الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربية

الموسيقى التراثية في الدعاية السياسية.. الغناء اليمني نموذجاً

غالباً ما تكون هناك معضلة عندما يتعلق الأمر بالحقوق الفنية.. وفي الحالة اليمنية يبدو المشهد أكثر تعقيداً حيث تستغل الألحانَ اليمنية أحزابٌ سياسية لترويج دعايتها

كيوبوست- منير بن وبر

تربط الموسيقى وفنون الغناء الثقافات والأشخاص وحتى البلدان؛ وهي ضرورية لتشكيل هوية الأفراد والمجتمعات. قد يواجه المهاجرون أحياناً تحديات محاولة دمج فنونهم التقليدية في موطنهم الجديد، أو قد تندمج الفنون المهاجرة بسهولة في ثقافة مجتمع آخر بعد إدخال التعديلات اللازمة من قِبل ذلك المجتمع. ينشأ عن تبادل الثقافات هذا الكثير من الجدل حول الأصل والحقوق. ومع ذلك، هناك اتجاه آخر قوي ينصح الدول بالتعاون في هذا المجال وتطوير الفنون المشتركة كشكل أفضل للتواصل بين الدول والشعوب.

في كتابه المعروف بـ”الأغاني”، وهو مُؤلَف من القرن الرابع الهجري، يحكي أبو الفرج الأصفهاني العديدَ من القصص التي تبيِّن انتقال فنون الغناء بين الأجيال والثقافات الأخرى، وظهور فنون جديدة نتيجة ذلك التبادل المحمود. من تلك الحكايات، تجربة “أبو عثمان سعيد بن مسجح”، الذي عاش في مكة خلال القرنَين الأول والثاني الهجريَّين (السابع والثامن الميلاديَّين).

اقرأ أيضاً: شاب يمني يسعى لحفظ وتطوير فن غنائي تقليدي.. تعرف عليه

يُعد ابن مسجح أحد رواد الغناء العربي، وقد اقتبس ألحانه من غناء الفرس والروم؛ حيث أخذ ما استحسنه من تلك الأغاني والألحان، وحوَّره إلى الذوق العربي، موجداً فناً جديداً، مبتعداً عن كثرة النغمات والنبرات الأعجمية التي لا توافق غناء العرب.

منذ ذلك الحين (القرن الثامن الميلادي) بدأت الموسيقى العربية تتخذ شكلها وأسلوبها المميزَين، وكان المطربون العرب في طليعة تطوير تقنيات وأساليب صوتية جديدة للموسيقى، والتي كان لها تأثير عميق على الغناء والموسيقى امتد حتى إلى أوروبا؛ إذ يُعتقد أن العرب قد أدخلوا الغناء والموسيقى إلى أوروبا خلال فترة التوسع العربي في إسبانيا وصقلية بين القرنَين الثامن والعاشر الميلاديَّين.

لوحة جدارية لمطرب من القرن الثامن الميلادي في قصر الحير الغربي- ويكيبيديا

الفنون اليمنية والحضرمية.. التأثير والتأثر

يقول الباحثان خالد القاسمي ونزار غانم، في كتابهما “جذور الأغنية اليمنية في أعماق الخليج العربي”: إن فن الصوت الخليجي -مثلاً- مشتق أساساً من الأغنية الصنعانية، كما أن التجار، عبر القرون، حملوا معهم النغمات من البصرة والكويت وعمان إلى عدن والمكلا والحديدة، والتي تقع على السواحل الجنوبية والغربية من جنوب جزيرة العرب.

وحسب الباحثَين، يوجد الكثير من الشواهد على التبادل الثقافي والفني بين اليمن ودول الخليج العربي؛ وهو تبادل ناتج عن تشابه الظروف و”الكثير من وحدة الذوق والمطابقة في المتطلبات والمقاييس”، كما أسهم التجار بشكل أساسي في تبادل فنون الغناء والطرب وحتى الرقص الشعبي.

اقرأ أيضاً: كيف نقل الحضارم واليمنيون الموسيقى إلى جنوب شرق آسيا وأوروبا؟

إن الإنسان في حضرموت، جنوب شرق اليمن، يتربى على الفنون منذ الصغر، كما يشير الكثير من المهتمين بالأغاني التراثية، وذلك من خلال معايشة الاحتفالات الشعبية والأعراس التي تؤدَّى فيها الأغاني والرقصات الشعبية؛ بل وحتى جلسات الذكر التي تكثر فيها الأناشيد والموشحات الدينية، وكذلك الأهازيج الشعبية التي يؤديها الحِرفيون. وعندما هاجر الإنسان من حضرموت، نقل معه تلك الثقافة الفنية الغنية.

ولم يقتصر نقل الحضارم على فنون الغناء فقط؛ فكما يقول فريد العطاس في كتابه “الحضارم في المحيط الهندي”، فقد كان للهجرات الحضرمية إلى جنوب شرق آسيا دور مهم في انتقال وتكييف الآلات الموسيقية الحضرمية؛ خصوصاً “القنبوس”، وهو أحد أنواع العود. ومن أكثر الإسهامات الحضرمية كان نقل الزفين والرقص والمراويس (من أنواع الطبول) إلى الموسيقى الملايوية.

غلاف كتاب “جذور الأغنية اليمنية في أعماق الخليج”

خلال تاريخ طويل من الهجرات والتجارة، أسهم اليمنيون أيضاً في نقل الفنون والآداب إلى أوروبا من خلال الأندلس، وذلك كما تشير إليه الدكتورة في مجال التاريخ الإسلامي وحضارته، سناء الترب. وكما تذكر مصادر أخرى أيضاً، فإن الشعراء المتجولين أو الشعراء الموسيقيين (التروبادور) الذين اشتهروا في أوروبا العصور الوسطى، استمدوا أشكالهم الأدبية والموسيقية من الثقافة العربية عبر الأندلس.

تمنحنا هذه الخلفية فكرة عن حجم التبادل الكبير بين اليمن والعالم العربي، أو مع شعوب أبعد من حدود جزيرة العرب عبر قرون من الزمن؛ الأمر الذي يؤكد أن الفنون والثقافات لا تعرف الحدود، وأنها قابلة للتغيير والتطوير بشكل يصعب السيطرة عليه.

جدلية الأصل والحقوق

غالباً ما تكون هناك معضلة عندما يتعلق الأمر بالحقوق الفنية للمطربين التقليديين أو الفنون التراثية الخاصة بمجتمع ما. من ناحية، يريد المغنون -أو المجتمعات- الحفاظ على تكامل شكل فنهم ونسبه إلى جذوره وفاءً له وحفاظاً على هويتهم. من ناحية أخرى، يريدون أيضاً الحصول على التقدير والشهرة التي تأتي مع النجاح التجاري والانتشار على نطاق واسع.

رقصة العدة في حضرموت- “مندب نيوز”

هذه المعضلة ليست جديدة، وليست خاصة بمجتمع دون آخر. على سبيل المثال، في القرن الثامن عشر نشأ في أسكتلندا جدال حول ما إذا كان ينبغي السماح بتكييف الموسيقى التراثية لإحدى القرى لاستخدامها في الفرق العسكرية أم لا. رأى البعض أن موسيقاهم يجب أن تظل نقية وغير ممزوجة بأنواع أخرى، بينما رأى آخرون إمكانية زيادة الشهرة والانتشار إذا سمحوا باستخدام موسيقاهم في الفرق العسكرية.

بشكل عام، يدور جدل الحقوق الفنية حول محورَين أساسيَّين؛ من ناحية هناك الفنانون الذين يشعرون أنه يجب أن يكونوا قادرين على امتلاك فنهم والتحكم في كيفية استخدامه. ومن ناحية أخرى، هناك مَن يعتقد أن فنون الغناء التقليدية يجب أن تكون متاحة للجميع، وأنه لا ينبغي لأحد أن يمتلكها.

اقرأ أيضاً: الجانب البصري في الغناء والموسيقى اليمنية

إن الموازنة في الاستجابة الصحيحة لكلتا وجهتَي النظر صعبة، ومع ذلك هناك بعض الحلول التي يمكن اتباعها من قِبل الأفراد والمجتمعات والدول؛ مثل إصدار الموسيقى بموجب ترخيص المشاع الإبداعي أو العمل مع منظمات حقوق الملكية.

دور المرونة والشعبية

من بين كل أنواع الأغاني، تعد الأغنية الشعبية تقريباً الأكثر عرضةً للتغيير بسبب شيوعها الكبير في المجتمع. تتعرض الأغاني الشعبية إلى تغييرات مستمرة لتتناسب مع مرحلة راهنة محددة؛ يمكن أن يكون شكل التغيير إضافة موسيقية أو استبدالاً للنص.

تتسم الأغنية الشعبية بعدة صفات؛ منها أنها تنبع من المجتمع نفسه، وانتقالها عبر الرواية الشفهية والمرونة ومجهولية المؤلف، وذلك كما يقول مؤلفا كتاب “جذور الأغنية اليمنية في أعماق الخليج”. هذه الصفات تجعل من الأغنية الشعبية عرضة إلى التبنِّي من قِبل مجتمعات أخرى، وعرضة إلى التغيير، مع الحفاظ بشكل عام على روحها الخاصة.

الفنان محمد محسن عطروش الذي غنَّى الأغنية الشهيرة “برع يا استعمار من أرض الأحرار”- أرشيف

هناك أيضاً الأغنية الوطنية، التي تعبر عن حب الوطن وتتغنى بأمجاده، والأغنية القومية التي تدعو إلى الثورة والوحدة وغيرهما من المفاهيم القومية. لطالما كان لهذا اللون -منذ الثورات العربية ضد الوجود البريطاني منتصف القرن الماضي- دور في حركات التحرر العربي في الخليج والجزيرة العربية.

استغلال الأغاني لتحقيق أهداف فكرية وسياسية

أعادت ثورات ما يُعرف بـ”الربيع العربي” الاستفادة من قوة الأغنية الشعبية والوطنية والقومية في تحريك مشاعر الجماهير، والتعبير عن همومهم. وبالطبع، الترويج لمبادئ وأهداف اللاعبين الأساسيين في تلك الثورات. تم إيجاد أشكال جديدة لتلك الأغاني لتتلاءم مع الذوق الشائع أو الهدف؛ كالتحريض مثلاً، من خلال إجراء تعديلات أو إضافات في الموسيقى والنص.

يمكن ملاحظة مثال على ذلك الاستغلال بشكل خاص في أغاني ثورة الشباب اليمنية وما تلاها؛ حيث قام الفاعلون الأساسيون في الثورة، مثل حزب التجمع اليمني للإصلاح وجماعة أنصار الله (الحوثيين) بتعديل الكثير من الأغاني اليمنية واستغلالها كأداة للدعاية؛ الأمر الذي أثار استهجان الكثير من الفنانين والمهتمين.

اقرأ أيضاً: أثر البيئة الإسلامية والتصوف في شعراء حضرموت

مثال على ذلك إنتاج أغنية “عاهدنا الله وكتاب الله ما عد نقبل علي عبدالله” من قِبل “الإصلاح”، والتي تدعو إلى الإطاحة بالرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، وتمجد الثورة؛ وهي أغنية تم تغيير نصها وإضافة موسيقى حديثة لها بناءً على الأغنية الشهيرة “عاهدنا الله وكتاب الله والثورة وعلي عبدالله” للفرقة المعروفة باسم الثلاثة الكوكباني؛ وهي فرقة شعبية يمنية اشتهرت منذ سبعينيات القرن الماضي بإثراء الفن اليمني من خلال تقديم نحو 1300 أغنية؛ منها 200 أغنية وطنية. وتماماً مثل “الإصلاح”، أصدر الحوثيون العديد من الأغاني (الزوامل) المحرضة على الجهاد وتمجيد جبهات القتال.

إن حفظ التراث وضمان استمراره يقعان بشكل أساسي على عاتق المجتمع الممارس نفسه، وهو وحده مَن يقرر الحفاظ على تراثه أو تركه. تتحمل الحكومات أيضاً مسؤولية صون تراث الجماعات التي تسكن أراضيها -عند رغبة الجماعة- ونشره بشكل عالمي لتحقيق تواصل أفضل وتخليد روائعها الفنية ونيل مكانة بارزة لهويتها في المجتمع الدولي؛ لكن المجتمع الدولي في نهاية المطاف لن يتقبل سوى الثقافات المسالمة التي تتوافق مع حقوق الإنسان ومبادئ التعايش والسلم المحلي والدولي.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

منير بن وبر

باحث في العلاقات الدولية وشؤون اليمن والخليج

مقالات ذات صلة