الواجهة الرئيسيةترجمات

الفلسفةُ وراء أزمةِ منتصف العمر

مرحلة حاسمة من حياة الإنسان، ينقلب فيها تفكيره بشكل كامل

كيو بوست – ترجمات

نشرت مجلة نيويوركر الأمريكية مقالة تستعرض فيها آراء الفلاسفة والحُكماء حول “أزمة منتصف العمر” المقلقة للكثيرين من الناس. وتروي المجلة تجربة فيلسوفٍ معاصرٍ عانى منها رغم مكانته المرموقة في المجتمع، كما تتعمق في تفاصيل صراعه الذي انطوى على تأليف كتابٍ يُبحر في أعماق هذه الأزمة.

إنها مرحلة انتقالية يختلف فيها منظور الإنسان للأشياء والوقائع، ويختلف تعامله معها، وكأنه يقوم بتكوين شخصيته من جديد، ويُصاب فيها بالاكتئاب الشديد، ويتخذ من الانطوائية ملاذًا، في محاولةٍ لفهم ذاته والسيطرة عليها.

كان “كيران سيتيا” أستاذ فلسفةٍ ناجحًا في جامعة بيتسبرغ الأمريكية، مؤلف للعديد من الكتب، أبرزها “المعرفة العملية”، و”معرفة الصواب من الخطأ”. وفي سنّ الخامسة والثلاثين، بدأ يمر بأزمة منتصف العمر، وأصبح فجأة غير راضٍ عن حياته على الإطلاق.

فعندما نظر إلى ما في داخله الروحانيّ، “شعر بخليطٍ من القلق والحنين، والندم، والفراغ، والخوف، والتوْق إلى الماضي، ورُهاب الأماكن المغلقة”. وعندما نظر إلى الأمام، “لم يرَ سوى سلسلةٍ من الإنجازات الممتدة من المستقبل إلى التقاعد، ثم إلى الضعف والموت”.

تبادر إلى ذهنهِ الكثيرُ من الأسئلة: ما هو الهدف من الحياة؟ وكيف ستنتهي الأمور؟ فلم يجد سوى إجابة واحدة: إنّ الحياة بلا هدفٍ، وعديمة الجدوى، وستنتهي على نحوٍ سيء. وبعد صراعٍ طويل مع الذات، تمكّن “سيتيا” من النجاة، واستجاب بشكلٍ مثمر لهذه الأزمة، وقام بتأليف كتابٍ يحمل عنوان “منتصف العمر: دليلٌ فلسفيّ”، يختبر فيه صراعه المرير وأسرار تجربته.

اقرأ أيضًا: ماسينيون الفرنسي.. قرينُ الحلاج الصوفي والمعرفي!

يقول “سيتيا” إن تلك التجربة “علمتني الهدوء، فجلست مع نفسي، وبدأت بتدوين كتابٍ، لأساعد نفسي على النجاة من وحل الأزمة، فقمت بتحليل عدم ارتياحي بشكل منهجيّ في محاولةٍ يائسةٍ للتخفيف من حدتها”.

وجد “سيتيا” أن تاريخ أزمة منتصف العمر طويلٌ وقصيرٌ في آنٍ واحد. فمن ناحية، قام بتحليل نصّ يعود لأسرة مصرية قبل ألفيّ عام، باعتباره أقرب وصفٍ لأزمة منتصف العمر، ويتضح من النص أن “دانتي” كان في سنّ الخامسة والثلاثين حين كتب “إنني في منتصف الطريق في رحلة الحياة، وجدت نفسي في الغابات الداكنة، وفقدت الطريق الصواب”. ومن ناحية أخرى، يؤكد “سيتيا” أن المصطلح نفسه لم يُصغ حتى عام 1965، عندما كتب طبيب نفساني يُدعى إليوت جاك كتابًا بعنوان “الموت وأزمة منتصف العمر”.

قال “جاك” في كتابه إن “الحياة تبدو مثل الانحدار إلى الأعلى، لا نهاية له، ولا ترى فيه شيئًا سوى الأفق البعيد، ويبدو أنني وصلت إلى قمّة التل، وأرى منحدرًا إلى الأسفل مع نهاية طريقٍ في الأفق”.

وقال الشاعر والروائي الأمريكي “جون أبدايك” في كتابه “إحياء الأرنب” عام 1971 إن “ما لم تحققه في عامك الثلاثين لن تحققه فيما بعد”.

وقال الكاتب القصصي والروائي الأمريكي “ريتشارد فولك” في كتابه “الكاتب الرياضي” عام 1986 “يمكنك أن تحلم بطريقك في حياةٍ أخرى مختلفة، حياة جيدة لن تستيقظ منها أبدًا – الحياة الآخرة”.

اقرأ أيضًا: كيف تسامح وتعيش حياة سعيدة مرة أخرى؟ خطوة بخطوة

أما عالمة النفس الأمريكية “غيل شيهي” فنشرت كتابًا عام 1977 بعنوان “ممرات: أزمات لا يمكن التنبؤ بها في حياة الكبار”، استكشفت فيه أزمة منتصف العمر من الناحية النفسية. كما ألفت كتابًا آخر بعنوان “أسرار الحدائق الرمادية”، وأصبحت بسببه عالمةً في أزمات منتصف العمر.

أجرت “شيهي” مئات المقابلات مع فئة الشباب ممن يعانون من هذه الأزمة، وخلُصت إلى أن الأزمة لا تقتصر على الرجال فحسب، كما كان يُعتقد، بل إنّ النساء يمررن بهذه التجربة في سنّ أبكر من الرجال. وتؤكد “شيهي” أن “السنوات من 35 إلى 39 هي سنوات الكفر بالنسبة للنساء، وهذا ما يفسر رغبتهن في استعادة أوهام مظهر الشباب، والحُب الرومانسيّ”.

تميل الأبحاث إلى أن وتيرة أزمات منتصف العمر غامضة ومبهمة، فالعديد من الدراسات طويلة الأمد أكدت أن الناس في الواقع يصبحون أكثر سعادة مع تقدمهم في السن. ويؤكد “سيتيا” أن هذا “يمنح مصداقية لوجهة نظر أرسطو حينما قال إننا نكبر باتجاه مقتبل العمر وعنفوان الشباب، عندما يحقق الجسد أقصى تطورٍ له في سن الخامسة والثلاثين، والعقل في سن التاسعة والأربعين”.

وتؤكد أبحاث أخرى أن الرضى عن الحياة يتخذ شكل حرف U؛ إذ نكون الأسعد في مرحلتي الصِغر والكِبر، والأتعس في المرحلة الوسطى. وهنالك أبحاث أجريت على القردة، يؤكد فيها علماء الحيوان أنها تشعر بالحزن في منتصف عمرها.

يقول “سيتيا” إن “ما يحدث في منتصف العمر شيءٌ بغيض، إذ نغرق في هذه الأزمة برغم صحتنا وعملنا وتواجدنا بين آبائنا وأبنائنا”.

اقرأ أيضًا: كيف نظر الفلاسفة القدماء إلى معنى الحياة، والهدف منها؟

أما العالِم الألمانيّ “هانز شواندت” فيؤكد هذه النظرة بالقول “إن الصغار، في مرحلة الصِغر، يميلون إلى المبالغة في الرضى المستقبلي، أما الشباب، في مرحلة منتصف العمر، يستخفون بمدى رضاهم المستقبلي عند الكِبر”. ووفقًا لهذه النظرية، يمكننا تجنّب أزمات منتصف العمر من خلال موازنة توقعاتنا.

وجد “سيتيا” بعد مروره بهذه التجربة أن أزمة منتصف العمر جزءٌ عاديٌ من حياة طويلة العمر. وسرد في كتابه عددًا من الفِخاخ الفكرية التي يسقط فيها متزنو العقل، وحتى الفلاسفة والعظماء.

على سبيل المثال، ينتاب الناس في منتصف أعمارهم شعور بالحنين، واللهفة إلى العودة للماضي من أجل الاختيار. يشرح “سيتيا” عيوب هذا النوع من التفكير بدقةٍ فلسفيةٍ متناهية، حين يقول في كتابه: “هنالك قيمةٌ حصريةٌ في كلّ خيار، فلو عدت بالزمن إلى الوراء، وأتيحت لك فرصة اختيار شيء آخر مغايرٌ لما أنت عليه الآن، فستفقد شيئًا ثمينًا لن تحصل عليه كما حظيت به اليوم”. ويضرب مثالًا حيًا بالقول: “لو اخترت زوجة غير زوجتك الحالية، فربما لن تكون أفضل منها، وربما كانت عقيمة، وحينها، ستفقد شيئًا أكثر قيمة، مثل الأبناء”.

يتساءل الناس في منتصف العمر “هل كان عليّ أن اختار ذاك الخيار؟ هل كان ينبغي ألا أفعل ذاك الشيء؟”، بل ويقضون هذه المرحلة متمنين لو كان بإمكانهم التراجع عن “أخطاء” الماضي. فعلى سبيل المثال، يتساءل “سيتيا” فيما لو أصبح طبيبًا بدلًا من أستاذ فلسفة.

وفي هذا السياق، يحث “سيتيا” الشباب في منتصف العمر على التفكر مليًا بما ستنطوي عليه الحقائق البديلة التي يتأملون بها. وبفضل نظرية “تأثير الفراشة”، يؤكد “سيتيا” أن العالم البديل الذي لم ترتكب فيه أخطاء قد يحرمك الكثير من الأشياء التي تقدّرها حاليًا. ويطرح مثالًا على ذلك “لو اخترت مهنة مختلفة، فربما أطفالك غير موجودين الآن”..

اتبعنا على تويتر من هنا

 

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة