الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
الليبراليون الجدد ذهبوا بعيداً جداً!
أستاذ العلوم السياسية فرانسيس فوكوياما: نحن بحاجة الآن إلى مزيدٍ من السياسات الديمقراطية الاجتماعية

كيوبوست- ترجمات
أجرى سيرجيو فانخول، من صحيفة “إل باييس” الإسبانية، حواراً مع أستاذ العلوم السياسية فرانسيس فوكوياما الذي اكتسب شهرة عالمية بعد إعلانه عن “نهاية التاريخ” عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، ونهاية الحرب الباردة.
حول كتابه الجديد «الليبرالية وسخطها» الذي يفنِّد فيه التهديدات الجديدة التي تواجه النموذج الليبرالي الكلاسيكي.. جاء هذا الحوار:
* عندما نتحدث عن الليبرالية فإننا عادة ما نربطها بيمين الوسط، مع أنها، إذا ما عُدنا بالتفكير إلى الثورة الفرنسية، كانت مرتبطة أكثر باليسار؟
– لديّ تعريف واسع جداً لليبرالية. بالنسبة لأوروبا أنت محق، فهي مرتبطة بيمين الوسط. بينما في الولايات المتحدة نراها مرتبطة باليسار. أنا أرى أن الليبرالية هي عقيدة تحمي حقوق الأفراد، وتحد من سلطة الدولة. ويمكنها أن تكون في اليمين أو اليسار في المفهوم الاقتصادي. والمهم هو سيادة القانون كأساس للمجتمع.
اقرأ أيضًا: فرانسيس فوكوياما يكتب: الجائحة والنظام السياسي
* كيف أدَّت الليبرالية إلى الليبرالية الجديدة التي تنتقدها؟
– أعتقد أنه كان هنالك إفراط في التنظيم، وتدخل الدولة في الاقتصاد في فترة السبعينيات، وكان هنالك سياسيون مثل رونالد ريغان ومارغريت تاتشر، ممن حاولوا إلغاء بعض تلك اللوائح. وقد لاقوا دعماً في هذا التوجه من قبل اقتصاديين بارزين للغاية. ولكن المشكلة كانت في أنهم ذهبوا بعيداً جداً، وحاولوا تقويض كل أشكال أنشطة الدولة، بما في ذلك الضرورية منها. وبذلك انتهى بنا الأمر إلى “العولمة” التي زادت من عدم المساواة وعدم الاستقرار في النظام المالي العالمي. وبالطبع أدى ذلك إلى رد فعل عنيف ظهر عند اليمين واليسار، وهذا ما يفسر ما وصلنا إليه اليوم.
* أحياناً نسمع تبريراتٍ لعدم المساواة الاقتصادية.. إلى أي مدى ترى الأمرَ مبرراً؟
– أعتقد أنه يجب أن يكون هنالك بعض التوازن بين الحاجة للنمو الاقتصادي، والحاجة إلى مجتمع نحمي أفراده على الأقل من أسوأ جوانب اقتصاد السوق.
* ولكن عدم المساواة أصبح مشكلةً في الوقت الحالي؟!
– لا أعتقد أنه بإمكانك التعميم. فأمريكا اللاتينية قد شهدت درجة كبيرة من عدم المساواة. والكثير من السياسات الشعبوية التي نراها في دول مثل الأرجنتين أو فنزويلا هي نتيجة لذلك. وغياب المساواة يؤدي إلى نتائج اقتصادية سيئة وسياسات سيئة أيضاً بسبب الاستقطاب الشديد بين اليسار الشعبوي، واليمين المحافظ المتشدد.
وفي أماكن أخرى من العالم يكون الأمر مختلفاً. ففي ألمانيا وهولندا والدول الاسكندنافية، مثلاً، لا نرى مثل هذه السياسات المستقطبة، وهنالك تبادل بين يسار الوسط ويمين الوسط. وهو أمر صحي على ما أعتقد.

* بعد قراءة كتابك.. تولد لديّ انطباع بأنك تحولت باتجاه رؤية ديمقراطية اجتماعية أوسع؟
– لم أكن أبداً معارضاً للرؤية الديمقراطية الاجتماعية. أعتقد أن الأمر يتوقف على الفترة التاريخية، ومقدار تدخل الدولة. في ستينيات القرن الماضي، عانت العديد من الدول الديمقراطية الاجتماعية من نمو منخفض وتضخم مرتفع، وكان من الضروري التراجع. وقد خفضت تلك الدول معدلات الضرائب، ومستوى تدخل الدولة، الأمر الذي أدى إلى تحسن إنتاجية تلك المجتمعات. ولكن في الوقت الحالي، أعتقد أننا بحاجةٍ إلى المزيد من التوجه الديمقراطي الاجتماعي، وخاصة في الولايات المتحدة، حيث ما زلنا لا نمتلك نظاماً شاملاً للرعاية الصحية.
* في إسبانيا، عندما يتحدث الناس عن سياسات الهوية؛ مثل النسوية، وحركات المثليين، فإنهم يتعرضون للانتقاد بدعوى أنهم “شموليون”. في كتابك يبدو أن لديهم جذوراً في الليبرالية الكلاسيكية والحفاظ على الحقوق الفردية؟
– تنشأ سياسات الهوية لأن بعض المجموعات تعاني من التمييز أو التهميش. ومن المشروع تماماً استخدام الهوية كوسيلة للتعبئة الاجتماعية للرد على التهميش. أنا أعتقد أن سياسات الهوية تصبح إشكالية في المجتمع الليبرالي عندما تصبح الهوية الثابتة للفرد أهم ما يميز الفرد، وعندما يتم الحكم على الأفراد على أساس انتمائهم لمجموعةٍ ما، وليس على أساس إنجازاتهم الشخصية. هنالك نسخة مقبولة من سياسات الهوية، ولكنني أعتقد أنها يمكن أن تكون إشكالية إلى حدٍّ كبير.
اقرأ أيضًا: موت روث بادر غينسبورغ.. حداد على أيقونة العدالة الليبرالية في الولايات المتحدة الأمريكية
* كثيراً ما تتهم هذه الجماعات بنشر “ثقافة الإلغاء”. هل هنالك مثل هذه الثقافة؟
– في أجزاء معينة من الولايات المتحدة، وأماكن أخرى من العالم، توجد سياسات تقدمية غير متسامحة، إلى حدٍّ كبير، لا تقبل بالتعبير عن وجهات النظر البديلة. وهنا يتعرض الأفراد للإلغاء ويطردون من وظائفهم أو يتم توبيخهم. ويصبح الأمر مشكلة أكبر عندما يحدث في الجامعات. فالجامعات مكرسة لحرية الأفكار والتعبير. وهذا اتجاه خطير يروج له نوع معين من سياسات الهوية.
* هنالك حالات مشابهة في إسبانيا، ولكن من غير الواضح ما إذا كان ينبغي تصنيفها على أنها جزء من “ثقافة”؟
– هي ليست ثقافة عامة، أعتقد أنها أكثر وضوحاً في الولايات المتحدة. فالأمر يتعلق إلى حدٍّ ما بتاريخنا العرقي، حيث كان التمييز العرقي أول وأهم قضية حقوق مدنية. لكنني أتفق معك أنها في أنه ليس من الواضح ما إذا كانت ثقافة عامة، فهي تظهر بوضوح في مؤسسات النخبة، مثل الجامعات أو هوليوود أو وسائل الإعلام التقليدية، وليس في المجتمع ككل.

* كيف أثرت شبكة الإنترنت على طريقة كلامنا في السياسة؟
– أتاحت الإنترنت إمكانية تضخيم أصوات معينة على نحوٍ غير مسبوق. ولكنها تمكنت أيضاً من إسكات بعض الأصوات لأن وسائل التواصل الاجتماعي هي الوسيلة الأساسية للتواصل بشؤون السياسة هذه الأيام. وأعتقد أن كلا التأثيرين يمثل إشكالية بالنسبة لحرية التعبير.
* هل نعيش أزمة ثقة سببتها وسائل التواصل الاجتماعي؟
– الثقة في المؤسسات تتراجع منذ خمسين عاماً، وقد تسارع هذا التراجع بسبب وجود قوى غير ديمقراطية تعمل على تقويض هذه الثقة. فما فعله الروس، على سبيل المثال، في وسائل التواصل لم يكن نشر وجهة نظرهم، بل كان تقويضاً لثقة الناس في مؤسساتهم الديمقراطية.

* الليبرالية تدافع عن استقلالية الفرد. إلى أي مدى يجب أن تكون المجتمعات فردية؟
– يجب على المجتمعات أن تتحلى بقيمٍ اجتماعية مشتركة. لا يمكنك التواصل إذا لم تكن لديك لغة مشتركة، ومجموعة مشتركة من النقاط المرجعية الثقافية التي يمكنك من خلالها التفاعل مع الآخرين. وعندما تصل “الفردية” إلى الحد الذي يصنع فيه الناس أنظمة قيمهم الخاصة أو يعيشون في مجتمعات ثقافية مغلقة، حيث لا يمكنهم التواصل أو التفاعل، يكون هنالك درجة مفرطة من الفردية.
* كيف نحقق التوازن؟
– أعتقد أنه عليك الاعتماد على حقيقة أن البشر مخلوقات اجتماعية تتمتع بغرائز اجتماعية قوية. وعلينا أن نوازن بين الفردية المفرطة من جهة، والتوافق المفرط مع المجتمع من جهة أخرى.
اقرأ أيضاً: شركات التكنولوجيا العملاقة ومكافحة الاحتكار ومستقبل الليبرالية السياسية
* إلى أي حد يمكن تقييد الحرية الفردية، التي يقدسها الليبراليون؟
– ينبغي للمجتمعات الليبرالية أن تكون قادرة على الحفاظ على مؤسساتها الخاصة، عندما يصل حزب معادٍ للديمقراطية أو لليبرالية إلى السلطة مثلاً، فإنه سوف يقيد حرية التعبير، ولن يسمح بإجراء انتخابات حرة، وما إلى ذلك. وهنا يكون للمجتمع الليبرالي الحق في الدفاع عن نفسه. وهذا الأمر ينطبق على الأحزاب الإسلامية، كجماعة الإخوان المسلمين في مصر التي لقيت رد فعل قوياً من المجتمع.
* هل هنالك خطر من الوصول إلى عالم غير ليبرالي؟
– هنالك نوعان من التهديدات في الوقت الراهن. التهديد الأخضر وهو عودة القومية الشعبوية التي يمثلها أردوغان، ومودي، وترامب. وكل هؤلاء تم انتخابهم بشكلٍ قانوني، ولكنهم استخدموا شرعيتهم لتقويض المؤسسات الليبرالية، والقضاء المستقل، ووسائل الإعلام المعارضة، ويسخرون نظام العدالة في بلادهم لملاحقة خصومهم السياسيين.
وهنالك أيضاً تهديد آخر قادم من اليسار، وهو ينطبق في الغالب على البيئات الثقافية في أوروبا وأمريكا الشمالية. ولكن الأمر مختلف في أمريكا اللاتينية، حيث يوجد يسار شعبوي يسلك سلوكاً سلطوياً مشابهاً في فنزويلا ونيكاراغوا.
اقرأ أيضًا: توني بلير يحذر من الشعبوية وتجاهل الحلفاء والجنون السياسي!
* هل “الليبرالية” و”الديمقراطية” متلازمتان دائماً؟
– إنهما حليفتان، تدعم إحداهما الأخرى، ولكن ليس من الضروري أن تكونا موجودتين معاً في كل الأوقات. فهنالك مجتمعات ديمقراطية غير ليبرالية، ومجتمعات ليبرالية غير ديمقراطية، مثل “سنغافورة” التي توجد فيها حريات فردية، ولكن ليس فيها انتخابات.
* ما رأيك في ميخائيل غورباتشوف الذي توفي مؤخراً؟
– لقد ترك إرثاً بالغ التنوع. أعتقد أنه بقي شيوعياً حتى النهاية، ولم يكن يرغب بأن ينهار الاتحاد السوفييتي بتلك الطريقة. ولكن بين الشيوعيين، كانت لديه ميول ليبرالية للغاية. كانت عملية الإصلاح التي أطلقها بمثابة دعوة للمزيد من حرية التعبير، الأمر الذي انتهى به المطاف إلى تقويض أسس الاتحاد السوفييتي السابق. فعندما أتيحت حرية التعبير كان ما قاله الناس في العديد من الجمهوريات السوفييتية “أريد أن تنفصل بلادي عن الاتحاد السوفييتي”. ومع أن هذا الأمر لم يعجب غورباتشوف على الإطلاق، فلا بد لنا من الاعتراف بأنه لولا غورباتشوف لكانت العديد من تلك الجمهوريات ترزح تحت الديكتاتورية السوفييتية إلى الآن.

* في التسعينيات تكلمت عن “نهاية التاريخ”.. واليوم نحن نتكلم أكثر عن “نهاية العالم”؟
– أنا لم أقل أبداً إن الديمقراطية الليبرالية سوف تنتصر في كل مكان، أو إنها ستصبح النظام الذي سينهي كل مشاكلنا. فمشكلة تغير المناخ، على سبيل المثال، كانت الحكومات الديمقراطية أكثر كفاءة في الحدِّ من الانبعاثات، بينما لا يزال الاقتصاد الصيني مثلاً يعتمد على الوقود الأحفوري.
* كيف ترى مستقبل الحضارة؟
– أنا متفائل من حيث إنني أعتقد أنه قد تم إحراز تقدم كبير. وتاريخياً، أذا ما أخذنا فترة تاريخية طويلة بعين الاعتبار، امتلك البشر قدرة كبيرة على التكيف، وعلى تشكيل عالمهم.
المصدر: إل باييس