الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
القدرة على الفعل.. ميزات أمريكا وفرص بايدن

كيوبوست- ترجمات
سامانثا باور♦
أثارت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت، جدلاً كبيراً قبل عشرين عاماً حين قالت إن الولايات المتحدة دولة “لا يمكن الاستغناء عنها”، واليوم ومع اقتراب ولاية الرئيس ترامب من نهايتها يميل المراقبون الخارجيون لسياسة الولايات المتحدة إلى استعمال عبارة أخرى “دولة غير كفؤة”.
لقد كانت استجابة ترامب لأكثر المشكلات العالمية إلحاحاً اليوم -جائحة كورونا- أسوأ من أية دولة أخرى، وهذا أدى إلى تلطيخ سمعة الولايات المتحدة. وفقاً لاستطلاع رأي أجراه مركز بيو للأبحاث في 13 دولة كبرى، اتفق 84% من المشاركين في الاستطلاع على أن الولايات المتحدة فشلت في التعامل مع الجائحة. ومع ذلك، فإن هذا الفشل هو الحلقة الأخيرة من مسلسل الإخفاقات الذي تسبب في كثير من الشكوك حول قدرات الولايات المتحدة بين حلفائها الحاليين والبلدان التي تسعى الولايات المتحدة لإنشاء تحالفات مستقبلية معها في السنوات القادمة.
وعلى الرغم من كل النقد الذي كان يوجه إلى سياسات الولايات المتحدة الخارجية في الفترات الماضية؛ فإنها كانت تحظى باحترام شعوب وقادة الدول الأجنبية لاستعدادها للقيام بالمهام الصعبة على الصعيد الدولي، وقدرتها على إنجاز مثل هذه المساعي. أما اليوم فإن تغير هذه النظرة يجب أن يسبب القلق عند الذين يؤمنون بأن قيادة الولايات المتحدة يجب أن تلعب دوراً مركزياً في مسألة التغير المناخي وغيرها من المشكلات العالمية.
اقرأ أيضاً: ماذا يريد العالم من جو بايدن؟
والأكثر من ذلك هو حقيقة أن الولايات المتحدة، على عكس الحقبة الماضية، أصبح لديها منافس قوي على المسرح العالمي. ومن الشائع الآن أن تسمع الناس يقارنون بين تراجع التأييد والجمود في أمريكا والكفاءة القاسية للحكم الاستبدادي في الصين، التي تتخبط أيضاً في دورها العالمي، كما في تسترها المميت على الجائحة، ودبلوماسيتها المتنمرة وقتالها خارج حدودها، ونهجها المثير للجدل في التنمية وسجلها السيئ في حقوق الإنسان. وهذا الواقع يخلق فرصة للرئيس المنتخب وإدارته الجديدة.
يعتقد الكثير من الأمريكيين أن الارتياح يسود عواصم العالم بعد انقضاء أربع سنوات من ولاية ترامب إلى درجة تجعل هذه العواصم سترحب بقيادة الولايات المتحدة للقضايا الرئيسية. قال بايدن إن أولى خطواته في السياسة الخارجية ستكون اتصاله مع قادة الدول، ليقول لهم: “الولايات المتحدة قد عادت، ويمكنكم الاعتماد علينا”، وقد وضع خططاً لعكس الانسحابات الأمريكية من المنظمات الدولية ولإلغاء السياسات الضارة وإنهاء “الحروب الأزلية” واستعادة التحالفات.
ستحظى هذه الخطوات دون شك باهتمام كبير؛ ولكنها لن تكون كافية. إذ يجب على الرئيس أن يعمل على تغيير الرأي السائد بأن الولايات المتحدة -موطن أكثر من 40% من الحائزين على جوائز نوبل للسلام والأدب والاقتصاد والكيمياء والطب والفيزياء- هي دولة تفتقد الكفاءة ولا يمكن الوثوق بها. إن استعادة الدور القيادي للولايات المتحدة يتطلب إظهار أن الولايات المتحدة استعادت قدرتها على حل المشكلات المستعصية مرة أخرى.

وبالطبع ستكون الإدارة الجديدة محقة في أن تعطي الأولوية لمعالجة المشكلات الداخلية؛ مثل إنهاء الجائحة والبدء بتعافي الاقتصاد وإصلاح المؤسسات الديمقراطية المهترئة، وهذا الأمر يتطلب تغييرات بنيوية كبيرة قد تستغرق بعض الوقت. لذلك يجب على إدارة بايدن أيضاً متابعة مبادرات في السياسة الخارجية يمكنها أن تسلط الضوء مجدداً على عودة الخبرة والكفاءة الأمريكية مجدداً.
وهنالك ثلاثة مجالات جاهزة في الوقت الحالي لتمارس فيها الولايات المتحدة دوراً قيادياً؛ وهي: قيادة توزيع لقاح “كوفيد-19” على مستوى العالم، وزيادة وتعزيز فرص دراسة الطلاب الأجانب في الولايات المتحدة، وشن حرب كبيرة ضد الفساد في الداخل والخارج. وسوف يكون لمثل هذه المبادرات أثر كبير في تعزيز المصالح الأمريكية في السنوات المقبلة.
اقرأ أيضاً: فوز بايدن وشكل السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط!
كفاءة الولايات المتحدة
تعهد بايدن في تصريحاته السابقة بالعمل على عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاقات الدولية التي انسحب منها ترامب، وربما إلى الاتفاق النووي الإيراني، وكذلك عودة الولايات المتحدة إلى مجموعة المنتديات والمبادرات الدولية التي تخلى عنها ترامب، والتراجع عن بعض السياسات المدمرة التي انتهجها ترامب؛ مثل حظر دخول رعايا الدول ذات الأغلبية المسلمة وفصل عائلات اللاجئين عند الحدود الجنوبية وتخفيض أعداد اللاجئين إلى مستويات قياسية واحتضان القادة الاستبداديين وتوبيخ الحلفاء. إن هذه الخطوات قد تساعد في إظهار أن الولايات المتحدة أصبحت شريكاً أكثر انفتاحاً ومصداقية؛ ولكنها لن تكون كافية لمعالجة المخاوف المبررة حيال مدى كفاءة الولايات المتحدة. فعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، تراجعت الثقة في كفاءة الولايات المتحدة ووصلت إلى أدنى مستوياتها في دول مثل أستراليا وكندا وفرنسا واليابان وهولندا والسويد والمملكة المتحدة.
عندما دخل بايدن السلطة التنفيذية نائباً للرئيس أوباما كانت البلاد تواجه تحديات مشابهة لتلك القائمة اليوم؛ نتيجة حرب العراق المدمرة ومسؤولية الولايات المتحدة عن الأزمة المالية العالمية. في ذلك الوقت، اتخذ الرئيس أوباما خطوات مشابهة للخطوات التي وعد بايدن باتخاذها مؤخراً؛ مثل العودة للعمل ضمن مؤسسات الأمم المتحدة وتسديد الولايات المتحدة مستحقاتها للمنظمات الدولية وإصلاح ما أفسدته حرب العراق في العلاقة مع الحلفاء. كانت هذه الإجراءات ضرورية لتعزيز الثقة؛ ولكن وفقاً لانطباعي الشخصي -كشخص عمل في تلك الإدارة طوال ثماني سنوات- فإن مكانة الولايات المتحدة لم تصل إلى ذروتها حتى عام 2014- 2015 عندما تعززت الثقة في القيادة الأمريكية بعد سلسلة من الإجراءات التي أدت إلى نتائج ملموسة. ففي تلك الفترة حشد أوباما أكثر من 62 دولة لمواجهة وباء إيبولا في غرب إفريقيا، وقدم المفاوضون الأمريكيون أفكاراً رائعة في سبيل لجم القدرات النووية الإيرانية، وحشدوا الدعم الصيني والروسي لصفقة مبنية على تلك الأفكار، ونجحت الدبلوماسية الأمريكية والخبرات العلمية في مجال المناخ في التوصل إلى اتفاق باريس الذي سوف يؤثر على مناخ العالم بأسره. لقد شعرت في تلك الفترة بأعلى مستوى من الثقة بالولايات المتحدة، والحرص على الشراكة معها، بينما كنت أسير في ردهات الأمم المتحدة سفيراً للولايات المتحدة.
اقرأ أيضاً: كيف تستطيع أوروبا والولايات المتحدة أن تجددا تحالفهما؟
التمدد الصيني
على الرغم من كل المخاوف من أن الصين سوف تستفيد من تراجع الدور الأمريكي على المسرح العالمي؛ فإن السنوات الماضية لم تسجل تقدماً في الإيمان بالصين زعيماً عالمياً بديلاً. فقد أظهر إحصاء لمؤسسة غالوب أجرته في 130 دولة، أن تصنيف الموافقة العالمية على الصين لم تتغير نسبته البالغة 32% خلال السنوات العشر الماضية. ويرجع ذلك إلى سياسات الصين الخارجية العدوانية في بحر الصين وتجاه تايوان وهونغ كونغ وعلى الحدود الصينية.. وغيرها. كذلك كانت مبادرة الحزام والطريق الصينية مصدراً للكثير من القلق العالمي بشأن نهج الصين في التنمية؛ خصوصاً في حملة بناء منشآت البنى التحتية الضخمة باهظة التكاليف، والفوائد العالية التي فرضتها الصين على قروضها للدول التي بنت فيها هذه المنشآت؛ مثل سريلانكا التي أصبحت ترزح تحت وطأة الديون الصينية، كما ألغت العديد من الدول اتفاقيات كانت قد وقعتها مع الصين في هذا المجال، مثل ماليزيا وتنزانيا وزامبيا التي أصبحت مدينة للصين بربع ديونها.
اقرأ أيضاً: دخول التنين.. نفوذ الصين المتزايد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
ويدور الكثير من الجدل حول إذا ما كانت الصين تنتهج سياسة “فخ الديون”، ومن الصعب جداً تقدير مبالغ الديون المستحقة للصين على الدول النامية؛ ولكن دراسة أُجريت عام 2019 خلصت إلى أن أكبر 50 بلداً متلقياً للديون الصينية بلغت ديونها ما يقارب 15% من إجمالي الناتج المحلي فيها بالمقارنة مع أقل من 1% عام 2005. كما أن الاستثمارات الصينية في البنية التحتية بدأت تفقد بريقها؛ بسبب الشكوك حول الشفافية والتدهور البيئي وتدفق العمالة الصينية، وبدأت المعارضة الشعبية لمشروع الحزام والطريق تظهر حتى في الدول التي تفرض قيوداً صارمة على التعبير؛ بما فيها كزاخستان ولاوس وميانمار.
بطبيعة الحال، لا تزال العديد من الدول ترى فرصاً سانحة في علاقات أعمق مع الصين؛ ولكن خلال السنوات الأربع الماضية تراجعت الآراء حول قيادة بكين في المسائل الحرجة، وهذا يمثل فرصة لبايدن، ولكي يستغل هذه الفرصة يجب عليه استعادة سمعة الولايات المتحدة في ما يتعلق بالكفاءة.

أوقات الحاجة
إن إظهار الكفاءة يتطلب القيام بأكثر من عمل كبير في الوقت نفسه، وبإمكان الولايات المتحدة أن تدخل مجدداً في كل المنظمات التي تريد؛ ولكن المكسب الأكبر في التأثير سيكون نتيجة قدرتها على الوفاء في أوقات الحاجة في العديد من البلدان.
يمكن للولايات المتحدة أن تبدأ في القضية التي كان لها أسوأ الأثر على سمعتها، “كوفيد-19″؛ حيث يمكن لإدارة بايدن أن تلعب دوراً ريادياً في قيادة توزيع اللقاح بطريقة تذكِّر العالم بالقدرات الفريدة التي تمتلكها الولايات المتحدة.
كما أن محاولات الصين لإقناع العالم بأنها قوة عظمى من خلال تقديمها المساعدة لدول أخرى في الحصول على اللقاح يجب أن يكون حافزاً إضافياً للجمهوريين للانضمام إلى إدارة بايدن في تقديم الدعم للدور الأمريكي الدولي؛ حتى لو كان ذلك في ظل ميزانيات سيئة للغاية. يجب على بايدن أن يبدأ بعودة الولايات المتحدة إلى اتفاقية “كوفاكس” التي ستضمن توزيعاً عادلاً للقاح، وكذلك بإطلاق شراكات ثنائية مع الدول المتوسطة وقليلة الدخل التي تحتاج إلى المساعدة في حملات إعطاء اللقاح. وقد أوضح خبراء الصحة العامة أن إعطاء اللقاح على نطاق واسع هو مسألة معقدة للغاية؛ فهو يتطلب درجات حرارة معينة لحفظه أثناء النقل والتخزين، ويتطلب طرقاً جديدة في التوزيع العالمي، في وقت توقفت فيه حركة الطيران بشكل كبير؛ حيث اعتادت شركات الأدوية أن تشحن نحو نصف منتجاتها عبر رحلات الطيران التجاري، بالإضافة إلى صعوبات توفير المواد الأولية اللازمة لصناعة اللقاح.
اقرأ أيضاً: الإدارة الأمريكية تدرس تعليق المساعدات الإنسانية لليمن
وبفضل خبرتها الطويلة في حملات التلقيح العالمية التي استهدفت أمراضاً مثل شلل الأطفال والحصبة والجدري، والتي كان آخرها الحملة التي قامت بها الولايات المتحدة في غرب إفريقيا ضد وباء إيبولا، فإن الولايات المتحدة تمتلك قدرات فريدة على القيام بدور قيادي في توزيع اللقاح وتوفير الخدمات اللوجستية والخبرة الفنية وتدريب الكوادر البشرية.
وبالقياس على ردود الفعل التي حدثت تجاه مساعدات سابقة قدمتها الولايات المتحدة في الماضي، فسيكون لمثل هذا الدور القيادي اليوم أثر إيجابي كبير على المكانة الأمريكية عل المستوى الدولي. ومع أن هذا الأمر لن يكون بمثابة الدافع الرئيسي للولايات المتحدة، إلا أنه يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في ضوء نظرة العالم المتشككة للولايات المتحدة في الوقت الحاضر.
بعد تسونامي المحيط الهندي عام 2004 وزلزال باكستان عام 2005 وتسونامي اليابان عام 2011، قدمت الولايات المتحدة مساعدات إغاثية فعالة للغاية، عززت مكانتها في تلك المناطق. والأثر الأكثر ديمومة يمكن ملاحظته من خلال خطة الطوارئ الرئاسية لمساعدة مرضى الإيدز، أطلقها الرئيس جرج دبليو بوش، وقدمت العلاج لأكثر من 16 مليون شخص، وتركت تأثيراً كبيراً على مواقف الشعوب تجاه الولايات المتحدة.
أظهرت دراسة لمعهد غالوب أن الرئيس جورج بوش عندما ترك منصبه عام 2009 كانت شعبيته في الولايات المتحدة تصل إلى 34%، بينما وصلت إلى 73% في الدول الإفريقية.

التميز الأكاديمي
تبقى الجامعات الأمريكية أحد أبرز معالم المكانة الريادية للولايات المتحدة، ويجب أن تعود هذه الجامعات إلى أن تكون نقطة الجذب العالمية الأولى للمواهب من مختلف أنحاء العالم. ومع أن بايدن تعهد بإنهاء سياسات الهجرة الأكثر تحيزاً التي تبناها ترامب؛ مثل حظر دخول المسلمين والقيود اللا إنسانية على اللجوء، إلا أنه من الضروري تقليل عقبات الحصول على تأشيرات الدخول للطلاب وتوفير مسارات أسهل لهم للوصول إلى الجامعات الأمريكية التي تحظى بمكانة خاصة في الخيال العلمي.
قبل تولي ترامب الرئاسة لم تكن مسألة اجتذاب الطلاب الأجانب تثير أي جدل في الولايات المتحدة التي كانت على مدى عقود طويلة الوجهة الأولى لطلاب العلم الأجانب. وكانت تستقبل أكثر من مليون طالب أجنبي سنوياً. ومنذ عام 2012 استمر عدد الطلاب الأجانب في الارتفاع بمعدل يتراوح بين 7 و10% سنوياً؛ ولكن بعد القيود التي فرضها ترامب على التأشيرات تراجع هذا العدد في عامَي 2018- 2019 (قبل الجائحة) بمعدل 8% بالمقارنة مع السنوات السابقة.
والآن قد يكون من المفيد أن يبدأ الرئيس المنتخب بايدن بخطاب رئيسي يعلن فيه أن إدارته تقف مع الجامعات الأمريكية مجدداً في ترحيبها بالطلاب الأجانب، وتوضيح حقيقة أن هؤلاء الطلاب يشكلون مكسباً للبلاد وليس تهديداً. ويجب على إدارته أن تضع لنفسها هدفاً يتمثل في زيادة أعداد هؤلاء الطلاب بمعدل 7- 10% سنوياً كما كان قبل عقد من الزمن. ويجب عليه أيضاً أن يوفر تسهيلات للطلاب في مجال تأشيرات الدخول؛ بأن يعمل على وقف مضايقات موظفي الجمارك وحماية الحدود للطلاب الأجانب.
إن مبادرة كهذه ستجلب الكثير من الفوائد؛ فمع تراجع الثقة في نقاط القوة الأمريكية سيشكل الطلاب الأجانب فرصة للتعرف على ألوان المعرفة والابتكار في الولايات المتحدة، وسيشكلون فرصاً لعلاقات وصداقات جديدة مع مختلف دول وشعوب العالم. وفي الوقت نفسه سيوفر الطلاب الأجانب مصدراً مهماً للأموال التي ستسهم في إنعاش الاقتصاد في مرحلة ما بعد الجائحة، ففي عام 2019 وصلت عائدات الطلاب الأجانب إلى 44 مليار دولار، ودعمت ما يقارب 458.000 وظيفة في البلاد. وبينما حوَّلت الصين نفسها إلى وجهة رئيسية للطلاب الأجانب، يمكن لهذه المبادرة أن تكون بمثابة الثقل الموازن للجهود الصينية. ولا شك في أن اجتذاب الطلاب الأجانب سيكون مورداً مهماً لاستقطاب المواهب من مختلف أنحاء العالم إلى البلاد، وسيساعد على إدخال مفاهيم الديمقراطية وقيم المجتمع المنفتح إلى عقول قادة العالم المستقبليين وجعلهم سفراء مدى الحياة للديمقراطية والصداقة بين بلدانهم والولايات المتحدة.
اقرأ أيضاً: كيف تتسلل الصين إلى داخل الجامعات الأمريكية؟
نظراً لأن الجامعات الأمريكية ذات الشهرة العالمية كانت منارة للطلاب المتفوقين، فقد قام الكثير من الخريجين الأجانب بتأسيس شركاتهم أو التوصل إلى اختراعاتهم واكتشافاتهم العلمية في الولايات المتحدة، بينما عاد آخرون إلى بلدانهم ووصلوا إلى قيادة دولهم. أشارت دراسة أعدتها “بلومبيرغ” إلى أن 20% من قادة إفريقيا وأكثر من 300 من قادة العالم من رؤساء ورؤساء وزراء ووزراء هم ممن درسوا في الولايات المتحدة.

مكافحة الفساد
إذا كانت المساعدة في توزيع اللقاح ستسخر إمكانات وقدرات الولايات المتحدة لإنقاذ الأرواح حول العالم، وإذا كانت إتاحة المزيد من فرص التعليم في الولايات المتحدة سوف تعزز مكانتها الفكرية وانفتاحها، فإن مبادرة عالمية لمحاربة الفساد سوف تسمح للولايات المتحدة بتسخير إمكاناتها الفريدة في تتبع وكشف وملاحقة الجرائم المالية وتلبية مطالب مواطني العالم كافة، بمحاسبة الفاسدين. وعد بايدن بإصدار توجيه رئاسي يعلن مكافحة الفساد “مصلحة أساسية للأمن القومي الأمريكي”، كما تعهد باستضافة قمة موسعة مع الديمقراطيات الأخرى تكون محاربة الفساد بنداً رئيسياً على جدل أعمالها. ولكنه يستطيع أن يذهب أبعد من ذلك، ويجعل مكافحة الفساد محوراً رئيسياً في أجندته الدولية.
اقرأ أيضاً: نشأة الفساد الاستراتيجي
الولايات المتحدة هي المحور المركزي للنظام المالي العالمي الذي مرّ من خلاله بين عامَي 1999 و2017 ما لا يقل عن تريليونَي دولار من أموال تجار الأسلحة والمخدرات وغاسلي الأموال والمتهربين من العقوبات والمسؤولين الفاسدين. بينما تقدر كلفة الفساد في عام 2019 بنحو 4 تريليونات دولار؛ أي ما يعادل 5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويقدر البنك الدولي أن مجموع الرشاوى التي يدفعها الأفراد والمؤسسات يصل إلى تريليون دولار سنوياً.

ومن أجل مصلحة المواطنين الصالحين في الولايات المتحدة وخارجها، يمكن لإدارة بايدن أن تأخذ زمام المبادرة في قيادة تغييرات تحدُّ من الفساد وغسيل الأموال والتهرب الضريبي الدولي.. وهذه كلها ممارسات تمول القادة والأحزاب الاستبدادية وتعزز عدم المساواة وتنتهك حقوق الأفراد.
اقرأ أيضاً: ابن أردوغان.. إرث الفساد
لقد كان الغضب من الفساد وسوء التصرف دافعاً رئيسياً وراء تصاعد الاحتجاجات حول العالم خلال العقد الأخير. ولعبت مكافحة الفساد دوراً رئيسياً في نصف الاحتجاجات الكبرى التي حدثت عام 2019 والتي بلغ عددها 37 احتجاجاً في دول عديدة؛ منها الجزائر والعراق ولبنان ومالطا والسودان، حيث أدت هذه الاحتجاجات إلى استقالة قادة وتغيير حكومات.
وكما هي الحال في معظم القضايا الرئيسية، يجب أن تعطي إدارة بايدن الأولوية في هذا الموضوع للداخل الأمريكي والبدء في إجراءات التنظيف بعد الرئاسة الأكثر فساداً. تنظر المؤسسات الخاصة المتورطة في غسيل الأموال إلى الغرامات التي تفرض عليها على أنها جزء من التكاليف التشغيلية لعملها، ولذلك لا بد من فرض عقوبات أكثر صرامة تصل إلى الملاحقة الجنائية لردعها.
ولكن على الصعيد الخارجي، هنالك الكثير مما ينبغي فعله؛ إذ يمكن للولايات المتحدة أن تطالب الدول بمجموعة من الالتزامات لمكافحة الفساد، كي تدخل في ترتيبات تجارية تفضيلية معها. كما يمكن للولايات المتحدة تقديم المساعدة الفنية لهذه الدول في مجالات مكافحة الفساد. أما بالنسبة إلى الدول التي تمتلك قوانين كافية فيجب على الولايات المتحدة أن تشجعها وتساعدها على تطبيق هذه القوانين بشكل أشد. في الواقع، وفقاً لمؤسسة الشفافية العالمية، فإن أربع دول فقط من أصل 47 دولة مصدرة تطبِّق قوانين مكافحة الرشوة بالشكل الكافي.
إن مكافحة الفساد تمثل مجالاً آخر من مجالات التفوق الأمريكي على الصين؛ فمنذ عام 1977 حظر قانون ممارسة الفساد في الخارج على الشركات والأشخاص الأمريكيين تقديم رشاوى لمسؤولين أجانب في الخارج. ومع أن ترامب حاول التخلص من هذا القانون، فقد أصرت وزارة العدل ولجنة الأوراق المالية والبورصات على تطبيقه. على النقيض من ذلك، فإن الصين التي تعتبر أكبر دولة مصدرة في العالم، وثاني أكبر اقتصاداته وموطن العديد من الشركات المتورطة في فضائح الفساد في دول أخرى، لم تفتح أي تحقيقات في رشاوى أجنبية بين عامَي 2016 و2019.
اقرأ أيضاً: 3 دول حققت نجاحاً باهراً في مجال مكافحة الفساد

العالم حيث هو
إن هذه المبادرات لن تعالج أمة منقسمة، زاد انقسامها حدة بسبب انتخابات 2020، ولن تجعل القادة أو الشعوب في دول العالم تنسى الوعود الأمريكية التي لم يتم الوفاء بها، والسياسات الأمريكية الضارة، أو حقيقة أن الولايات المتحدة تعاني أكبر معدل وفيات بسبب جائحة “كوفيد-19” بين الدول الغنية، ولن تقلل من كون الصين منافساً خطيراً.
ما تستطيع هذه المبادرات فعله هو أن تلاقي الولايات المتحدة العالمَ حيث هو؛ عالماً يترنح تحت ضربات الجائحة وينفر من رهاب الأجانب الذي أصاب الولايات المتحدة، ويتطلع إلى حكومات تتحمل مسؤولياتها تجاه شعوبها. كما أن هذه المبادرات من شأنها أن تذكِّر بقدرات الولايات المتحدة، وليس بالعودة الغامضة لها لقيادة العالم. إن هذه الإمكانات التي أهدرها أو تجاهلها ترامب تبقى من ركائز القوة التي لا يمتلكها أحد سوى الولايات المتحدة.
♦سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة في فترة الرئيس باراك أوباما
المصدر: فورين أفيرز