الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةرفوف المكتبة
«الفكر الإسلامي المعاصر».. رؤية إيطالية معاصرة

كيوبوست – إيهاب الملاح
– 1 –
يمكن القول دون مبالغة إننا بإزاء عمل فكري وثقافي كبير؛ نموذج لمناهج التأليف الأوروبية المعاصرة في موضوع صعب وشائك ومتشعب ومتداخل الجذور والروافد؛ وهو الفكر الإسلامي المعاصر الذي ينضوي تحته عشرات التيارات والرؤى والتناولات؛ منها ما هو ممتد الجذور متصل بنشأة علوم الكلام والفلسفة والفقه في الحضارة الإسلامية، ومنها الحديث والمعاصر الذي انتهج سبل القطيعة المعرفية بالمعنى المنهجي والإجرائي بغرض الإصلاح والتجديد.
عبر رحلة زمنية تمتد لما يزيد على عشرة قرون يراوح مؤلف الكتاب (وهو المستشرق الإيطالي الشهير الراحل ماسيمو كامبانيني) جيئة وذهابا بينها، وبين نصوص أعلامها، وأشهر مفكريها وفلاسفتها؛ ويتوقف باستفاضة وتدقيق وتمعن أمام خريطة الفكر المعاصر من أقصى شرق العالم الإسلامي (غير الناطق بالعربية) إلى أقصى المغرب العربي؛ يجمع النصوص ويقرأها ويحلل ويقارن بينها ليستخلص منها في النهاية صورة دقيقة واضحة الملامح محددة القسمات لأبرز محطات ومفاصل هذا الفكر الذي اعتورته مشكلتان رئيسيتيان هما محور كل الجدل والنقاش والاجتهاد في المقاربة والتأليف والكتابة؛ وهما مشكلة فهم النص الديني وتأويله، ونقد التراث الديني في مجالاته وعلومه المتنوعة والمتعددة.
اقرأ أيضًا: ماسّيمو كامبانيني.. غياب قنطرة حضارية أصيلة
– 2 –
مؤلف الكتاب هو المستعرب الإيطالي الراحل ماسّيمو كامبانيني الذي رحل عن عالمنا في أكتوبر من العام 2020؛ وقد لعب دورا شديد الأهمية في حركة الاستشراق والاستعراب الإيطالي. تعددت إسهاماته العلمية والثقافية والفكرية بطرق شتى ما بين الترجمة والتأليف، والتدريس، والكتابة، والمحاضرات. وكان له دور أساسي وكبير وإسهام واضح في إثراء التراث الفلسفي العربي الإسلامي. وقام بتعريف المجتمع والجمهور الإيطالي بذلك التراث عن طريق الترجمة، فقد نقل إلى الإيطالية العديد والعديد من نصوص الفلاسفة المسلمين والمؤلفين الكلاسيكيين المهمين للغاية في الثقافة الإسلامية؛ مثل الغزالي وابن رشد والفارابي.

انصبت اهتماماته العلمية والبحثية في أربع حقول معرفية أساسية؛ هي الدراسات القرآنية، والفلسفة الإسلامية سواء القديمة أو المعاصرة، والفكر السياسي الإسلامي، وأخيرًا التاريخ المعاصر للبلاد العربية باهتمام خاص تجاه الحركات الإسلامية الأصولية.
ورغم ثراء وقيمة إسهامات كامبانيني العلمية في حقل الدراسات الإسلامية، فلم يترجم له سوى كتاب واحد فقط صدر قبل سنوات طويلة عن المركز القومي للترجمة بعنوان؛ كتابه المرجع عن «تاريخ مصر في العصر الحديث والمعاصر» الذي أرّخ فيه لمصر سياسيا واجتماعيا وثقافيا خلال الفترة من بداية تأسيس مصر الحديثة على يد محمد علي عام 1805 وحتى عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك.
اقرأ أيضًا: نكبات العقل المسلم.. من ابن رشد إلى نصر أبو زيد!
– 3 –
الكتاب أشبه بموسوعة مصغرة ومكثفة تجمع بين التأريخ والتصنيف والتحليل لمسيرة الفكر الإسلامي وتطوراته خاصة في بعده الفلسفي والكلامي، منذ النشأة وحتى الآن؛ وبما يمثل زخما حقيقيا من المعرفة التي يطويها هذا الكتاب بين صفحاته، فنجد أهم ملامح الفكر الإسلامي الذي تطور في الحقبة الزمنية المعاصرة في البلاد العربية الإسلامية، واتجاهه الفلسفي بشكل خاص، وما يشبه محاولة التأريخ للفلسفة العربية والإسلامية.
بعبارة أخرى؛ يمثل الكتاب بانوراما فريدة من نوعها حاول خلالها كامبانيني أن يلم شتات المشروعات الإصلاحية والفكرية الناقدة للتراث منذ البدايات الباكرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وحتى المشروعات الأحدث التي توزعت على مناطق متفرقة من العالمين العربي والإسلامي (من ماليزيا وإندونيسيا في أقصى الشرق الإسلامي مرورًا بإيران والشرق الأوسط ووصولا إلى المشروعات المغاربية اللافتة).

وقد استطاع المؤلف، كما يوضح المترجم في مقدمته، أن يجمع عناصر كثيرة في كتاب تجاوز عدد صفحاته ما يزيد على المائتي وخمسين صفحة متخمة عن آخرها بمعرفة وافية ودقيقة بالموضوعات التي تعرض لها، ووفرة هائلة في المادة التي جمعها واستقصاها بجهد وافر وعظيم، واستطاع ببراعة أن يحلل الكثير من النصوص والأفكار لشخصياتٍ عربية وغير عربية تنتمي إلى العالم الإسلام، بل استطاع في كثيرٍ من الأحيان عقد مقارنات وتشبيهات مع رموز الفكر الغربي والتطرق إلى مواجهة الفكر الإسلامي للإرث الفلسفي اليوناني متخذًا من النماذج العقلية والمقولات المنطقية مادة للمقارنة، كما ناقش المشكلات التي تثيرها هذه المقارنة أو المقارنات أيضاً، وذلك انطلاقاً من أسماء مثل الفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وابن باجة، وابن طفيل، وابن خلدون، وهم من الفلاسفة الرواد المسلمين، وكانوا يدرسون الفلسفة (أو يعيدون قراءتها) في ضوء تعاليم الإسلام، لكنهم ظلوا مختلفين عن مؤلفين آخرين؛ مثل: أبو يعقوب السجستاني، وابن حزم، وفخر الدين الرازي والمعتزلة الذين احتكوا بالثقافات الأخرى غير العربية والإسلامية؛ مثل الثقافة اليونانية.
كان ذلك هو المدخل الذي سلكه ماسّيمو كامبانيني للحديث عن الفكر الإسلامي المعاصر بوصفه نوعًا من استمرار الإرث الفلسفي الإسلامي بعد ابن رشد، وهو الإرث المستوحى بشكل كبير من ابن سينا، والفلسفة التي نطلق عليها “الفلسفة الإسلامية”.
اقرأ أيضًا: قراءات في كتب كبار الفلاسفة 5: آراء أهل المدينة الفاضلة…الفارابي
– 4 –
خصص ماسّيمو كامبانيني الجزء الأول من الكتاب لما أطلق عليه “التراث” وقد ضم هذا الجزء ثلاثة فصول: الأول منها عنوانه “النهضة الإسلامية” ويتحدث فيه عن الحداثة والإصلاح بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وإعادة بناء الفكر الديني عند محمد إقبال.
وجاء الفصل الثاني بعنوان “نقد الفكر العربي وتجديده” وتناول فيه نقاط مهمة عرض فيها ماسّيمو كامبانيني أهم القضايا الفكرية لشخصيات مثل مالك بن نبي، ومحمد عزيز لحبابي، وزكي نجيب محمود، ومحمد عابد الجابري، وحسن حنفي. أما الفصل الثالث والأخير في هذا الجزء الأول من الكتاب فقد كان بعنوان “البعد التراثي” وفيه تحدث ماسّيمو كامبانيني عن الغنوصية الإسلامية، وسيد حسين نصر، والتفسير العلمي للقرآن.

وجاء بعد ذلك الجزء الثاني بعنوان “التاريخانية والواقع الفعلي” وضم أربعة فصول أخرى، من الرابع إلى السابع. الفصل الرابع بعنوان “الإسلام والتاريخ” وفيه عرض ماسّيمو كامبانيني بعض النقاط مثل الإسلام والحداثة، ونصر حامد أبو زيد ومشكلة النص، وعبد الكريم سروش، ومحمد أركون والمغْفَل في الإسلام، و”الأيديولوجيا العربية المعاصرة” كما يراها عبد الله العروي.
أما الفصل الخامس فكان عنوانه “الإسلام والسياسة”، وفيه تحدث المؤلف عن قضايا السياسة المرتبطة بالفكر الإسلامي المعاصر وشخصيات عربية وإسلامية تطرقت لمثل هذه القضايا الفكرية، مثل محمود طه، وأحمد موصلي، وحسن حنفي، خالد أبو الفضل، فريد إسحاق.
اقرأ أيضًا: ذكريات حسن حنفي (1935-2018) المثيرة للجدل
وجاء الفصل السادس بعنوان “الإسلام الأصولي” وفيه تحدث كامبانيني عن شخصيتين؛ هما سيد قطب، وعلي شريعتي. أما الفصل السابع والأخير من الجزء الثاني والكتاب كله فقد خصصه الكاتب للسيدات، ولذلك كان عنوانه “الفكر النسائي” وتحدث فيه عن شخصيات إسلامية نسائية كانت لهن انشغالات بقضايا فكرية؛ مثل هدى شعراوي، ومريم جميلة، أمينة ودود، وفاطمة المرنيسي، وغيرهن.