الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

النظام قبل السلام.. دروس مستلهمة من دبلوماسية كيسنجر في الشرق الأوسط

كيوبوست- ترجمات

مارتن إنديك

نشرت مجلة فورين أفيرز مقالةً مقتبسة من كتاب «سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط» لمؤلفه مارتن إنديك، وهو باحث و زميل متميز في مجلس العلاقات الخارجية، يطرح مقاربة بين ما ينبغي على الإدارة الأمريكية تبنيه في سياستها تجاه الشرق الأوسط؛ انطلاقاً من المدرسة الدبلوماسية الكيسنجرية.

اقرأ أيضاً: أسطورة هنري كيسنجر

حيث تأمل الكاتب وضعَ الولايات المتحدة بعد النهاية المخزية للحرب الأمريكية في أفغانستان، والانعكاس الكبير لذلك على التعقيدِ والتقلب اللذين يتسم بهما الشرق الأوسط الكبير. إذ لا تزال المنطقة تمثل أهميةً كبرى بسبب مركزها الجيوستراتيجي، وبسبب موقعها على مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا.

ويقول إنديك أن الحلفاء العرب لإسرائيل وواشنطن يعتمدون على الولايات المتحدة في أمنهم. فيما تظل الدول الفاشلة؛ مثل سوريا واليمن أرضاً خصبة محتملة للإرهابيين الذين يمكنهم ضرب الولايات المتحدة وحلفائها. وبالتالي، فإن صياغة الاستراتيجية المناسبة للتعامل مع المنطقة، لها سابقة يمكن أن تكون بمثابة نموذج مفيد. وهي مستمدة من تجربة هنري كيسنجر، الخبير الاستراتيجي البارز في واشنطن.

الرئيس نيكسون وكيسنجر على متن طائرة الرئاسة أثناء توجهها إلى بروكسل لإجراء محادثات الناتو، 1974- فورين أفيرز

فعلى الرغم من أنه لا يتم تذكره كثيراً في هذا السياق، بحسب المقالة، فإنه خلال السنوات الأربع التي شغل فيها منصب وزير الخارجية لرئيسي الولايات المتحدة نيكسون وجيرالد فورد، قاد كيسنجر جهداً ناجحاً لبناء نظام شرق أوسطي مستقر استمر لمدة 30 عاماً.

اقرأ أيضًا: فلسفة التاريخ عند هنري كسنجر

وتمكن كيسنجر من تحقيق ذلك، بينما كانت الولايات المتحدة تسحب كل قواتها من فيتنام، وتنسحب من جنوب شرق آسيا. وقد كان ذلك وقتاً، مثل اليوم، عندما كان على الدبلوماسية أن تحل محل استخدام القوة.

وتزامن ذلك مع فضيحة ووترغيت، التي أغرقتِ الولايات المتحدة في أزمةٍ سياسية عميقة، وأجبرت نيكسون على التنحي عن منصبه، مما خلق فراغًا محتملاً في القيادة الأمريكية على المسرح العالمي.

ولعل أحد أهم الدروس المستفادة من حقبة كيسنجر، كما يشير إنديك، هو أن التوازن في ميزان القوى الإقليمي لا يكفي للحفاظ على نظامٍ مستقر. ولخلق هذا النظام المستقر، يتعين على واشنطن إيجاد السبل لتشجيع حلفائها وشركائها على معالجة المشكلات التي تعاني منها المنطقة. فقد كان النظام، وليس السلام، هو هدف كيسنجر؛ لأنه رأى أن السلام ليس هدفاً قابلاً للتحقيق، ولا حتى مرغوباً في الشرق الأوسط.

وزير الخارجية الأمريكي كيسنجر والرئيس المصري أنور السادات في مفاوضات الإسكندرية، مصر، 1975- وال ستريت جورنال

ويؤكد إنديك أن النهج الذي تبناه كيسنجر في التعامل مع الشرق الأوسط يشكل أهمية خاصة في اللحظة الحالية. حيث تنسحب الولايات المتحدة من المنطقة في تشابهٍ واضح مع انسحاب الولايات المتحدة من جنوب شرق آسيا في زمن كيسنجر. بعد أن أدت تداعيات حرب فاشلة وطويلة الأمد إلى وجود قيود صارمة على قدرة واشنطن على نشر قواتها في الشرق الأوسط.

اقرأ أيضًا: “معنى” كيسنجر… إعادة الاعتبار للواقعية

ورغم ذلك، فقد أدرك كيسنجر أن التوازن المستقر يعتمد على دعمِ الولايات المتحدة لدبلوماسيتها بالتهديد الحقيقي بالقيام بعمل عسكري. وأغلق هذه الدائرة من خلال الاعتماد والعمل مع الشركاء الإقليميين المؤهلين لذلك.

كما اعترف كيسنجر بأن واشنطن كان عليها أن تلبي مطالب الدول العربية بالعدالة في أعقاب حرب الأيام الستة، التي خسرت فيها أراضيَ كبيرة لصالح إسرائيل. وأن التقاعس عن القيام بذلك من شأنه أن يهدد شرعية النظام الشرق أوسطي الجديد.

ومع ذلك، فقد افترض الرجل أنه طالما حافظت القوى العظمى على توازن في ميزان القوى الإقليمي، فإن العدالة يمكن أن تتأخر.

هنري كيسنجر و “لو دوك ثو”، كبير مفاوضي فيتنام الشمالية- أسوشييتد برس

ويرى الباحث أن كيسنجر قد سعى إلى تكرار هذا النهج في الشرق الأوسط عندما سنحت له الفرصة، لكنه أدرك أن التوازن في ميزان القوى لم يكن كافياً. واليوم، من المرجح أن يستخدم كيسنجر مخططًا مشابها في التعامل مع إيران، الدولة التي تهدد بشكل واضح ما تبقى من نظامه في الشرق الأوسط الذي تقوده الولايات المتحدة.

فهو لن يدعو إلى إسقاط النظام، بل قد يسعى إلى إقناع إيران بالتخلي عن سعيها إلى تصدير ثورتها، والعودة بدلاً من ذلك إلى سلوك أشبه بسلوك الدولة.

اقرأ أيضًا: مكيافيلي وكيسنجر.. والواقعية في العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين

ولأنه كان يعمل في بيئة من الانكماش، كان كيسنجر مدركاً تماماً لمخاطر التجاوز. لكن كما يذكر في كتاب «استعادة العالم»: “ليس التوازن هو ما يلهم الرجال بل العالمية، وليس الأمن بل الخلود”. وكما شرح بالتفصيل في كتابه الضخم “الدبلوماسية”، الذي نُشر عام 1994، فإن رجال الدولة الأمريكيين نادراً ما يفهمون أو يحترمون قواعد اللعبة التي يتطلبها مفهومه عن النظام الدولي.

وغالباً ما تكون مثاليتهم مدفوعة بشعور من القداسة الإلهية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط. فهم يتصورون أن السعي لتحقيق السلام وبناء الأمة ليس أمراً مرغوباً فيه فحسب، بل يمكن تحقيقه أيضاً، وأن المشكلة الوحيدة هي التوصل إلى الصيغة الصحيحة.

هنري كيسنجر مع شاه إيران محمد رضا بهلوي عام 1975- أسوشيتد برس

وهنا تكمن المعضلة في قلب الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط؛ وفقاً لإنديك الذي أضاف أن كيسنجر أدرك أن الحفاظ على النظام يتطلب جهداً موثوقاً لحلِّ صراعات المنطقة، لكن حجم طموح رجل الدولة قد يؤدي في نهاية المطاف إلى زعزعة استقرار هذا النظام، لافتاً إلى أنه خلافاً لصناع القرار السياسي الأمريكيين الذين جاءوا من بعده، كان كيسنجر مصمماً على تجنب التجاوزات في الشرق الأوسط. رغم أنه في العديد من الحالات كان حذره وشكوكه سبباً في دفعه إلى عدم إدراك الحقيقة. وهذا هو الخطر الذي يواجهه الرئيس جو بايدن أيضاً في الشرق الأوسط الآن بعد أن أنهى الحرب في أفغانستان.

وفي المجمل، يرى الباحث أنه يمكن لأخطاء كيسنجر وإنجازاته أن تقدم دروساً قيّمة لبايدن، وهو يتعامل مع الشرق الأوسط في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان. ومع تحويل بايدن اهتمامه إلى أولويات أكثر إلحاحاً في أماكن أخرى، فإن الهدف الذي ينبغي أن تسعى دبلوماسيته إلى تحقيقه في الشرق الأوسط لابد وأن يتلخص في صياغة نظام إقليمي تدعمه الولايات المتحدة، بحيث لا تظلُّ هي اللاعب المهيمن، ولكن تظل اللاعبَ الأكثر نفوذاً وتأثيراً.

بايدن خلال زيارته للقوات الأمريكية المتمركزة في الأردن من أجل تدريب القوات المسلحة في الدول الشرق أوسطية- فرانس برس

وفي القلب منه، سوف يحتاج هذا النظام إلى توازن قوى يتم الحفاظ عليه من خلال دعم الولايات المتحدة لحلفائها الإقليميين؛ أي إسرائيل والدول العربية السنية. وعلى نحو مماثل، سوف يشكِّل تعزيز عملية السلام القادرة على تخفيف الصراع الإسرائيلي/الفلسطيني أهمية كبرى في معالجة المظالم في المنطقة. وهذا ليس من أولويات اهتمامات بايدن الآن.

واختتم إنديك مقالته بوصفةٍ لتقليص احتمالات انفجار العنف في منطقة الشرق الأوسط، قائلاً إنه سيكون لزاماً على الإدارة الأمريكية تشجيع عملية سلام إسرائيلية/فلسطينية تدريجية من أجل إعادة بناء الثقة، وتعزيز التعايش العملي، تماماً كما فعل كيسنجر في جهوده الرامية لإخراج مصر من الصراع مع إسرائيل.

ففي أعقاب الانسحاب من أفغانستان، فمن غير المرجح أن يتجاوز بايدن حدوده في منطقة الشرق الأوسط. لكن كما يمكن لكيسنجر أن ينصحه، سيكون من الخطأ أيضاً أن يدير ظهره لها.

♦زميل متميز في مجلس العلاقات الخارجية، ومؤلف كتاب «سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط» الذي تم اقتباس المقال منه.

المصدر: فورين أفيرز

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة