الواجهة الرئيسيةشؤون دولية

المحافظة المعتدلة: رؤية بوتين للنظام العالمي في اجتماع نادي فالداي للحوار الروسي

كيوبوست

انعقد الاجتماع الثامن عشر لـ”نادي فالداي للحوار”، وهو مركز أبحاث روسي، في مدينة سوتشي الروسية خلال الفترة الممتدة من 18 حتى 21 أكتوبر تحت عنوان “التغيير العالمي في القرن الحادي والعشرين.. الفرد والقيم والدولة”. وتأسس النادي في عام 2004؛ حيث يضم خبراء وسياسيين وشخصيات عامة من جميع أنحاء العالم، والذين يتباحثون خلاله القضايا الملحة[1]. كما أن الاجتماع الثامن عشر اختتم أعماله بكلمة وحوار للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي قدم فيه رؤيته وتقييمه للنظام العالمي الجديد، وموقف روسيا من الملفات الدولية الرئيسية.

اقرأ أيضاً: مستنداً إلى التاريخ.. بوتين يكتب: الروس والأوكرانيون كانوا شعباً واحداً (1-3)

ويعكس عنوان المؤتمر تركيزه على التغيرات التي يشهدها النظام الدولي، والذي وصفه الرئيس الروسي بأنه يشهد لحظة انهيار بنيوي؛ أي حدوث تحول في بنية النظام الدولي من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب. ويُلاحظ أن حضور الرئيس الروسي الاجتماعَ، وإدلاءه بعدد من التصريحات خلال جلساته، يزيدان من أهميته في استشراف توجهات ورؤية القيادة الروسية للنظام الدولي في الفترة الحالية؛ ويمكن توضيح رؤية بوتين في التالي:

  • تراجع الهيمنة الغربية: أكد بوتين أن الإنسانية دخلت في عهد جديد منذ ثلاثة عقود (1990- 2020)، وأن الهيمنة الغربية بدأت بالتراجع أمام نظام متعدد الأقطاب. وعد بوتين أن هذا التطور سوف ينعكس إيجاباً على النظام الدولي؛ إذ إنه يفسح المجال لنظام أكثر تنوعاً، كما اعتبر أن “توازن القوى المتغير يفترض إعادة توزيع الحصص لصالح تلك البلدان النامية التي تشعر حتى الآن أنها مهملة”[2]، أي أن تراجع هيمنة الولايات المتحدة سوف يترتب عليه ظهور قوى أخرى، ويفتح الباب أمام القوى النامية لتنويع علاقاتها مع هذه القوى على نحو يحد من تحكم قوة واحدة فيها.
– بوتين؛ الهيمنة الغربية بدأت بالتراجع أمام نظام متعدد الأقطاب- “sputnik”

كما وضحت الانعكاسات الإيجابية لتراجع الغرب ضمناً في إشارة بوتين إلى أن تأثير العقوبات الأوروبية على موسكو كان إيجابياً؛ إذ إنه دفعها للبحث عن بدائل، والرد بشكل مماثل على الدول الأوروبية، وهو ما عاد في النهاية بالإيجاب على موسكو، وهو ما يعد مؤشراً على تراجع نفوذ الغرب، وتوفر بدائل يمكن اللجوء إليها[3].

  • تراجع مصداقية واشنطن بعد أفغانستان: أكد بوتين أن الرئيس الأمريكي فعل الشيء الصحيح بانسحابه من أفغانستان، غير أنه أوضح في الوقت نفسه أن طريقة الانسحاب سوف تنعكس سلباً على الثقة تجاه الولايات المتحدة؛ لا سيما من قِبل البلدان التي تسترشد بالولايات المتحدة كحليف[4]، وهو الأمر الذي يعني أن عدداً أكبر من الدول النامية سوف يعيد النظر في تحالفاته مع الولايات المتحدة، وينفتح على القوى الأخرى الصاعدة؛ لا سيما روسيا والصين.

اقرأ أيضاً: النظام قبل السلام.. دروس مستلهمة من دبلوماسية كيسنجر في الشرق الأوسط

ولعل تراجع الدور الأمريكي- الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي، وسعي روسيا والصين للتمدد هناك، وفي إفريقيا عموماً، بالإضافة إلى لجوء بعض الدول إلى تغيير تحالفاتها من فرنسا إلى روسيا على غرار مالي، تعني أن موسكو تنظر إلى هذه التحركات باعتبارها تصب في النهاية لصالح الدولة النامية.

  • تعزيز القيم المحافظة: ارتبط نظام القطبية الأحادية الذي ساد العالم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، في بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين وحتى العقد الثاني من الألفية الثانية، بالقيم الليبرالية الغربية، والتي اعتبرتها واشنطن القيم التي يجب أن تقتضي بها دول العالم، بغض النظر عن اختلافها الثقافي، أو القيمي.

ولذا، انتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في الاجتماع، القيم الليبرالية الغربية، وأشاد بـ”القيم المحافظة المعتدلة”، ولا تعد هذه أول مرة يهاجم فيها بوتين النظام الليبرالي؛ ففي عام 2019، على هامش قمة مجموعة العشرين، اعتبر بوتين أن الفكر الليبرالي عفَّى عليه الزمن، وبات في تناقض مع مصالح الغالبية العظمى من المواطنين.

انتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في الاجتماع، القيم الليبرالية الغربية- “لقطة شاشةRT”

وأوضح بوتين، في 2019، أن السياسات الليبرالية الغربية حول حرية مثليي الجنس والتوجه الجنسي تُفرض على غالبية غير راغبة في ذلك؛ خصوصاً الأطفال، مندداً بالسياسات الهادفة إلى تشجيع التسامح الجنسي. وتابع الرئيس الروسي “يتحدثون عن ستة أو خمسة أجناس.. متحولون جنسياً ومغايرو الهوية الجنسية، وأنا لا أفهم حتى ما تعنيه هذه التسميات”[5].

ولا شك أن هجوم بوتين على الليبرالية يرتبط في جانب منه بتداعيات هذه القيم على الديمغرافية الروسية؛ إذ إن انتشار المثلية في المجتمع الروسي، التي يروج لها الغرب، سوف تنذر بتسارع تراجع عدد سكان الاتحاد الروسي؛ فقد أشارت هيئة الإحصاءات الروسية “روسستات” إلى أن التقديرات الأولية لعدد سكان روسيا بلغت 146 مليون نسمة في 1 يناير 2021، أي أنه فقد أكثر من 510 آلاف نسمة خلال عام 2020. ويعد هذا الانخفاض الأكبر الذي تشهده روسيا منذ 15 عاماً[6]. ولذلك يدافع بوتين عن القيم الروحية والتقاليد التاريخية، وذلك تحت مسمى “المحافظة المعتدلة”، مؤكداً أن روسيا، تسعى مثل دول أوروبا الشمالية، لبناء دولة اجتماعية تلبي احتياجات المواطن.

ولعل ما يؤكد ربط بوتين بين الثقافة والأمن القومي الروسي، هو إصداره استراتيجية جديدة للأمن القومي الروسي؛ لحماية بلاده من نفوذ الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، والتي صدرت في منتصف 2021؛ إذ أكد فيها أن “تغريب الثقافة يزيد من خطر فقدان الاتحاد الروسي سيادته الثقافية”، حيث أشارت إلى “تعرض القيم الروحية والأخلاقية والثقافية والتاريخية التقليدية لروسيا إلى هجوم نشط من جانب الولايات المتحدة وحلفائها”.

اقرأ أيضاً: لماذا تراجعت فرنسا عن سحب قواتها من منطقة الساحل؟

وأشارت الوثيقة إلى بُعد آخر مهدد للأمن القومي الروسي؛ وهو تركيز الليبرالية على الحرية الشخصية بشكل مفرط، وما يصاحب ذلك من الترويج لانعدام الأخلاق والأنانية والعنف والاستهلاك، كما يجري تقنين استخدام المخدرات على نحو يخالف دورة الحياة الطبيعية[7].

  • رفض التحالفات العسكرية المضادة لواشنطن: أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 21 سبتمبر، في سوتشي على هامش الاجتماع، أن العلاقات الروسية- الصينية ليست موجهة ضد أي طرف، في إشارة إلى الولايات المتحدة، كما أنه اعتبر أن صداقة مع الصين تصب في مصلحة بعضنا البعض؛ أي أنها علاقات مصلحية تحقق مصالح للطرفَين.

كما أوضح بوتين أنه ليست هناك نية لتأسيس تحالف عسكري بين روسيا والصين، على غرار حلف الناتو، والذي يشكِّل تحالفاً عسكرياً مغلقاً[8]، وهو بذلك ينتقد واشنطن الغرب، والذي يسعى لحصار روسيا، عبر مد نفوذه إلى الدول المجاورة لروسيا؛ مثل أوكرانيا.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الصيني شي جين بينغ في روسيا – “رويترز”

وصرَّح بوتين لاجتماع “فالداي للحوار” بأن “العضوية الرسمية لأوكرانيا في الناتو قد لا تتم؛ لكن التطوير العسكري للمنطقة جار بالفعل، وهذا يشكِّل تهديداً حقيقياً لروسياً؛ وهو ما تدركه موسكو جيداً، وهو ما يعني أن موسكو سوف تتجه للرد عليه[9].

وتوضح مثل هذه التصريحات توجهات الرئيس الروسي، والذي يبقى منفتحاً على التوصل إلى تفاهمات مع واشنطن حول القضايا الخلافية، الإقليمية والدولية؛ خصوصاً مع تأكيده أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بدت مصممة على إحياء العلاقات مع روسيا في لقاء جنيف، والتي تحتضن حوار الاستقرار الاستراتيجي الثنائي بين البلدين[10].

وكشف بوتين أن لقاء جنيف مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، كان مثمراً بشكل عام، وخلق انطباعاً بأن واشنطن تسعى لبناء العلاقات مع موسكو وإحيائها بطريقة ما في بعض القضايا الحيوية، غير أنه أكد أن نطاق القضايا التي تم الاتفاق عليها لم يكن واسعاً، وأقر كذلك بحدوث انتكاسات، مشيراً إلى أنها خطوة واحدة إلى الأمام، وخطوتان إلى الوراء، وهو ما يشير إلى حرص روسيا على الوصول إلى تسوية دبلوماسية للقضايا العالقة[11]؛ خصوصاً في سوريا وأوكرانيا.

اقرأ أيضاً:  بوتين يكتب: أوكرانيا الحديثة نتاج خالص للحقبة السوفييتية (2-3)

  • الحفاظ على مجلس الأمن وإصلاحه: دافع بوتين عن منظمة الأمم المتحدة باعتبارها “تحمل النزعة المحافظة على العلاقات الدولية”. وفي حين اعترف أنها تتعرض إلى انتقادات كثيرة بسبب عدم قدرتها على التكيف، فإنه أرجع ذلك إلى سياسات أعضائها؛ ولكنه أكد في الوقت ذاته أنه من الواجب الحفاظ على هذا الصرح من خلال إصلاحه.

ودافع بوتين عن حق النقض، معتبراً أن أية محاولة لإلغائه سوف تعني نهاية المنظمة، وهو أمر منطقي، كما أنه رفض هجوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على المنظمة، وأكد أنه في حين أن تمتُّع خمس دول بحق النقض يعكس توازن القوى السائد في الحرب العالمية الثانية، فإنه في الوقت ذاته اعترف بأن هناك دولاً أخرى يجب أن تمثُل فيه، مثل الهند وجنوب إفريقيا[12].  

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان – أرشيف
  • تطويع شركة فاجنر الخاصة: أكد بوتين أن الشركات العسكرية الخاصة المرتبطة بروسيا قد تكون موجودة في مالي؛ لكنه أكد أن هذه الشركات لا ترتبط بالحكومة الروسية بشكل مباشر، ولا تعكس مصالحها، وفقاً له؛ أي أن وجودها لا يستند إلى تعليمات الحكومة الروسية، غير أنه في المقابل أكد أنه إذا كان تدخلها يتعارض مع مصالح الدولة الروسية، وهو ما يحدث في بعض الحالات، فإن الحكومة الروسية تتدخل وتحجمها.

وعلى الرغم من مبالغة بوتين في تقدير استقلالية الشركات العسكرية الخاصة عن الكرملين؛ فإنه يمكن القول إن تحركاتها العامة تخدم في النهاية المصالح الخارجية الروسية، كما يتضح في تدخلها في ليبيا، أو إفريقيا الوسطى، أو مالي. ومن جهة أخرى، تتمتع الدولة الروسية بالقدرة التامة على ضبط تحركاتها إذا ما تجاوزت الأطر المرسومة لها.

اقرأ أيضاً: روسيا ترتب أوراقها مع قادة الخليج وتعيد صياغة التحالفات

وفي الختام، قدم بوتين رؤيته للنظام الدولي، والذي بات، وفقاً له، نظاماً متعدد القطبية، يتراجع فيه نفوذ ودور الغرب، لصالح قوى أخرى غير أوروبية. كما أوضح أن القيم الليبرالية الغربية في طريقها هي الأخرى إلى التراجع لصالح القيم “المحافظة المعتدلة”. وعبَّر كذلك عن نهج روسيا في إدارة العلاقات الدولية، والقائم على فتح الباب أمام الحوار مع واشنطن وعدم الانجرار إلى تحالف عسكري مع الصين ضد واشنطن؛ بسبب تصرفاتها في أوكرانيا، إلى جانب رؤيته ضرورة إصلاح مجلس الأمن.  

[1]) بوتين: الشراكة الروسية- الصينية ليست موجهة ضد أية دولة أخرى، زين هاو، 22 أكتوبر 2021، https://bit.ly/2ZbhaDH

[2]) الكرملين لـ”سبوتنيك”: خطاب بوتين في منتدى فالداي لن يؤثر على علاقتنا بالغرب، سبوتنيك، 22 أكتوبر 2021، https://bit.ly/2ZaJxRR

[3]) Putin speaks on foreign agents, his achievements, Taliban at Valdai Club session, TASS Russian News Agency, October 22, 2021, https://bit.ly/3C8dhNX

[4]) بوتين: الرئيس الأمريكي فعل الشيء الصحيح بسحب القوات من أفغانستان، الأهرام، 22 أكتوبر 2021، https://bit.ly/3GgoRcn

[5]) بوتين يشن هجوماً على الليبرالية الغربية خلال قمة مجموعة العشرين، فرانس 24، 29 يونيو 2019، https://bit.ly/3joOQnR

[6]) أكبر انخفاض في عدد سكان روسيا منذ 15 عاماً، وكالة العين الإخبارية، 28 يناير 2021، https://bit.ly/3aZ0e5z

[7]) بوتين يوقع على وثيقة استراتيجية جديدة لمقاومة الضغوط من الغرب، الأهرام، 4 يوليو 2021، https://bit.ly/2XDeqxT

[8]) بوتين: الشراكة الروسية- الصينية ليست موجهة ضد أية دولة أخرى، مرجع سابق.

[9]) Vladimir Soldatkin and Gabrielle Tétrault-Farber, Putin says Western military backing of Ukraine threatens Russia, Reuters, October 21, 2021, https://reut.rs/3pqM1qt

[10]) بوتين: هيمنة الغرب تتراجع أمام تعدد الأقطاب، روسيا اليوم، 21 أكتوبر 2021، https://bit.ly/3vI33S4

[11]) Putin speaks on foreign agents, his achievements, Taliban at Valdai Club session, TASS Russian News Agency, October 22, 2021, https://bit.ly/3C8dhNX

[12]) Henry Meyer, Putin defends Security Council veto, assails Western liberalism, Bloomberg News, October 21, 2021, https://bit.ly/3B8L1cL

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة