الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

النظام العالمي القديم.. أصل العلاقات الدولية

كيوبوست- ترجمات

فاليري هانسن♦

كم يبلغ عمر العالم الحديث؟ بهذا السؤال بدأت أستاذة التاريخ في جامعة يال، فاليري هانسن، مقالاً نشرته مجلة “فورين أفيرز”، تلقي فيه الضوء على نشأة النظام العالمي القديم وتطوره. تشير هانسن -في مطلع مقالها- إلى أن علماء العلاقات الدولية يميلون إلى إرجاع تأريخ بداية مجال دراستهم إلى 500 عام مضت، عندما بدأ عددٌ قليل من دول أوروبا الغربية في إنشاء مستعمرات في إفريقيا والأمريكتين.

وهم يعتبرون أن الاستعمار الحديث رسم صورة العالم كما هي عليه اليوم، إلى جانب صلح ويستفاليا، الذي تم في عام 1648، وأنهى سلسلةً من الحروب الدموية بين دول أوروبا المتناحرة، ووضع الأسس لما يعرف بالنظام الوستفالي الملزم الذي يقسِّم العالم إلى دولٍ قومية ذات سيادة.

ولا يزال معظم الباحثين في العلاقات الدولية يرون التاريخ من هذا المنطلق، ونادراً ما ينظرون إلى ما قبل عام 1500 ويعتقدون أن السياسة الدولية لم تكن موجودة قبل ذلك. هذه النظرة إلى التاريخ تعطي الأسبقية للغرب، وكأنما كل ما حدث قبل ذلك لم يكن ذا مغزى، وقد كشف صعود قوى عالمية غير غربية في العقود الماضية كالصين واليابان، عن مدى خطأ هذه النظرة.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن إنقاذ النظام العالمي لفترة ما بعد الحرب العالمية؟

آيسه زاركول، أستاذة العلاقات الدولية في جامعة كامبريدج تقترح في كتابها «قبل الغرب» طريقة للخروج من هذا المأزق الفكري، وكشفت بوضوح عن كيفية تفاعل الأنظمة السياسية غير الغربية مع بعضها البعض في الماضي. وتختلف زاركول مع الرأي القائل بأن النظام الدولي الحديث بدأ مع صلح ويستفاليا، وأرجعت هذا التاريخ إلى عام 1206 عندما كان جنكيز خان حاكماً معروفاً لدى جميع سكان السهوب الأوراسية.

ومع أن أياً من الإمبراطوريات التي خلفت إمبراطورية جنكيز خال المغولية لم تتمكن من السيطرة على مساحاتٍ مماثلة، فقد اتبعت هذه الإمبراطوريات النموذج المغولي. والأهم من ذلك بالنسبة للسياسات الخارجية اليوم، أن شعوب هذه المناطق تدرك هذا الماضي بشكلٍ جيد كما يتضح من طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

خريطة لإمبراطورية تيمورلنك- أرشيف

كان جنكيز خان وخلفاؤه يتطلعون إلى حكم العالم المعروف آنذاك، ومع أنهم لم ينجحوا في ذلك -كما لم تنجح أية قوة أوروبية في هذا الصدد- فقد كانوا يقودون جيوشاً كبيرة، وأسَّسوا إمبراطورياتٍ مترامية الأطراف، انخرطت في الدبلوماسية مع جيرانها وحتى مع دولٍ بعيدة.

استمر النظام الجنكيزي، كما وصفته زاركول، لحوالي 500 عام، (لم يكمل النظام الويستفالي 500 عام حتى اليوم) ومرَّ بثلاث مراحل. امتدت الأولى من عام 1200 إلى 1400، وبدأت بالإمبراطورية المغولية الموحدة التي أسَّسها وقادها جنكيز خان، وبعد تفككها في عام 1260 خلفها في العصر الحديث الصين وإيران وروسيا وأوكرانيا وآسيا الوسطى. وكان التعايش السلمي بين أسلاف هذه الدول الأربع في القرن الرابع عشر بمثابة بداية “العلاقات الدولية الحديثة”، عندما تغلبت مصلحة الدول العقلانية على الانتماء الديني.

أما المرحلة الثانية من النظام الجنكيزي فيضم الإمبراطورية التيمورية، نسبة لتيمور الأعرج أو تيمورلنك الذي عاش بين عامي 1336 و1405 وسلالة مينغ في الصين التي حكمت بين 1368 و1644. وقد صاغ تيمورلنك إمبراطوريته على غرار جنكيز خان، وتزوج إحدى حفيداته. وركز حكام سلالة مينغ كل مواردهم على هزيمة أعدائهم من المغول والأتراك، وكانوا يسعون لخلافة إمبراطورية المغول الكبرى. شأنهم في ذلك كشأن تيمورلنك.

اقرأ أيضاً: عودة الإمبراطوريات.. المنافسة الإقليمية ومستقبل العلاقات الروسية- التركية

المرحلة الثالثة من النظام العالمي التيمورلنكي يضم ملوك الألفية من المغول والعثمانيين والصفويين، وكانوا جميعاً يأملون بأن يحكموا العالم، ونجحوا في غزو مساحاتٍ شاسعة في الهند وتركيا وإيران على التوالي، وشكَّلت إمبراطورياتهم قوة منافسة للقوى الاستعمارية الغربية، إلى أن بدأت هذه الإمبراطوريات الثلاث بالتفكك اعتباراً من عام 1700. واشتركت هذه الإمبراطوريات بطريقة اختيار حكامها التي كانت تقوم على قاعدة أن الأفضل هو الذي يحكم بعد وفاة الحاكم السابق. ولكن في الواقع كان هذا النظام بعيداً عن الديمقراطية التي يبدو عليها، فمن الناحية العملية كان من يسعى للسلطة عليه أن ينتصر في حروبٍ عنيفة مجانية قد تستمر لسنواتٍ ليكتسب سمعة المحارب البطل الذي يهلِّل له الجميع.

وترى زاركول أن الحكام الجنكيزيين عبر القرون قد تشاركوا “رؤية خاصة للعالم بأكمله” وأنشأوا وطوروا “مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية”، وأقاموا نظاماً دبلوماسياً مشابهاً للنظام الويستفالي.

الإمبراطورية العثمانية في أوج توسعها- أرشيف

وفي القسم الثاني من مقالها تعبر هانسن عن استغرابها من أن كتاب زاركول الذي يغطي فترة تاريخية تمتد إلى خمسة قرون ويسرد الأحداث الرئيسية لممالكها، يفتقر إلى تغطية كافية لنواحي الدبلوماسية التي هي موضوع الكتاب الرئيسي. وما يزيد من استغراب هانسن وجود روايتين تفصيليتين لشهود عيان عن زيارات دبلوماسية إلى حكام جنكيزيين معروفتين على نطاقٍ واسع مترجمتين إلى اللغة الإنجليزية.

وتصف هاتان الروايتان كيفية عمل النظام الدبلوماسي الجنكيزي. الزيارة الأولى كانت للراهب الفرنسيسكاني البلجيكي ويليام روبروك الذي قام بزيارة بلاط مونكو حفيد جنكيز خان ليطلب الإذن بالتبشير، ولكن مضيفيه المغوليين استقبلوه كديبلوماسي. وفي أعقاب زيارته كتب تقريراً من 300 صفحة للملك لويس التاسع يصف فيه بالتفصيل كيف تعامل المغول مع الدبلوماسيين، ويرسم صورة واضحة عن الإمبراطورية اللامركزية التي تركت للحكام المحليين سلطة إدارة شؤون مقاطعاتهم.

اقرأ أيضاً: الإمبراطوريات الإسلامية.. مدن الحضارة من مكة إلى دبي-1

وبعد نحو 150 عاماً خاض دبلوماسي إسباني يدعى “روي غونزاليس دي كلافيو” تجربة مشابهة عندما زار تيمور في سمرقند حاملاً رسالة من الملك هنري الثالث، ملك قشتالة، يطلب فيها تشكيل تحالف مع تيمور ضد العثمانيين. وقد عكست زيارة دي كلافيو الصورة نفسها عن إمبراطورية لامركزية يحتفظ فيها الخان بقرارات العلاقة الخارجية، دون أن يفرض سياسات محلية على حكام الأقاليم المختلفة من إمبراطورتيه.

ثم تشير هانسن إلى الفصل الأخير من كتاب زاركول الذي يبحث في النزعة الأوروآسيوية -وهي حركة فكرية ترجع لأواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حددت السوابق غير الأوروبية للأنظمة العالمية التي حكمت أوروبا وآسيا- ويشرح بشكلٍ مفصل كيف رأى المفكرون في اليابان وروسيا وتركيا التأثير الطويل الأمد لحكم المغول على مجتمعاتهم.

لوحة تصور الانتصارات الاستراتيجية على الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب الروسية- التركية.. حيث تم السيطرة على الجزء الشمالي من البحر الأسود (1768- 1774)- “ذا كونفرزيشن”

وترى هانسن أن زاركول محقة في التفصيل بهذا الشأن، فالعديد من المفكرين الروس مثل نيكولاي تروبيتزكوي، وجورج فيرنادسكي، وليف جوميلوف، بحثوا كثيراً في تأثير حكم جنكيز خان لبلادهم، ودعوا القادة الروس المعاصرين لأن يقتدوا به لتوحيد الروس تمهيداً لبناء إمبراطورية جديدة تمتد عبر آسيا وأوروبا.

وقد اكتسب هذا التفكير شعبية كبيرة بعد انهيار الشيوعية، وكثيراً ما تتم مقارنة بوتين بجنكيز خان. ولا شك أن وجهة نظر زاركول محقة في أن التاريخ الكامن وراء الأوروآسيوية يساعد في فهم الأحداث التي تدور في المنطقة التي حكمها المغول في يوم من الأيام.

وعلى الرغم من أن زاركول أظهرت في كتابها المهم كيف أن تاريخ مناطق معينة من العالم قبل عام 1500 يؤثر في الحاضر والمستقبل، فإنها أغفلت أهمية الأحداث التي وقعت قبل ذلك. فعندما تحول الأمير فلاديمير الكبير (الذي يحمل بوتين اسمه) إلى العقيدة الأرثوذوكسية الشرقية حوالي عام 988 كانت عاصمته كييف، واليوم يسعى الرئيس الروسي إلى إقامة إمبراطورية شرقية جديدة تضم قلب الأرثوذوكسية الروسية الذي تشكل في أواخر القرن العاشر.

اقرأ أيضاً: الإمبراطوريات الإسلامية.. مدن الحضارة من مكة إلى دبي 2-2

وتخلص هانسن إلى التأكيد على أهمية كتاب زاركول بالنسبة لقادة الولايات المتحدة الذين يمضون أيامهم في التفكير في التحركات التالية لنظرائهم في أنقرة وبكين وموسكو ونيودلهي وطوكيو. إذ إن دراسة المجتمعات التي كانت تطمح لإقامة نظام دولي قبل عام 1500 يمكنها أن تلقي الكثير من الضوء على سياسات العالم اليوم.

فحكام تلك الأجزاء من العالم يتذكرون تلك المآثر ويسعون إلى إحيائها. ومع ذلك فإن قادة الغرب نادراً ما يفكرون في تواريخ هذه الأجزاء من العالم. لقد حان الوقت لاتباع خطى زاركول، ودراسة تاريخ العديد من المراكز السياسية والاقتصادية خارج أوروبا.

♦أستاذة التاريخ في جامعة يال، ومؤلفة كتاب «عام 1000: عندما ربط المستكشفون أنحاء العالم، وبدأت العولمة».

المصدر: فورين أفيرز

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة