الواجهة الرئيسيةشؤون دولية
الوجود التركي في الصومال.. مصالح متبادلة أم زواج كاثوليكي؟
خارطة الوجود التركي في الصومال امتدت إلى كل القطاعات الاستراتيجية للدولة الصومالية من تعليم اللغة والثقافة التركية إلى تكريس العقيدة العسكرية الخاصة بالأتراك في الجيش الصومالي

كيوبوست- عبدالجليل سليمان
منذ نيلها استقلالها، بشقَّيها البريطاني والإيطالي عام 1960، لم تشهد جمهورية الصومال الواقعة في شرق إفريقيا، والتي تشغل حيزاً استراتيجياً فريداً يطل على المحيط الهندي من جهة، وخليج عدن ومضيق باب المندب على البحر الأحمر من جهة أخرى، فضلاً عن توفر ثروات طبيعية هائلة بها من المحصولات الزراعية والثروة الحيوانية والمعدنية والبحرية، لم تشهد استقراراً سياسياً إلا في فتراتٍ متقطعة، رغم الانسجام العرقي والديني بين مكوناتها السكانية.
ومع ذلك، ظلَّتِ الحكومات الصومالية المتعاقبة قادرة على الحفاظ على الحد الأدنى من الوجود كدولة وكيان، إلى لحظة سقوط نظام الديكتاتور اللواء محمد سياد بري، 26 يناير 1991، بانقلابٍ عسكري بقيادة اللواء محمد فارح عيديد؛ فدخلت البلاد في حرب أهلية ضروس لا تزال ذيولها ماثلة حتى اليوم، وإن تحسنت الأوضاع نسبياً.
والحال كذلك، تحوَّل الصومال إلى جغرافية مثالية للفوضى، وأغرت سيولة الأوضاع الأمنية وتفكك الدولة الصومالية وفشلها، الكثير من الدول والمجموعات الإرهابية، بالتدخل المباشر أو عبر وكلائها المحليين في البلاد، من أجل تنفيذ أجندات سياسية أو اقتصادية خاصة بها، وبعيدة عن مصالح الشعب الصومالي المقهور الذي تشرد في الآفاق، وارتُهن مَن بقي منه وقوداً لحرب الميليشيات القبلية والمجموعات الإرهابية؛ مثل “القاعدة” و”داعش”، وحركة الشباب الإسلامي الصومالية التابعة لهما.
اقرأ أيضاً: أردوغان لن يتنازل عن الصومال واهتمامه منصب على ثرواته
استغلال تركي لوضع الصومال
رغم بُعدها الجغرافي عن شرق إفريقيا، لم تكن تركيا الأردوغانية ذات المحمول العثماني الاستعماري، بعيدةً عن المشهد الصومالي؛ خصوصاً في ظل الفراغ الذي أحدثه إحجام الدول العربية الأكثر قرباً جغرافياً وسياسياً ووجدانياً إلى الصومال، وعجزها عن إحداث نوع من التسوية والمصالحة السياسية بين الفرقاء الصوماليين، فوجدت تركيا أوضاعاً مثالية لتكرِّس وجودها على خاصرة الدول العربية في باب المندب وخليج عدن والبحر الأحمر؛ حيث الممرات الرئيسية لناقلات النفط.
وبما يتمتع به من براغماتية، وخطاب عاطفي مشحون بالمفردات الدينية، لم يكتفِ رجب طيب أردوغان، بمخاطبة الصومال؛ بل هرع إلى زيارتها في 19 مارس 2011 كثاني رئيس غير إفريقي يُقدم على هذه الخطوة بعد اندلاع الحرب الأهلية الصومالية، بعد الأمريكي جورج بوش الذي اكتفى بزيارة القاعدة الأمريكية في الصومال 1993، حينها كان الصومال يعاني مجاعة طاحنة، وحين كانت التفجيرات الانتحارية عملاً يومياً ينتظم العاصمة مقديشو والمدن الرئيسية في البلاد.

بطبيعة الحال، مثَّلت هذه الزيارة، في لبوسها الإنساني، وضعاً تأسيسياً في العلاقة بين الصومال وتركيا؛ حيث أُعيد فتح السفارة التركية بمقديشو في نوفمبر 2011، وبترافق ذلك مع تدشين الخط الملاحي الجوي بين مطارَي أنقرة ومقديشو، وضعت تركيا خطوتها الأولى في الصومال، ثم شرعت في خلق الولاءات بين النخب الصومالية العسكرية والسياسية، تحت عنوان المساعدات الإنسانية للشعوب الإفريقية المسلمة المضطهدة!
اقرأ أيضاً: الخطط التركية لتعزيز نفوذها الاقتصادي في الصومال
لكن، مع مرور الوقت، أصبحت سياسة تركيا الإنسانية أكثر تعقيداً وتشابكاً، بعد سماح السلطات الصومالية للوكالة التركية للتعاون والتنسيق الدولي (تيكا)، بالعمل في البلاد تحت غطاء التنمية والاستثمار والتطوير؛ بينما ظلت تمارس مهمتها الرئيسة، الأمنية والاستخبارية، في الخفاء.
تغلغل تحت غطاء الاستثمار
الواقع أن (تيكا) بدأت أنشطتها في الصومال تحت ذات العنوان الإنساني؛ فقدمت، حسب بيانات تركية رسمية، نحو 414 مليون دولار كبرامج إغاثية وتنموية، ومنحاً دراسية لـ1200 طالب صومالي في الجامعات والمعاهد التركية بكلفة 70 مليون دولار؛ لكنها سرعان ما اتجهت إلى أنشطةٍ أخرى ذات طابع سياسي تحت غطاء الاستثمار، وبدأت عملها بإطلاق مدرسة زراعية لتدريب الصوماليين على استخدام المعدات الحديثة في الزراعة والري، أعقبتها بكلية الأناضول الزراعية التي تقدم خدماتها التعليمية لنحو 180 طالباً، بجانب تقديمها منحاً تعليمية في الجامعات التركية؛ بلغ عدد المستفيدين منها حتى اليوم 1092 طالباً وطالبة؛ حيث تمكنتِ الحكومة التركية من تعليم أكثر من 3500 صومالي اللغة التركية.
لم تكتفِ ذراع أردوغان القوية في الصومال (وكالة تيكا) بذلك؛ بل حصلت على عقود شبه احتكارية لتشغيل مطارَي مقديشو وهيرجيسا، وكل الموانئ الرئيسية في الصومال، بجانب توليها إعادة تأهيل الطرق والبنية التحتية داخل العاصمة مقديشو.
اقرأ أيضاً: تركيا في الصومال.. وجود عسكري مثير للشكوك
ليس ذلك فحسب، إنما حصلت تركيا على ما هو أكثر أهمية في استراتيجيتها نحو الصومال، عندما سمحت لها السلطات هناك ببناء قاعدة عسكرية على مساحة 400 هكتار في العاصمة الصومالية، تعتبر الأكبر خارج تركيا، وتقع بالقرب من مطارها مقديشو الذي تديره وتشغله (تيكا)، ويعمل بالقاعدة 200 ضابط ومدرب تركي، وتحتوي على مركز تدريبي يقدم خدماته إلى الطلاب العسكريين الصوماليين باللغة التركية، يتبعون نفس (الطقوس) الاحتفالية للجيش التركي؛ بما في ذلك ترديد النشيد الرسمي للأكاديمية العسكرية التركية!

ومع ذلك، فإن الطموح الأردوغاني في الصومال لا يتوقف عند هذا الحد الذي يجعل القرار السياسي والسيادي الصومالي تحت قبضته، فقد أعلن وزير البترول الصومالي عبدالرشيد محمد أحمد، في أكتوبر الماضي، طرح عطاءات لـ15 قطاعاً نفطياً، للشركات العامة والخاصة، في مساحة إجمالية تبلغ نحو 7500 ميل مربع، ستحوز تركيا على نصيب الأسد منها؛ خصوصاً أن مستقبل الاستكشاف النفطي في الصومال مُبشِّر، حسب الخبراء؛ إذ يتوقع احتواء خزانها المائي على احتياطي يبلغ 2.7 مليار برميل من النفط.
اقرأ أيضاً: أردوغان يحاول توسيع نفوذه في ليبيا بالتنقيب في مياه الصومال
إلى ذلك، فإن خارطة الوجود التركي في الصومال أصبحت أكثر اتساعاً وتشعباً؛ حيث تمدد نفوذها إلى كل القطاعات الاستراتيجية للدولة الصومالية، من تعليم اللغة والثقافة التركية في الفضاءين المدني والعسكري، إلى تكريس العقيدة العسكرية التركية في الجيش الوطني الصومالي، إلى احتكار إدارة وتشغيل الموانئ والمطارات والعمل في القطاعات الاقتصادية الرئيسية؛ مثل الزراعة والتعدين، ما يشي بأن النفوذ التركي في الصومال أصبح واقعاً، وأن العلاقة بين أنقرة ومقديشو ذاهبة إلى شكل يشبه الزواج الكاثوليكي، أكثر مما هي علاقة مصالح بين دولتَين وفقاً لما هو متعارف عليه في العلاقات الدولية.