الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربية

اليمن في كتابات الغربيين (2-3)

(الحلقة الثانية) تحدي الطبيعة وسحر العمارة

كيوبوست- منير بن وبر

يدرك الزائرون لليمن وحضرموت وعدن أن مغامرتهم في هذه المناطق لن تكون سهلة على الدوام، وربما هذا ما يجعلها تستحق لقب المغامرة؛ لذلك يمكن ملاحظة دقة الوصف في كتابات الأجانب لكل ما يصادفونه في رحلتهم؛ في محاولة منهم لرسم أدق صورة ممكنة عن هذه البلاد وأهلها. ولعل مما يضعنا أمام صورة التحدي هذه هو قول الطبيبة الفرنسية، كلودي فايان، التي زارت اليمن في الخمسينيات: “حسب أقوال الذين سبقوني، يكون السفر إلى اليمن بحثاً عن المتاعب”.[1]

ولا شك أن الانطباعات التي خرجوا بها من رحلاتهم كانت متشابهة من بعض النواحي ومتباينة من نواحٍ أخرى؛ ويعود ذلك إلى أسباب بينها اختلاف الأماكن، واختلاف الخلفية الثقافية لأولئك الزائرين، وبالطبع اختلاف اهتماماتهم ومجالات عملهم. ومع ذلك، يمكن القول إن بعض أكثر الموضوعات التي أشار إليها الجميع واستطرد في وصفها وتناولها هو المرأة، ونظام الحكم وحياة الحكام وعائلاتهم، والطبقات الاجتماعية، والمناظر الطبيعية، والتاريخ والآثار والثروة الزراعية، والعادات والتقاليد والدين، وعلاقات أهل حضرموت في دول جنوب وجنوب شرق آسيا. كما يُلاحظ كيف أبدى البعض اهتمامات بمجالات أخرى كالملابس وفن الغناء والموسيقى؛ وهذا ما يجعل مؤلفات الأجانب عن اليمن والجنوب أحد المصادر المهمة لدراسة هذه البلاد.

اقرأ أيضاً: المرأة في جنوب الجزيرة العربية (1-3)

زار العديد من الأجانب خلال القرن العشرين اليمن، أو ما يُعرف باليمن الشمالي، الواقع آنذاك تحت حكم الإمام الزيدي ملك المملكة المتوكلية اليمنية، كما زاروا عدن الواقعة تحت الاستعمار البريطاني، والمحميات التابعة لها مثل حضرموت. وبعد الثورتين اللتين أطاحتا بالحكم الإمامي وأخرجتا الاستعمار البريطاني، استمر تدفق الأجانب إلى كلا البلدين، الجنوب والشمال؛ لكنَّ قليلاً من أولئك مَن كتب عن تجربته وتحدث عن انطباعاته بوضوح وصراحة، كانت تلك الانطباعات خليطاً من الدهشة والإحباط، كما تقول الطبيبة كلودي فايان، في كتابها “كنت طبيبة في اليمن” في وصف تجربتها خلال أسابيعها الأولى في اليمن: “خيال قاس وشاعري في نفس الوقت، إنه خليط مفرط من الجنون الواضح والحكمة العميقة، إنه جمال ممزوج بالفكاهة”.[2]

لقد كانت المناظر الطبيعية أول ما يرسم الانطباع الأول لدى الزوار؛ فهي أول ما تقابلهم عند قدومهم إلى البلد، وسريعاً يمكنها بعث إحساس بالراحة أو الاضطراب. لطالما تمتعت مرتفعات اليمن بمناظر خلابة بفضل الخضرة والمسطحات الزراعية والمدرجات، وهو ما لا يمكن مشاهدته في المناطق الجنوبية من شبه الجزيرة العربية القاحلة مثل حضرموت. تصف البعثة الأوروبية التي زارت اليمن في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، اليمن بالقول “تشبه حقاً في مناظرها الجنة على الأرض”.[3]

امراة بالزي التقليدي وسط الحقول ومرتفعات اليمن الشمالية- وسائل التواصل الاجتماعي

المناظر الطبيعية في جنوب الجزيرة العربية أقل اخضراراً من اليمن؛ فالمساحات تغلب عليها الأراضي القاحلة والصحراوية، والتجول عليها باستخدام وسائل النقل البدائية شاق للغاية، ومع ذلك فإن لها سحراً خاصاً؛ بفضل ما تمنحه الواحات المتناثرة هنا وهناك من شعور بالتغاير، أوليس بضدها تتبين الأشياء؟

وحول متعة التغاير تلك، تقول فريا ستارك، في معرض حديثها عن زيارتها مدينة دوعن- حضرموت: “لو سُئلت ما الشيء الأكثر قبولاً في الحياة، فعليَّ أن أقول إنه متعة التغاير.. إنه السحر السري للواحة، وهي عادة رقعة معتدلة من خضرة جعلها فقط محيطها الرملي ذات قيمة عالية”.[4] زارت الرحالة البريطانية، فريا ستارك، حضرموت في عام 1934م، مدفوعةً بحب التاريخ ومعرفة أسرار مملكة حضرموت الغنية في الماضي بتجارة اللبان، وقد سردت الرحالة تجربتها في كتاب “البوابات الجنوبية لجزيرة العرب”

وليست فريا ستارك وحدها مَن أُعجب بواحات وادي دوعن في حضرموت، والتي تقابل المرتحل من ساحل حضرموت إلى واديه خلال الطريق؛ ففي كتابهما “حضرموت.. إزاحة النقاب عن بعض غموضها”، يصف ميولين وفيسمان دوعن بالقول إنها: “مثل قطعة غير حقيقية من جنان منسية تنتظر يوم البعث.. هذه هي جائزة المسافرين المرهقين من السفر في الصحراء”.[5]

اقرأ أيضاً: عدن.. مدينة التسامح والتعايش والسلام

وبالإضافة إلى الإعجاب بهذه الطبيعة التي وهبها الله هذه البلاد، فقد أبدى الزائرون الأجانب اندهاشاً بالفنون المعمارية في اليمن وحضرموت.

وادي دوعن.. رباط باعشن- أحمد باعيسى

ولعل من بين أبرز المدن التي تثير الإعجاب، صنعاء، وشبام حضرموت التي يُطلق عليها ناطحات السحاب الطينية. وفي وصف صنعاء، تقول فايان: “إن صنعاء مدينة خارقة للعادة حين يُنظر إليها من الجو.. مدينة لها عمارتها الشاهقة المتلاصقة الفخمة المغطاة بالزخرفة والنقوش البيضاء وتعلوها المنارات البعيدة”، وتواصل قائلةً: “لا يثير دهشة الأوروبي أكثر من مدينة عظيمة بلا نهر، بلا ينابيع على سطح الأرض”. [6] كما يصف الدبلوماسي الروسي، د.أوليغ بيريسيبكين، صنعاء بالقول: “المدينة القديمة هي في حد ذاتها متحف الهندسة المعمارية اليمنية”.[7]

اقرأ أيضاً: كيف أصبحت صنعاء الحصينة مهددة بالتدمير؟

خلال إقامتها في صنعاء، كانت الفرنسية كلودي فايان تشعر بأنها تعيش قصة مثيرة من القرون الوسطى؛ فمنازل صنعاء التراثية، وركوب الخيل للتنقل والتجول بين الأزقة، والطريقة التي يحكم بها الملك والأمراء البلاد، كلها أمور لم تألفها فايان في أوروبا؛ فكان ذلك مصدراً لتجربة فريدة بالنسبة إليها، ففي كتابها -على سبيل المثال- تصف كيف كان شعورها عندما طُلب منها إرسال رسالة إلى الملك بمناسبة وصولها، قائلةً: “كم كان رائعاً أن أخاطب ملكاً بأسلوب القرون الوسطى”، وتمنحنا كلودي فكرة عن ذلك الأسلوب قائلةً إنه يجب كتابة الرسالة بداية من منتصف الصفحة، وليس أولها، تاركةً أعلاها فارغاً حتى يكتب الملك جوابه عليه؛ لأنه من غير المتصور أن تكون كتابة جلالة الملك أسفل كتابة الرعايا.

كلودي فايان- أرشيف

الإعجاب ذاته ينطبق على الكثير من مستكشفي البلاد الذين وصل بعض منهم إلى قمة الارتباط الروحي ببعض المناطق؛ فهذا دانيال ميولين يصف مدينة سيئون في حضرموت، قائلاً: “لكم أصبحت سيئون مدينة البساتين هذه قريبة إلى قلبي!”.[8] ويصف الدبلوماسي الروسي، بيريسيبكين، منطقة “كريتر” في عدن، والتي زارها ذات مرة بعد خروج الاحتلال البريطاني، قائلاً: “اكتشفت في رحلتي القصيرة إلى منطقة كريتر أنها من أولى دلائل الحضارة”.[9]

اقرأ أيضاً: بين المساجد والمجتمع في حضرموت.. حكاية تروى

وإن كانت الطبيعة والعمارة قد تركتا أثراً غير عادي لدى أولئك الذين سافروا وعاشوا في اليمن وجنوب الجزيرة العربية، فإن انطباعهم عن الحكام والسكان والعادات والتقاليد والعلاقات والحياة الاجتماعية هو خليط من الدهشة والإعجاب، وفي بعض الأحيان السخط والاشئمزاز، ومع ذلك فإن مما يكاد يُجمع عليه هو حفاوة الأهالي وكرمهم وتواضعهم؛ وفي ذلك تقول البريطانية دورين إنجرامز، عن ابن الجنوب العربي إنه: “لا يأمن الغرباء، ومع ذلك فهو مضياف كما هي شيمة كل مَن يسكن الصحراء التي يكتسب فيها الطعام والماء القيمة القصوى”.[10] عاشت السيدة إنجرامز في حضرموت وجنوب الجزيرة العربية خلال الفترة من 1934 إلى 1944م، وسردت تجربتها في كتاب “أيامي في الجزيرة العربية”.

قد تفرض الطبيعة القاسية في جنوب الجزيرة العربية والبيئة الوعرة في مرتفاع اليمن تحديات كبيرة على كل مَن يمر بها لأول مرة؛ لكنها بلا شك غالباً ما تكون مصدر سعادة لأولئك المغامرين الذين يرون في هذه البلاد شيئاً مغايراً لما اعتادوا عليه. وحول هذا الإحساس يقول ميولين وفيسمان: “نشعر وسط جلال هذه الطبيعة مع هذه الحيوانات الوفية وتابعيها البدائيين، أنها نعمة كبرى أن تركنا الحضارة الغربية خلفنا ونعيش في حضن أُمنا الأرض”.

المراجع:

[1] حضرموت إزاحة النقاب عن بعض غموضها، مرجع سابق. ص 144.

[2] اليمن واليمنيون في ذكريات دبلوماسي روسي، مرجع سابق. ص 232.

[3] أيامي في الجزيرة العربية، دورين إنجرامز. ص 29.

[4] كنت طبيبة في اليمن، مرجع سابق. ص 50.

[5] اليمن واليمنيون في ذكريات دبلوماسي روسي، د أوليغ بيريسيبكين. ص 109.

[6] البوابات الجنوبية لجزيرة العرب، فريا ستارك. ص 145.

[7] حضرموت.. إزاحة النقاب عن بعض غموضها، دانيال فان در ميولين و هـ. فون فيسمان. ص 83.

[8] كنت طبيبة في اليمن، كلودي فايان. ص 8.

[9] كنت طبيبة في اليمن، كلودي فايان. ص 40.

[10] من كوبنهاجن إلى صنعاء، توركيل هانسن، ص 277.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة