الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفة
“الفلسطينية”- إدوارد سعيد (2-3)

كيوبوست- ترجمات
آدم شاتز♦
أثناء وجوده في بيروت، انغمس في دراسة ابن خلدون الذي رأى أن مقدمته توازي في أهميتها “علم فيكو الجديد”، وتلقى تعليمه السياسي من مفكرين في فلك منظمة التحرير الفلسطينية الذين كانوا يحاولون فهم هزيمة 1967. والتقى الشاعر الفلسطيني محمود درويش، والروائي اللبناني إلياس خوري، والماركسي السوري صادق العظم (الذي نشر دراسات معمقة حول الفشل العسكري العربي)، والقومي العربي قسطنطين زريق، والقائد في منظمة التحرير كمال ناصر، الذي قتله الإسرائيليون بعد ساعات فقط من تناوله العشاء مع سعيد. وقدم سعيد أولى مساهماته في أدب النقد الذاتي العربي بعد الهزيمة في مجلة “مواقف” التي كان يحررها الشاعر أدونيس.
اقرأ أيضًا: لا سلام في الشرق الأوسط من دون حل المسألة الفلسطينية
بشَّرت ولادة التنظيمات الفلسطينية المسلحة بنهاية الروتين الكئيب للحياة السياسية والفكرية العربية. كانت بيروت مركز الثورة، وكان سعيد يحلم بالبقاء فيها مع عائلته؛ ولكن مريم عارضت الفكرة. وبعد أن شعر بأنه غير مرحب به في الجامعة الأمريكية، بدأ يتفق مع مريم في وجهة نظرها، واستنتج أن أي شخص لديه موهبة وروح المبادرة “سوف يُستبعد أو يتم إخصاؤه أو طرده”. لكن العام الذي أمضاه في بيروت قاده إلى اختراق إبداعي؛ ففي كتابه «بدايات» الذي صدر عام 1975 وضع سعيد دراسة طموحة للنظريات الحديثة للغة، قدَّم سعيد نظرية في الكتابة باعتبارها “فعل السيطرة على اللغة من أجل القيام بشيء ما، وليس لمجرد تكرار فكرة بحرفيتها”. وقد رأى فيها أحد النقاد “أدوات فكرية قوية في خدمة المصلحة القومية العربية”. في الواقع كان هذا تحدياً لجمود البنيوية وليس للصهيونية؛ ولكن دلالاته السياسية كانت واضحة، فقد كان سعيد يرى أن الأفعال اللغوية المقصودة؛ خصوصاً الحديث أو الكلام، يمكنها أن تزعزع أنظمة السلطة، وأن تصبح شكلاً من أشكال المقاومة.
في عام 1974 عُرضت وجهة نظر سعيد على العالم عندما ألقى ياسر عرفات أولى كلماته على منبر الأمم المتحدة. شارك سعيد في صياغة الكلمة، وأضاف إليها العبارة الختامية “لا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي”. لم يعارض سعيد المقاومة المسلحة، إلا أنه لم يكن من المعجبين بتقديس منظمة التحرير الفلسطينية للبندقية، وكان يعتقد أن الاحتجاجات السلمية، والعمل الدبلوماسي، هي الأسلحة الأكثر فاعلية بالنظر إلى التباين الكبير في القوة العسكرية. وسرعان ما أصبح مسؤول الاتصال غير المباشر بين المنظمة، وحكومة الولايات المتحدة. وفي عام 1977 تم انتخابه عضواً مستقلاً في المجلس الوطني الفلسطيني.
اقرأ أيضاً: كواليس انتخابات “حماس” تكشف عن ازدواجية المعايير
فقد سعيد والده عام 1971 بعد إصابته بالسرطان، ووجد في عرفات أباً بديلاً، لاجئ لم ينسَ فلسطين؛ بل جعل منها قضية دولية. وكان عرفات على مدى عقدَين يتصل به كلما أراد أن يبعث برسالةٍ إلى الحكومة الأمريكية، والحكومة الأمريكية من جانبها اعترفت بدور سعيد أيضاً؛ ففي عام 1978 أخبره سايروس فانس، وزير الخارجية الأمريكي، أن إدارة الرئيس كارتر سوف تعترف بمنظمة التحرير، وتبدأ مفاوضات حل الدولتين، إذا ما وافق عرفات على قرار الأمم المتحدة رقم 242 الذي يقضي بإنهاء الصراع وانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة. ولكن عرفات لم يقبل العرض. كان عرفات ينظر إلى إدوارد سعيد على أنه أستاذ أمريكي مفيد؛ ولكنه مشكوك فيه إلى حدٍّ ما، وليس رفيق سلاح.
كتب سعيد: “المثقف يقف دائماً بين الوحدة والاصطفاف”، وقد زاد اصطفافه مع منظمة حركة تحرر وطنية يعتبرها الكثير من زملائه منظمة إرهابية، من شعوره بالوحدة، وعزز من شعوره بالضعف وعمق جرحه. كتب سعيد في مقدمة كتابه «الاستشراق» الذي ظهر عام 1978: “إن حياة الفلسطيني العربي في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة محبطة للغاية. فهنا يوجد شبه إجماع على أنه غير موجود سياسياً. وعندما يسمح له بالوجود فهو إما أن ينظر إليه على أنه مصدر إزعاج أو على أنه مجرد إنسان شرقي. إن شبكة العنصرية، والصورة الثقافية النمطية، والإمبريالية السياسية والأيديولوجية اللا إنسانية التي تحيط بالعربي أو المسلم، قوية للغاية، وهذه هي الشبكة التي أصبح كل فلسطيني يشعر بأنها مصيره البائس المحتوم”.

لم يصنع كتاب «الاستشراق» سمعة سعيد وحسب؛ بل أثار جدلاً واسعاً لم ينتهِ إلى الآن، وأسس لمدرسة مناهضة للاستشراق. بالاعتماد على التاريخ، وعلم اللغة، والفلسفة، جادل سعيد بأن العرب والشعوب الآسيوية التي عاشت تحت السيطرة البريطانية أو الفرنسية لم يكونوا أسرى القوى الغربية فحسب؛ بل أسرى الصورة التي رسمها بها الكتّاب الغربيون كشعوبٍ غامضة ضعيفة غير قابلة للتطور، وغير عقلانية، وفوق كل شيء غير مؤهلة لأن تحكم بلادها.
وهو يرى أن الاستشراق لم يعكس فقط الهيمنة الإمبريالية؛ بل أثَّر فيها وأسهم في تشكيل هيمنتها. لقد صوَّر سعيد الاستشراق على أنه خطاب واسع الانتشار إلى درجة أنه أصبح لا مفر منه. وهو يرى أن الكتاب الذين بدا أنهم يمتدحون الثقافات غير الغربية، قد أسهموا في تصوير الإنسان “الآخر” الشرقي على أنه مختلف جوهرياً.
ومع ذلك، فقد ساعدت نبرة سعيد الاتهامية العالية التي وجَّهت لكمة قوية إلى الاستشراق، على تغذية المفاهيم الخاطئة. فبينما امتدح عمل الدارسين المستشرقين؛ مثل لويس ماسينيون، وجاك بيرك، ومكسيم رودينسون، فقد أشار أيضاً إلى أن علم الاستشراق بأكمله كان شكلاً فاسداً من أشكال معرفة القوة؛ ولكنه لم يجب عن أسئلة مثل: ما الذي يميز شخصية بارزة مثل جاك بيرك عن برنارد لويس أو عن أصحاب الدعاية المبتذلة مثل دانييل بايبس؟ وهل كان النقد الغربي -وحتى النقد الماركسي- لفشل المجتمعات في العالم العربي والإسلامي يستحق الرفض باعتباره استشراقاً؟ إن عدم إجابة سعيد عن هذه الأسئلة دفع الكثير من القراء إلى افتراض أنه كان يعتبر كل الكتابات الغربية عن الشرق استشراقاً؛ ولكن هذه لم تكن وجهة نظره على الإطلاق.
اقرأ أيضاً: مأساة الشحاتيت تختصر معاناة من يختلف مع “حماس” في قطاع غزة
جاء بعض أشد الانتقادات لسعيد من المثقفين العرب اليساريين الذي لم يغادروا المنطقة لتولي مناصب أكاديمية في الغرب. فهم رأوا أن منهج سعيد كان عشوائياً، وانتهى به المطاف إلى إعادة إنتاج التعارض الثنائي بين “الشرق” و”الغرب” الذي كان يعارضه ظاهرياً. واعتبروا أيضاً أنه بتركيزه على النظرة الغربية بدلاً من الإمبريالية التي شكلت هذه النظرة، فإنه رأى الاستشراق كأيديولوجية تبريرية سوف تخبو مع انتهاء الهيمنة الإمبريالية. وقد كتب صادق العظم نقداً مطولاً لكتاب سعيد، رأى فيه أنه يفسح المجال للإسلاميين لشجب الماركسية كأيديولوجية غربية، ويفسح المجال لحملتهم لمحاربة تدريس العلوم. ولم يتقبل سعيد هذا النقد، ووصف صادق العظم بأنه “خميني اليسار”.
ولكن العظم وضع إصبعه على أحد التأثيرات غير المقصودة لكتاب «الاستشراق»، فعلى الرغم من معارضة سعيد للعقائدية المناهضة للغرب، وللسياسة الدينية، ولجميع أشكال النزعة القومية؛ فإنه قد ألقى كتابه إدانة طقسية للمعرفة والأدب الغربيين بوصفهما إمبرياليين. وقد أثار النقد المتزايد للعلمانية والتنوير الذي انتشر بين أعدادٍ متزايدة من طلاب الدراسات العليا في الشرق الأوسط وجنوب آسيا في فترة ما بعد الاستعمار الثقافي، استياء سعيد، الذي وجد نفسه في وقتٍ لاحق من حياته المهنية يتبنى موجة الدراسات المعادية للاستشراق التي خلقها، ولكنه شعر أنه قد أسيء فهمه. قال في كتابه «العالَم والنص والناقد» (1983): “إن الاختراق يمكن أن يصبح فخاً إذا تم استخدامه بشكل عشوائي ومتكرر وغير محدود”.

وكان كتاب «العالَم والنص والناقد» بمثابة نقطة الفراق بين سعيد، والنظرية الفرنسية. وهذا لم يكن مفاجئاً فقد رأى أن مفهوم دريدا عن عدم القدرة على اتخاذ القرار، وشكوك فوكو النيتشوية بشأن الحقيقة، قد تفشت في أمريكا خلال فترة حكم ريغان، فقد قدم كلاهما أعذاراً للتهدئة السياسية. وعكست خيبة أمله أيضاً إحساساً بالخيانة الشخصية، فقد تخلى فوكو عن القضية الفلسطينية، وجرحه دريدا عندما أشار إليه بـ”الصديق” بدلاً من ذكر اسمه في كتابه عن جينيت (Genet).
أصبح سعيد يفضل صحبة تشومسكي وجون بيرغر اللذين اعتقدا أن “هنالك دائماً أشياء ليست في متناول الأنظمة المهيمنة”. وأصبح أسلوبه أقل فوضوية وأكثر شفافية ودنيوية. وعمل على كشف الأيديولوجية الصهيونية في كتابه «المسألة الفلسطينية»، ولتشريح تصوير وسائل الإعلام الأمريكية المغرضة للمسلمين في «تغطية الإسلام». كما أنه أثبت نفسه كاتباً؛ حيث كتب عن الرواية العربية، ومصارعة الثيران، والتنس، والرقص الشرقي، وأجرى مقابلة مع جيلو بونتيكورفو، ونشر مقالات عن المنفى، وعن جلين غلاود، وأصبح من نقاد الموسيقى الكلاسيكية في البلاد.
اقرأ أيضاً: رواء مرشد.. نموذج لمعاناة الصحفيات الفلسطينيات في ظل حكومة “حماس”
اتسعت شهرة سعيد أكثر من أي وقتٍ مضى، وتدفقت إليه الرسائل التي تحمل شعار النازية أو التي تحتوي على الواقيات الذكرية المستخدمة. ووصلته رسائل تهديد مجهولة المصدر. وقام مكتب التحقيقات الفيدرالي بفحص سجلاته المصرفية والائتمانية، وفي عام 1985 وصفته رابطة الدفاع اليهودي بقيادة مائير كاهانا، بأنه نازي، وتعرَّض مكتبه إلى التفجير والتخريب.
وكانت بيروت، حيث تعيش والدته، أكثر خطورة على سعيد أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وذلك بسبب الغزو الإسرائيلي عام 1982 الذي أدى إلى مذبحة صبرا وشاتيلا على يد ميليشيا الكتائب اللبنانية المدعومة من إسرائيل، وطرد عرفات ومنظمة التحرير من لبنان؛ بل إن إدوارد سعيد تلقى تهديدات بالاغتيال من قِبل فلسطينيين؛ بسبب تحفظاته بشأن فعالية النضال المسلح. وخلال السنة التي أمضاها في لبنان، كتب سعيد أن تجربته هناك جعلته يدرك مدى “فقر تسميات مثل اليسار واليمين عندما تطبق على السياسة في لبنان”. يبدو أن برينان غير مقتنع بهذا؛ ولكن إدوارد كان يدرك تماماً ما يتحدث عنه.
كانت الحرب الأهلية في لبنان صراعاً على السلطة بين الجماعات الطائفية المتنافسة. وقد زاد من وقع الحرب وقسوتها التدخلات السورية والإسرائيلية. وكانت الفئة المستضعفة في البلاد هي أكبر الرابحين من هذه الحرب؛ فالشيعة بقيادة “حزب الله” قد حلوا محل منظمة التحرير في لبنان، كأكبر حركة مسلحة في البلاد، بدعمٍ من إيران، في ما وصفه سعيد بأنه “نظام استثنائي من القسوة الرجعية”.

كانت الكارثة في لبنان إيذاناً بنهاية المرحلة الثورية للحركة الفلسطينية. فعرفات ورجاله أصبحوا الآن تائهين في تونس، والمنظمة تسير على غير هدى. وبدأ الشقاق يدب بين سعيد، ومنظمة التحرير الفلسطينية؛ فقد كتب أنه في زياراته إلى تونس رأى ثواراً سابقين يشربون الويسكي الفاخر، ويسافرون بالدرجة الأولى، ويقودون سيارات فاخرة، ويحيطون أنفسهم بالمساعدين والحراس الشخصيين. وبدأ يعبر بلغة حذرة عن شكوكه في توجهات المنظمة. وقال في كتابه «بعد السماء الأخيرة» (1986) “إن إصرارنا على الكفاح المسلح قد تحول إلى عبادة للمواقف العسكرية المبتذلة وللبندقية وللشعارات المستعارة من نظريات حرب الشعوب في الجزائر وفيتنام. وهذا التركيز جعلنا نهمل الجوانب السياسية والثقافية المعقدة، والأكثر أهمية بالنسبة إلى نضالنا، ولعب في مصلحة إسرائيل”.
ولكن بعد ذلك بعام اندلعت الانتفاضة الأولى؛ حيث وجه الفلسطينيون في الأراضي المحتلة رسالة مباشرة للغاية إلى إسرائيل، وإلى “التونسيين” في منظمة التحرير. وفجأة انتقل مركز ثقل الحركة من الخارج إلى الداخل، وحاولت القيادة فرض نفسها على ثورة لم تشنها، ولم تكن تتوقعها. ابتهج إدوارد سعيد بالانتفاضة وأشاد بها باعتبارها “بالتأكيد أكثر التمردات المناهضة للاستعمار إثارة للإعجاب في هذا القرن”.
اقرأ أيضاً: أنماط العلاقات العربية- الإسرائيلية ومستقبل السلام في ظل اتفاقات أبراهام
وفي اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في نوفمبر 1988، تشارك سعيد ومحمود درويش في صياغة بيان منظمة التحرير الداعم لتسوية الدولتَين؛ ولكن في غضون عام واحد كان سعيد يشتكي للصحافة العربية علناً من فساد واستبداد منظمة التحرير. وكان غاضباً من دعم عرفات لصدام حسين في حرب الخليج، الذي أدى إلى إفلاس المنظمة، وأجبرها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات قبل الأوان.
وأثناء المفاوضات السرية بين الفلسطينيين وإسرائيل كان سعيد مذعوراً من انبطاح منظمة التحرير أمام الولايات المتحدة “الأب الأبيض الكبير” وقبولهم بالترتيبات التي تحكم على الفلسطينيين بدوام الاحتلال على الرغم من امتلاكهم علمهم الخاص. ولذلك، فليس من المستغرب أن تكون الخيانة هي محور الرواية غير المكتملة التي كان يعمل عليها بشكل متقطع بين عامَي 1987 و1992، والتي كانت إحدى شخصياتها أستاذة جامعية أمريكية من أصل عربي في منتصف العمر، منفصلة عن العرب في الغرب ومدركة لليهود وعاجزة عن التغيير وصادقة إلى درجة تصعب الوقوف إلى جانبها.

وفي عام 1993 أصبحت الخيانة رسمية بتوقيع اتفاق أوسلو، الذي وصفه سعيد بأنه “فرساي فلسطيني”. ولم يتحدث سعيد مع عرفات بعد الاتفاق. وعندما زار فلسطين لاحقاً أثناء تصوير فيلم وثائقي لصالح شبكة “بي بي سي” لم يشعر سعيد أنه في وطنه، في الضفة الغربية مع صعود الإسلام السياسي، وتراجع العلمانية الوطنية، التي لطالما كان ينادي بها.
حظرت السلطة الفلسطينية كتبه بسبب انتقاده عرفات، وعندما سُئل أحد نواب عرفات عن انتقاد سعيد لاتفاق أوسلو، أجاب بأن إدوارد سعيد كان أستاذاً للغة الإنجليزية، وأن آراءه حول السياسات الفلسطينية هي مثل آراء الرئيس عرفات في كتابات شكسبير.
♦محرر “لندن ريفيو أوف بوكس” في الولايات المتحدة، مقيم في نيويورك.
المصدر: لندن ريفيو أوف بوكس
لقراءة الحلقة الأولى: “الفلسطينية”- إدوارد سعيد (1-3)