى على كبار المسؤولين مقابل حصوله على قروض بفوائد متدنية؛ لدعم مشروعات الخطوط الحديدية التي تنفذها شركته. كان سخاؤه يستهدف أصدقاءه وشركاءه من المسؤولين عن البنية التحتية الحكومية والميزانيات. كان أقرباء وأفراد عائلات هؤلاء المسؤولين يديرون شركات تعمل في مجال الحديد والصلب، وتحقق مكاسب كبيرة من إنشاء خطوط حديدية جديدة. وبمرور الوقت، تطورت العلاقة بين المسؤولين ورجل الأعمال، وضاعف المسؤولون من دعمهم لمشروعاته، وغضوا النظر عن تكاليفه المتضخمة، وتجاهلوا مخاطر الخسائر. وبدأت الأزمة المالية تتشكل ببطء؛ ولكن بثبات.
تكثر مثل هذه القصص في الصين؛ حيث يتواطأ رجال الأعمال مع المسؤولين لاستغلال مشروعات التنمية لتحقيق المكاسب الشخصية، والكسب غير المشروع الذي انتشر في جميع المستويات الحكومية؛ حيث يشجع السياسيون أصحاب رؤوس الأموال على تحمل مخاطر كبيرة. ولا عجب أن بعض المراقبين يرون أن الاقتصاد الصيني سوف ينهار قريباً تحت وطأة تجاوزاته وسوف يسقط النظام معه؛ ولكن إليكم المفاجأة، فرجل الأعمال الذي نتحدث عنه ليس صينياً، بل أمريكي، والقصة لم تحدث في الصين، بل في الولايات المتحدة الأمريكية. إنها قصة شركة “ليلاند ستانفورد”، عملاق السكك الحديدية، التي تأسست في القرن التاسع عشر، والتي ساعدت في دفع عجلة التحديث في الولايات المتحدة، ولكن طريقها إلى الثروة الطائلة كان مفروشاً بالصفقات الفاسدة.
اقرأ أيضاً: كيسنجر يجيب عن أسئلة الغرب المُلحة.. عن الصعود الصيني ومسائل أخرى
كان العصر الذهبي الذي بدأ في سبعينيات القرن التاسع عشر، عصر رأسمالية المحسوبيات وعصر النمو والتحولات الاستثنائية. بعد الدمار الذي خلفته الحرب الأهلية دخلت الولايات المتحدة مرحلة إعادة الإعمار، وبدأ عصر الازدهار. تحول ملايين المزارعين من الحقول إلى المصانع، وفتحت البنى التحتية في قطاع النقل الطرق الطويلة أمام حركة التجارة، وأفرزت التكنولوجيات الحديثة صناعاتٍ جديدة، وتدفقت رؤوس الأموال غير المنظمة بحرية.
وفي غضون ذلك، تمكن رواد الأعمال الكبار الذين اغتنموا الفرصة المناسبة في الوقت المناسب -مثل ستانفورد، وجي بي مورغان، وجون روكفيلر- من تكديس ثروات هائلة، بينما كانت الطبقة العاملة الناشئة حديثاً لا تحصل إلا على رواتب زهيدة. تواطأ السياسيون مع رجال الأعمال، وتلاعب المضاربون بالأسواق؛ ولكن كل ذلك لم يؤدِّ إلى الانهيار، بل أدى فساد العصر الذهبي إلى موجة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وصولاً إلى ما عرف بالعصر التقدمي. كل ذلك إلى جانب عمليات الاستحواذ الإمبريالية مهَّد الطريق أمام الولايات المتحدة لتصبح القوة العظمى في القرن العشرين.

تقف الصين الآن في منتصف عصرها الذهبي؛ حيث تتراكم الثروات بشكلٍ مذهل في شركات القطاع الخاص؛ بفضل قدرتها على الوصول إلى الامتيازات الحكومية وإلى المسؤولين الحكوميين الذين يمنحون هذه الامتيازات. ولأن الرئيس الصيني شي جين بينغ، أدرك مخاطر رأسمالية المحسوبيات، بدأ العمل على استحضار عصر الصين التقدمي -عصر أقل فساداً وأكثر عدالة- من خلال القوة الغاشمة. ولكن المشكلة تكمن في أن هذه ليست هي الطريقة الصحيحة لضمان تحقيق الإصلاح الحقيقي. يقوم الرئيس شي بقمع الطاقة التصاعدية التي تحمل مفتاح حل مشكلات الصين الحالية، وبذلك ربما سينتهي به المطاف إلى جعل الأمور أسوأ مما هي عليه الآن.
تصنيف خاطئ
تشكِّل الصين لغزاً محيراً لدارسي الفساد؛ فالدول الفاسدة عادة ما تكون فقيرة وتبقى فقيرة. وقد أظهرت دراسات متلاحقة وجود علاقة قوية بين الفساد والفقر؛ ولكن الصين تمكنت من المحافظة على النمو الاقتصادي لمدة أربعة عقود على الرغم من مستويات الفساد التي وصفها حتى الرئيس شي، بأنها “خطيرة” و”مروعة”. فكيف تمكنت الصين من كسر هذه القاعدة؟
اقرأ أيضاً: روسيا والصين وإيران ليست منارة يهتدي بها العالم
يكمن الجواب في نوع الفساد الذي استشرى في الصين. المقاييس التقليدية تتجاهل الأشكال التي يأتي فيها الفساد، وأكثر مقاييس الفساد شيوعاً، مؤشر مدركات الفساد، الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية “ترانسبيرانسي إنترناشيونال” كل عام، يقيس الفساد كمشكلة أحادية البعد تتدرج على مقياس عالمي تتراوح درجاته بين الصفر والمئة. في عام 2020، حصلت الصين على 42 درجة؛ مما يضعها في درجة أكثر فساداً من كوبا وناميبيا وجنوب إفريقيا. بينما في المقابل، تُصنف الدول الديمقراطية ذات الدخل المرتفع على أنها من أنظف دول العالم، وهذا ما يعزز الاعتقاد بأن الفساد هو شر يقتصر على الدول الفقيرة.
وعلى الرغم من جاذبية بساطته، فإن هذا الفهم للفساد يبقى مضللاً؛ فالفساد في الواقع يأتي بنكهاتٍ مختلفة تسبب كل واحدة منها أضراراً اجتماعية واقتصادية مختلفة.
والناس بشكل عام يعرفون ثلاثة أوجه رئيسية للفساد؛ الأول هو السرقات الصغيرة، كرجال الشرطة الذين يبتزون الناس في الشارع، على سبيل المثال. والثاني هو السرقات الكبيرة؛ حيث تستنزف النخب المحلية مبالغ طائلة من الخزائن العامة إلى حساباتها الخاصة في الخارج. أما الوجه الثالث فهو فساد التسريع؛ حيث تدفع رشاوى صغيرة للموظفين الصغار، لتجاوز الروتين والتأخير المتعمد وتشحيم عجلات البيروقراطية. وكل هذه الأوجه الثلاثة مخالفة للقانون، ومدانة بشدة، ومتفشية في البلدان الفقيرة.

لكن الفساد يأتي بأشكالٍ أخرى خفية؛ منها ما يُعرف بتسمية “فساد الامتيازات”، حيث يقوم الرأسماليون بتقديم مكافآت للمسؤولين، ليس فقط في مقابل التسريع؛ بل للوصول إلى امتيازاتٍ حصرية مربحة، بما فيها القروض منخفضة الفوائد، والمنح العقارية، وحقوق الاحتكار، وعقود التوريدات، والإعفاءات الضريبية وغيرها. ويمكن أن يتجلى “فساد الامتيازات” بأشكالٍ غير قانونية كالرشاوى الطائلة والعمولات؛ ولكنها قد تأخذ أشكالاً قانونية تماماً. خُذ على سبيل المثال، مجموعات الضغط التي تعتبر شكلاً قانونياً مشروعاً للتمثيل السياسي في الولايات المتحدة، وغيرها من الدول الديمقراطية؛ حيث تقوم هذه المجموعات بتمويل الحملات الانتخابية والسياسية، وتعِد السياسيين بوظائف فخمة بعد تركهم مناصبهم، في مقابل التأثير على القوانين والسياسات.
الأنواع المختلفة من الفساد تلحق أشكالاً مختلفة من الضرر بالدول؛ فالسرقات الصغيرة والسرقات الكبيرة تشبه العقاقير السامة، فهي تضر بالاقتصاد بشكل مباشر وواضح من خلال استنزاف الأموال العامة والخاصة، من دون أن تقدم أي فوائد في المقابل. أما فساد التسريع فهو أشبه ما يكون بمسكنات الألم، التي ربما تريحك من ألم الرأس؛ ولكنها لا تجعل صحتك أفضل. أما فساد الامتيازات فهو بمثابة العقاقير المنشطة، التي تحفز نمو العضلات، وتعطي المرء أداءً خارقاً؛ ولكنها تترافق مع تأثيرات جانبية خطيرة، من بينها احتمال الانهيار الكامل.
وبمجرد تفنيد أشكال الفساد، تتوقف المفارقة الصينية عن كونها لغزاً. فعلى مدى العقود الأربعة الماضية، شهد الفساد في الصين تطوراً بنيوياً، وابتعد عن البلطجة والسرقة نحو فساد الامتيازات. ومن خلال مكافأة السياسيين الذين يخدمون مصالح رجال الأعمال، وإثراء رجال الأعمال الذين يدفعون بمقابل وصولهم إلى الامتيازات، أدى هذا النوع من الفساد إلى تحفيز نمو قطاعات التجارة والبناء والاستثمارات التي تسهم جميعها في نمو الناتج المحلي الإجمالي؛ لكن هذا الفساد أدى أيضاً إلى تفاقم عدم المساواة وخلق مخاطر منهجية أخرى.
اقرأ أيضاً: غياب المساواة سيقود الصين إلى خيار صارخ
فالقروض المصرفية، على سبيل المثال، تذهب بشكل غير متناسب إلى الشركات التي تتمتع بصلات سياسية قوية؛ ما يدفع بالشركات التي تعاني ضوائق مالية إلى الاقتراض من بنوك الظل بفوائد مرتفعة للغاية، وهذا يعطي الشركات ذات الصلات السياسية القوية، التي تتمتع بفائض ائتماني كبير، القدرةَ على الإنفاق غير المسؤول والمضاربة في أسواق العقارات. وعلاوة على ذلك، ولأن السياسيين يحققون منفعة شخصية من الاستثمارات التي يجتذبونها لمناطق صلاحياتهم، يشجعون المستثمرين على الاقتراض والبناء بشكل محموم بغض النظر عن استدامة مشروعاتهم. ولذلك، فإن الاقتصاد الصيني ليس فقط اقتصاداً عالي النمو؛ بل هو اقتصاد عالي المخاطر أيضاً وغير متوازن.
تطور الفساد
بدأ هذا التطور الدراماتيكي للفساد والرأسمالية في الصين مع دينغ شياو بينغ، الذي قاد الصين في اتجاه جديد بعد ثلاثة عقود كارثية من حكم ماو تسي تونغ. ودون الإعلان بشكل صريح، قدَّم دينغ عقيدة جديدة، البراغماتية؛ لقد أدرك أن التحرر السياسي والاقتصادي المتزامن سيكون له آثار مزعزعة في الصين. وقال في خطابٍ تاريخي له عام 1978: “في أمة هزتها الفوضى، فإن الاستقرار والوحدة يحظيان بالأهمية الكبرى”.
وهكذا اختار دينغ مسار التحرر الاقتصادي الجزئي، وبدلاً من القفز مباشرةً إلى الرأسمالية، أدخل إصلاحات السوق على هوامش الاقتصاد المخطط وفوَّض الحكومات المحلية بمزيدٍ من الصلاحيات. وبذلك وضع القواعد الأساسية لتقاسم الأرباح داخل المنظومة البيروقراطية نفسها؛ أي أن أعضاء الحزب الشيوعي- الصيني سيحققون منافع شخصية من الرأسمالية، ما داموا مخلصين للحزب. وهذا ما يفسر حماسة جميع المسؤولين من مختلف المستويات تجاه تبني إصلاحات السوق. ومع انطلاق الإصلاحات تحول عدد كبير من المسؤولين إلى رواد أعمال بدلاء يديرون شبكاتٍ اجتماعية، ويجندون المستثمرين من خلال شبكات علاقاتهم الشخصية، ويديرون أعمالهم التجارية على الهامش.

ازدهر الفساد مع انفتاح الأسواق في الثمانينيات، وظهرت له أنواع خاصة في الدولة المتخلفة ذات الاقتصاد المختلط والحكومة محدودة القدرة على مراقبة ملايين البيروقراطيين. فعلى سبيل المثال، احتفظتِ الحكومة المحلية بما يُسمى “الخزائن الصغيرة”، وهي أموال غير شرعية تأتي عائداتها من الرسوم غير المصرح بها، والغرامات والضرائب المفروضة على السكان ورجال الأعمال، فانتشر الاختلاس بسبب ضعف رقابة الهيئات المركزية على الميزانية المحلية، وكذلك انتشرت الرشوة الصغيرة التي وجدت طبقة رجال أعمال القطاع الخاص نفسها مضطرة لدفعها للموظفين لتتجاوز الروتين.
حتى الشركات العملاقة متعددة الجنسية؛ مثل “ماكدونالد” لم تُستثنَ، ففي وقتٍ من الأوقات فرضت الوكالات المحلية 31 رسماً، معظمها غير قانوني على مطاعم “ماكدونالد” في بكين. أما في الريف فقد ساد التذمر من الأعباء التي أثقلت كاهل المزارعين؛ ما أشعل شرارة الاحتجاجات التي عمَّت المناطق الريفية في الصين.
ثم جاءت حملة القمع في ميدان تيانانمن عام 1989، التي كانت الضربة القاضية لحركة الإصلاح. في ذلك الوقت كان من السهل على الصين العودة إلى أفكار الشيوعية الماوية، لكن دينغ أعاد إحياء الرأسمالية من خلال “جولته الجنوبية” المشهورة عام 1992 قبل أن يسلم زمام الأمور إلى خليفته جيانغ زيمين، الذي نقل إصلاحات دينغ الجزئية إلى السوق الاقتصادية في الثمانينيات إلى مستوى أعلى. قد يكون تعهد بكين بتأسيس “اقتصاد السوق الاشتراكي” أجوف بالنسبة إلى الغرب؛ ولكنه سرعان ما أطلق العنان لثورة مؤسساتية.
اقرأ أيضاً: المؤسسات الصينية الخاصة ولعبة الترهيب
يمكن تشبيه عصر ما بعد دينغ في بعض جوانبه بـ”العصر التقدمي” في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث فككت بكين العناصر الأساسية للتخطيط المركزي (كضبط الأسعار وحصص الإنتاج)، وقللت بشكل كبير حصة القطاع العام في الاقتصاد. في الفترة 1998- 2004، تم تسريح نحو 60% من موظفي القطاع العام، وأجرت حكومة بكين المركزية، في الوقت ذاته، إصلاحاتٍ جريئة في قطاع البنوك، والإدارة العامة، والتمويل العام والتشريع. أرست هذه الجهود الأساسَ لنمو متسارع؛ لكنه لم يكن مصحوباً بالتحرير السياسي الرسمي.
كان على رأس هذه الحملة الإصلاحية زهو رونغجي، رئيس مجلس الدولة الصيني في الفترة الممتدة بين 1998 و2003. اشتهر زهو بخطاباته النارية التي وبَّخ فيها الموظفين المحليين؛ لعدم كفاءتهم، وأطلق إصلاحاتٍ إدارية واسعة النطاق؛ حيث دمجت بكين حسابات البنوك الحكومية لتتمكن من القضاء على التمويلات غير الشرعية، ومراقبة العمليات المالية عن كثب، كما جردت الوكالات الحكومية من أعمالها الجانبية؛ للحد من قدرتها على إساءة استخدام سلطتها التنظيمية. بالإضافة إلى ذلك، استبدلت بكين بنظام الدفع النقدي للغرامات والمخالفات نظام الدفع الإلكتروني؛ لتمنع الموظفين من ابتزاز المواطنين وسرقة المال العام.

نجحت الإصلاحات؛ ففي بداية عام 2000 انخفض معدل قضايا الفساد المتعلق بالاختلاس وإساءة استخدام المال العام بشكل كبير، كما تراجع تناول وسائل الإعلام لقضايا “الرسوم التعسفية” و”الابتزاز البيروقراطي” التي كانت تشغل الرأي العام. فلا عجب أنه في عام 2011 عندما سألت منظمة الشفافية الدولية المشاركين الصينيين عما إذا كانوا قد دفعوا رشوة للدخول في ميدان الخدمات العامة في السنة الماضية، تبيَّن أن نسبة 9% فقط قد اضطروا إلى دفع الرشوة، بينما كانت نسبة الهنود الذين دفعوا هي 54%، والكمبوديين 84%. خلاصة القول، نجحت الصين، على الأقل في المناطق الساحلية الأكثر تطوراً، في السيطرة على الفساد الذي يعيق النمو الاقتصادي.
اقرأ أيضاً: رؤية الصين.. حملة عنيفة لخلق عالم من تصورها الخاص
ادفع لتصل إلى مبتغاك
تفشَّى فساد الامتيازات بشكل كبير، وبحلول عام 2000 ارتفع معدل قضايا تقاضي الرشوة بمبالغ أكبر من السابق، وكان المتورطون بها موظفين أعلى رتباً. وتصدرت قصص الفساد وفضائحه المليئة بتفاصيل صارخة عن الانحلال الأخلاقي والجشع الصفحات الأولى من الصحف. وُجِّهت تهم الفساد إلى وزير سابق للسكك الحديدية؛ حيث اتهم بتقاضي رشوة بمبلغ 140 مليون دولار، ناهيك باستلامه 350 شقة سكنية. كما يزعم أن رئيس إحدى الشركات المقرضة المملوكة من قِبل الحكومة امتلك حريماً يحتوي على أكثر من 100 عشيقة، وألقي القبض عليه مع ثلاثة أطنان من النقود المخبأة في منزله. كما قام رئيس شرطة “تشونكينغ” بسرقة مجموعة من الأعمال الفنية الثمينة، وبيوض ديناصورات متحجرة من مقتنيات متحف خاص.

لماذا انفجر فساد الامتيازات؟ لأن الإصلاحات التي قامت بها الصين لم تقلل من نفوذ الحكومة وسيطرتها على الاقتصاد بالقدر الذي يسمح بالتغيير؛ ففي الثمانينيات كان دور الموظفين الحكوميين لا يتعدى التخطيط وإعطاء التعليمات، بينما أصبح في حقبة الاقتصاد الرأسمالي العالمي في التسعينيات يشمل مهامَّ وأدواراً أخرى كجذب الاستثمارات الكبيرة عالية المخاطر، واقتراض وإقراض رؤوس الأموال، وتأجير الأراضي وعمليات البناء والهدم بوتيرة عالية، وقد أعطت هذه الصلاحيات والأدوار موظفي الحكومة سلطاتٍ جديدة، لم يكونوا ليحلموا بها في ظل النظام الاشتراكي.
يمكن إرجاع التغير الذي حصل إلى مشكلة تبدو غامضة بعض الشيء؛ وهي عدم التوازن المالي بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية. ففي عام 1994، قام كل من زهو وجيانغ، كجزء من حملة التحديث التي قاداها، بإعادة هيكلة العائدات الضريبية المركزية؛ ولكن أبقيا حصة الأسد لبكين، بينما خفَّضا بشكل كبير الحصة التي تحتفظ بها الحكومات المحلية؛ مما جرَّد هذه الحكومات من مصادر دخلها التي تمكنها من مواجهة الضغوط المستمرة لتعزيز النمو وتقديم الخدمات العامة. من هنا كان لا بد من إيجاد وسيلة جديدة للدخل؛ وهي تأجير حق استثمار الأراضي. جميع الأراضي في الصين مملوكة للدولة، ولا يجوز بيعها؛ لذلك سمحت حكومة بكين للحكومات المحلية بتأجير حقوق استثمار الأراضي للكيانات والشركات كوسيلة لزيادة دخلها.
اقرأ أيضاً: في مئوية الحزب الشيوعي الصيني
نتيجة لذلك، اتجه جيش المسؤولين المحليين في الصين نحو مشروعات البناء الحضرية، مبتعدين عن الصناعة، فبدلاً من الاعتماد على التصنيع كمحرك رئيسي لعجلة النمو، اتجهت الحكومات المحلية إلى تأجير الأراضي الزراعية لاستثمارها عقارياً والاستفادة منها سكنياً وتجارياً. وفي غضون عقديَن من الزمن؛ بدءاً من 1990، تضاعفت الإيرادات من عقود تأجير الأراضي لأكثر من عشرين ضعفاً. جنى المستثمرون العقاريون أرباحاً كبيرة من هذه التدابير، وجمعوا مبالغ طائلة من تأجير الأراضي الزراعية بأسعار منافسة لتحويلها إلى مشروعات عقارية رائدة؛ ففي أحد الأمثلة التي أخبرني بها أحد الموظفين تضاعفت قيمة إحدى قطع الأرض 35 ضعفاً، بعد تحويلها من الاستثمار الزراعي إلى الاستثمار العقاري.
استفاد الموظفون الحكوميون الذين يمتلكون حقوق تأجير الأراضي جيداً؛ حيث تلقوا عمولات ضخمة لمساعدة المقربين منهم في الحصول على الصفقات المربحة. كما ساعدوا المستثمرين العقاريين في التلاعب بالمزادات؛ ليحصلوا على الأراضي بأسعار زهيدة، واستغلوا سلطة الدولة التي يتمتعون بها؛ لتسريع عملية البناء الحضري بشكل مصطنع. كما قام المطورون العقاريون بحشر المزارعين في شقق سكنية لإخلاء الأراضي الزراعية، واستثمروا بشكل كبير في بناء البنية التحتية؛ كشبكات الكهرباء والمرافق العامة والحدائق ووسائط النقل العام، لزيادة قيمة المشروعات العقارية الجديدة.

لم يأتِ تمويل عمليات بناء البنى التحتية من عقود تأجير الأراضي فحسب، وإنما من القروض أيضاً. يحظر القانون على الحكومات المحلية أن يكون لديها عجز في ميزانياتها؛ لذلك تلاعب الموظفون الحكوميون على القانون بإنشاء شركات فرعية تُعرف بـ”أدوات التمويل الحكومية” التي اقترضت الأموال؛ ليستخدموها في ما بعد لتمويل البنى التحتية، ومشروعات البناء الخاصة بهم.
كان هذا المصدر المزدوج للائتمان -تأجير الأراضي والاقتراض- هو الذي موَّل طفرة البنية التحتية الهائلة في الصين. فبين عامَي 2007 و2017 زادت الصين طول طرقها السريعة من 34,000 ميل إلى 81,000 ميل؛ أي ما يكفي للالتفاف حول الكرة الأرضية أكثر من ثلاث مرات، كما تباهى موقع إلكتروني حكومي. ولم تكن الحماسة لبناء مترو الأنفاق أقل قدراً، فالصين اليوم تفتخر بامتلاكها ثمانية من أطول 12 شبكة مترو أنفاق في العالم.
اقرأ أيضاً: المراقبة الحكومية على الأفراد: أسلوب الدولة الصينية في ضبط المجتمع
أعطت طفرة البنية التحتية هذه دفعة هائلة لعملية التوسع الحضري في الصين، إلا أنها خلقت مخاطر كبيرة. فقد راكمت الحكومات المحلية وأداتها التمويلية، ديوناً طائلة، وحتى الجهات الناظمة المركزية لم تكن تعرف مدى فداحة هذه الديون حتى عام 2011 عندما قامت بإجراء عمليات التدقيق الأولى التي خلصت إلى أن الحكومات المحلية قد اقترضت نحو 1.7 تريليون دولار. وعلى الرغم من التعليمات المتكررة من بكين بوقف الاقتراض؛ فإن القروض المحلية استمرت في الازدياد حتى وصلت إلى 4 تريليونات دولار عام 2020، وهو ما يعادل تقريباً إجمالي الدخل الذي حققته الحكومات المحلية في نفس العام. وهذه هي الفقاعة التي يخشى كثيرون انفجارها.
لفهم العلاقة الوثيقة بين النمو والفساد، يمكن أن نأخذ حالة مسؤول حكومي يُدعى جي جيانيي. في عام 2004، استلم جي منصب أمين سر الحزب في يانغتشو؛ حيث أعاد تصنيف المدينة كوجهة سياحية تاريخية، وأطلق حملة هدم وبناء واسعة أكسبته لقت “جي البلدوزر”. وسرعات ما آتت هذه الجهود ثمارها، فأشادت وسائل الإعلام بجهود جي في إحياء المدينة، وكرَّمت الأمم المتحدة مدينته بجائزة، وازدهرت فيها السياحة، وارتفعت أسعار العقارات الفاخرة بشكل صاروخي. وفي عام 2010 تمت ترقية جي إلى منصب محافظ نانجينغ، عاصمة الإقليم.

ولكن كما اكتشف المحققون لاحقاً، كان جي شريكاً مباشراً في أرباح مشروعات التطوير الحضري الطموحة التي أطلقها. ومثل جميع المسؤولين الحكوميين الصينيين، كان راتبه الشهري الرسمي متدنياً، وكان دخله الحقيقي يأتي من تقدمات الشركات. في مدينة تخضع لعملية إعادة إعمار ضخمة، وجه جي جميع العقود الحكومية تقريباً إلى شركة بناء خاصة تدعى “غولد مانتيس”، يملكها مجموعة من أصدقائه القدامى الذين دفعوا له عمولات سخية. وتضاعفت أرباح الشركة خمس عشرة مرة خلال ست سنوات من فترة ولاية جي، وعندما طرحت الشركة لاحقاً للاكتتاب العام تلقى جي نسبة من أسهمها.
تصور القصص الشبيهة بقصة جي الدولة الصينية على أنها سلطة جشعة مفترسة لا تطول رأسمالية المحسوبيات؛ فقد ملأ جي جيوبه، ولكنه في الوقت نفسه نجح في تغيير معالم مدينته. ظهر العديد من المسؤولين المشابهين لجي في العقود الأخيرة، مجموعة من المسؤولين الفاسدين تمكنوا من تقديم خدمات لقطاعات التجارة والبنية التحتية والخدمات العامة. على عكس السياسيين في دول أخرى، الذين يسرقون الشعب ببساطة أو يضعون عقبات في طريق رواد الأعمال، يجمع هؤلاء المسؤولون الرشاوى من خلال تسهيل وليس عرقلة أعمال أصحاب رؤوس الأموال.
اقرأ أيضاً: نشأة الفساد الاستراتيجي
لا شيء مما سبق يعني أن فساد الامتيازات هو أمر جيد للاقتصاد؛ بل على العكس، فهو يشبه المنشطات، ويسبب نمواً مصطنعاً غير متوازن. وبالنظر إلى سلطة المسؤولين الصينيين على الأراضي؛ فقد أدى التواطؤ بين الدولة والشركات إلى توجيه الاستثمارات بشكل مفرط باتجاه قطاعٍ واحد، هو قطاع الاستثمارات العقارية الذي يوفر مكاسب هائلة لا مثيل لها لمن يمتلكون صلاتٍ سياسية جيدة.
نتيجة لذلك تعرض قطاع الأعمال في الصين إلى حوافز ضارة دفعته لتحويل تركيزه بعيداً عن النشاطات الإنتاجية؛ خصوصاً التصنيع، نحو الاستثمار في المضاربات العقارية، ووجدت بعض الشركات الحكومية العاملة في مجال السكك الحديدية والصناعات الدفاعية، على سبيل المثال، أن استثماراتها العقارية كانت تدرُّ عليها أرباحاً أكبر بكثير من تلك التي تأتي من أنشطتها الأساسية. أدركت بكين التهديد الذي يشكله هذا التحول، وفي عام 2017 أصدرت تحذيراً من “التخلي عن الأنشطة الإنتاجية لصالح المضاربات”.

ومن ناحيةٍ أخرى، يؤدي فساد الامتيازات إلى انعدام تكافؤ الفرص في عالم الأعمال؛ حيث يتمكن أصحاب رؤوس الأموال من ذوي الصلات السياسية القوية من الحصول على العقود الحكومية والقروض الميسرة والأراضي بقيم منخفضة، الأمر الذي يمنحهم امتيازات تنافسية كبيرة للغاية بالمقارنة مع منافسيهم. وفي المجتمع بشكل عام يتلقف الأثرياء الشقق الفاخرة كاستثمارات عقارية، بينما يبقى السكن الحضري أمراً بعيد المنال بالنسبة إلى الكثير من الصينيين العاديين؛ وهذا الأمر أدى إلى خلل كبير، حيث تمتلك أقلية من الأثرياء منازل غالباً لا يعيشون فيها، بينما تبقى الأغلبية غير قادرة على تحمل تكاليف المنزل الذي تحتاج إليه.
عهد شي
في عام 2012 تولَّى شي زمام السلطة في ظروفٍ سيئة للغاية، كان الحزب الشيوعي الصيني يواجه أكبر فضائحه السياسية منذ سنوات؛ حيث تم فصل بو شيلاي، عضو المكتب السياسي للحزب، الذي كان يعتبر أحد المرشحين لتولي المنصب الأعلى في البلاد، من جميع مناصبه قبل أن يتم اعتقاله بتهم الفساد، وإساءة استخدام السلطة. لم تكن هذه مجرد قضية فساد؛ فقد كان بو، وهو نجل زعيم بارز من زعماء الحزب، متورطاً أيضاً في مقتل رجل أعمال بريطاني، وقيل إنه كان يخطط لانقلابٍ على الرئيس شي.
من المؤكد أن هذه التطورات الدراماتيكية ساعدت في تكوين رؤية شي وطريقة تفكيره، وأعطته شعوراً بعدم الأمان؛ ليس فقط بشأن مستقبل الحزب بل بشأن بقائه هو، فقد كشفت له فضيحة بو وفساده السافر أن فساد الامتيازات في الاقتصاد فائق الضخامة قد خلقت طبقة نخبوية أقوى بكثير من أي من النخب التي كان يتعين على أي رئيس سابق التعامل معها. وبالنسبة إلى الشعب الصيني، كان سقوط بو بمثابة نافذة على عالم التواطؤ بين الشركات الحكومية، وأسلوب الحياة المترف للنخب السياسية.
اقرأ أيضاً: 3 دول حققت نجاحاً باهراً في مكافحة الفساد
أصبح من الواضح أن الصين تعج بالفساد وعدم المساواة والانحلال الأخلاقي والمخاطر المالية. ومنذ أن بدأت إصلاحات دبنغ تمكن الحزب من انتشال نحو 850 مليون شخص من الفقر، بفضل التنمية الاقتصادية المستدامة؛ ولكن أقلية ضئيلة حصدت فوائد كبيرة بشكل غير متناسب، خصوصاً أولئك الذين حالفهم الحظ في كونهم مسؤولين عن الأملاك العقارية.
في عام 2012 وصل معامل “جيني” في الصين (مقياس لعدم المساواة في الدخل؛ حيث يعبر الرقم صفر عن المساواة التامة والرقم 1 عن انعدام المساواة بشكل كامل) إلى 0.55، متجاوزاً رقم الولايات المتحدة الذي حقق 0.45. كان ذلك وضعاً صارخاً بالنسبة إلى دولة شيوعية نظرياً. وصف أحد رجال الأعمال في شنغهاي الجرح الصيني، بقوله: “عندما كنت في المدرسة حاولت الكتب إقناعنا بمدى انحطاط النظام الرأسمالي من خلال عرض صور للحيوانات الأليفة التي يملكها أثرياء أمريكيون وهي تستمتع بمكيفات الهواء، التي كانت رفاهية لا يحلم بها إلا قلة قليلة من الصينيين في ذلك الوقت. وفي هذه الأيام لا يشرب كلب جاري إلا مياه إيفيان”.

لا عجب في أن الرئيس شي اختار أن يرسم معالم عهده من خلال معركتَين رئيسيتَين؛ الأولى ضد الفساد، والثانية ضد الفقر. في خطابه الأول أمام المكتب السياسي، تحدث شي مطولاً حول المخاطر التي تمثلها فضيحة بو، وقال: “إن الفساد سيهلك الحزب والدولة”. ومنذ ذلك الحين يشن الرئيس شي أوسع وأطول حملة على الفساد في تاريخ الحزب. وبحلول عام 2018 وصل عدد الموظفين الحكوميين الذين تمت محاسبتهم إلى مليون ونصف مليون. وعلى عكس سابقاتها، فإن هذه الحملة لم تقتصر على صغار المسؤولين، بل طالت “الذباب والنمور”، على حد تعبير شي.
هل حملة شي على الفساد هي مجرد ذريعة للتخلص من أعدائه أم هي جهد صادق للتخلص من الفساد؟ الجواب هو كلا الأمرَين. ومن غير المفاجئ أن يستغل شي الحملة للتخلص ممن يشكلون خطراً شخصياً عليه بمَن فيهم مجموعة من المسؤولين الذين يشتبه في تورطهم في مؤامرة للإطاحة به؛ لكنه شرع أيضاً في تقوية وتعزيز الأخلاق البيروقراطية، وأصدر على سبيل المثال قائمة من ثمانية قوانين تحظر “الإسراف وممارسات العمل الخاطئة”؛ مثل تناول المشروبات أثناء العمل.
كما أن حملته كانت شاملة بشكل ملحوظ، وتجاوزت مكاتب المسؤولين الحكوميين لتصل إلى الشركات المملوكة للدولة، والجامعات وحتى إلى وسائل الإعلام الرسمية. وقد أشار الانخفاض المفاجئ في مبيعات المنتجات الكمالية الفاخرة الذي ترافق مع بداية الحملة إلى تراجع مؤقت في الفساد، والنمط الاستهلاكي السافر. لكن قراءة المواطنين الصينيين للأمر جاءت متباينة، فبينما أعرب كثيرون عن إعجابهم بالحملة القوية، أُصيب آخرون بخيبة أمل كبيرة من التفاصيل البشعة للجشع التي كشفت عنها التحقيقات في الفساد. علاوة على ذلك، فإن الحملة لم تقدم الكثير بشأن غياب المساواة، فوفقاً لإحصاءات الحكومة الصينية فقد عاود مؤشر “جيني” الارتفاع بعد أن استمر في الانخفاض منذ تولي شي السلطة حتى عام 2015.

ما زال من السابق لأوانه الحكم ما إذا كانت حملة شي قد قللت إلى حد كبير من انتشار فساد الامتيازات؛ ولكنْ هنالك حقيقتان واضحتان، الأولى أن حملة شي قد وضعت المسؤولين في حالة ترقب قصوى؛ حيث أشار تدقيق في 331 من رؤساء فروع الحزب في المدن إلى أن 16% منهم قد تمت إقالتهم بسبب تهم بالفساد بين عامَي 2012 و2017، وهذا الأمر يعتبر معدلاً مرتفعاً يشكل دافعاً عند القادة المحليين لتجميد فسادهم.
والحقيقة الثانية هي أن المؤشر الوحيد على سبب نجاة بعض المسؤولين من الحملة هو أن مشغليهم -المسؤولين الأعلى منهم الذين أشرفوا على تعيينهم- قد نجوا أيضاً. لم يكن الأداء عاملاً مهماً؛ مما يشير إلى أن النظام السياسي في عهد شي قد أصبح قائماً على العلاقات الشخصية أكثر منه على القواعد. وباختصار، فإن لحملة شي سجلاً مختلطاً؛ فقد نجحت في بثِّ الخوف في نفوس المسؤولين الفاسدين، ولكنها فشلت في اقتلاع جذور السبب الرئيسي للفساد؛ وهو سيطرة الحكومة الكاملة على الاقتصاد، وانتشار المحسوبية في النظام الإداري.
اقرأ أيضاً: ما قصة الفساد؟ من أسلافنا إلى القادة المعاصرين
الطريق التي لم يسلكها
والصين ليست في معزل عن العالم بالطبع؛ فعلى الضفة الأخرى من المحيط الهادئ تشهد منافستها الرئيسية عودة عصرها الذهبي. وهذه المرة بدلاً من قوة المحرك البخاري تواجه الولايات المتحدة التكنولوجيا الجديدة في عالم الخوارزميات والمنصات الرقمية والابتكارات المالية. وكما هي الحال في الصين، تعاني الولايات المتحدة غيابَ المساواة الحاد. وتخشى حكومتها أيضاً من رد الفعل الشعبي الحاد من الشريحة الخاسرة بسبب العولمة، وأيضاً تكافح الدولة بالمثل للتوفيق بين النظام الرأسمالي، ونظامها السياسي. وبهذا المعنى يشهد العالم شكلاً غريباً من المنافسة بين القوى العظمى؛ ليس صداماً بين الحضارات بل صدام بين عصرَين ذهبيَّين تكافح فيهما كل من الولايات المتحدة والصين للقضاء على تجاوزات رأسمالية المحسوبيات.
لكن كلًّا من البلدَين يسعى لتحقيق هدفه بطريقةٍ مختلفة تماماً عن الآخر؛ فقد كانتِ الشفافية التامة والصحفيون الاستقصائيون والمدعون العامون الأشداء هم المكونات الأساسية في معركة الولايات المتحدة ضد الفساد في الحقبة التقدمية، واليوم ترتكز أجندة الرئيس بايدن التقدمية على استعادة نزاهة الديمقراطية. وفي المقابل، اختار شي القضاء على عدم المساواة والفساد من خلال تشديد سيطرته السياسية.
اقرأ أيضاً: طريق الحرير الجديدة وثورة الصين الحديثة
بينما تم تنفيذ تعهدات شي بالقضاء على الفقر في المناطق الريفية على سبيل المثال من خلال حملة وطنية؛ حيث فرض المخططون المركزيون أهدافاً صعبة على المسؤولين المحليين، وتم تجنيد المنظومة الإدارية بأكملها، بل المجتمع برمته، لتحقيق هذه الأهداف بغض النظر عن التكلفة. ومع أن الغاية نبيلة؛ فقد كانتِ الوسيلة متطرفةً إلى حد كبير، حيث أدت الضغوط التي مارسها كبار المسؤولين على المسؤولين المحليين من أجل القضاء على الفقر من خلال إعادة توطين الملايين من سكان المناطق النائية إلى الضواحي، بغض النظر عن رغبتهم في الانتقال، حيث انتهى المطاف ببعض المهجرين إلى عدم حصولهم على أراضٍ زراعية أو وظائف.

بدأت الحملة على الفساد من الأعلى إلى الأسفل، وإلى جانب اعتقال عدد ضخم من كبار المسؤولين الفاسدين، طالب شي المسؤولين بإظهار ولائهم والتزامهم بأيديولوجية الحزب. وقد أدت هذه الإجراءات إلى تقاعسٍ بيروقراطي، وشلل أطلق عليه الصينيون تسمية “الحكم الكسول”؛ حيث اختار المسؤولون الخائفون التقاعس وعدم القيام بأية مبادرات تجنب اللوم وتحمل المسؤولية بدلاً من القيام بخطوات قد تكون مثيرة للجدل. كما أن إصرار شي على “الصوابية السياسية” أدى إلى القضاء على مصداقية التقارير الإدارية، وربما يكون الخوف من نقل الأخبار السيئة قد أسهم في تأخر استجابة الصين لجائحة “كوفيد-19”.
لم يكن من الضروري أن تسير الأمور على هذا النحو؛ بل كان بإمكان الصين أن تأخذ مساراً مختلفاً في سعيها للسيطرة على الفساد. في الواقع كانت الصين قبل حكم شي تسير بخطى ثابتة نحو الحوكمة المفتوحة. وكانت بعض الحكومات المحلية تزيد من شفافيتها، وبدأت في مراعاة الجمهور في سياساتها.
وعلى الرغم من قيود الرقابة الحكومية؛ فإن الصحف الاستقصائية مثل “سايشين” و”ساذرن ويك إند” كشفت بشكلٍ منتظم عن فضائح دفعت عجلة الإصلاح. في تحرك دعمه ناشطون حقوقيون، جربت بعض المناطق الإبلاغ عن أصول وممتلكات ومداخيل الموظفين الحكوميين، وفي عام 2012 قرر المشرعون المركزيون تحويل هذه التجربة إلى قانون على المستوى الوطني. ولكن بمجرد أن بدأت حملة شي على الفساد، تم القضاء على هذه الجهود التي انطلقت من القاعدة نحو الأعلى، وأحكمت الدولة قبضتها على المجتمع المدني.

من نواحٍ عديدة، وضعت مركزية السلطة شي في وضعٍ استثنائي في مواجهة المصالح المكتسبة، ودفع الإصلاحات الصعبة. كان بإمكانه الحد من احتكار المؤسسات الحكومية، وتمكين الشركات الخاصة التي أسهمت عام 2017 في خلق أكثر من 90% من الوظائف الجديدة؛ إذ يمكن للقطاع الخاص القوي أن يسرع من النمو عريض القاعدة الذي يحد بدوره من عدم المساواة. أو كان بإمكانه أن يصحح الخلل في التوازن بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية؛ بحيث لا تكون الأخيرة مضطرة إلى تأجير الأراضي واقتراض الأموال لزيادة إيراداتها. وكان بإمكانه أيضاً تبسيط المتطلبات المبالغ فيها التي فرضها المخططون المركزيون على الحكومات المحلية في خطوة من شأنها التقليل من حاجتها إلى ممارسة سلطات تنظيمية شديدة، وتخفيف الضغوط على ميزانياتها.
لكن شي لم يُعِر الكثير من الاهتمام لهذه الإصلاحات، وبدلاً من ذلك عمل على إحياء نظام القيادة القديم في مواجهة رأسمالية المحسوبيات؛ وهو نفس النهج الذي فشل فشلاً ذريعاً في عهد ماو تسي تونغ. وبعد نجاحه في السيطرة على تفشي جائحة “كوفيد-19” يبدو أنه أصبح أكثر اقتناعاً من أي وقتٍ مضى بأن التعبئة الوطنية والأوامر التسلسلية من الأعلى إلى الأسفل تحت قيادته القوية هي السبيل الوحيد للمضي قدماً؛ ولكن رفض شي نهج الإصلاح من القاعدة إلى القمة سيؤدي إلى القضاء على قدرة الصين على التكيف والريادة، وهي الخصائص نفسها التي ساعدت البلاد على شق طريقها عبر الكثير من العقبات على مرِّ السنين.
قال لي أحد المسؤولين الصينيين ذات مرة: “إن الأمر يشبه ركوب الدراجة؛ فكلما أحكمت قبضتك على المقود ازدادت صعوبة توازنك”.
♦أستاذ العلوم السياسية في جامعة ميتشيغان، ومؤلف كتاب «عصر الصين المطلي بالذهب.. مفارقة الازدهار الاقتصادي والفساد الكبير».