الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

العملاق المقيد.. التجديد يتطلب ضبط النفس في الخارج

بعد ترامب و"كوفيد-19" ليس هنالك أمام بايدن من خيار سوى التركيز على إعادة البناء في الداخل.. لإعادة إرساء الأسس السياسية لنظام الحكم الثابت

كيوبوست- ترجمات

تشارلز كوبتشان♦

وضع الرئيس بايدن لنفسه أهدافاً طموحة في الداخل والخارج؛ فعلى الجبهة الداخلية وعد بايدن “بإعادة البناء بشكل أفضل” من خلال الاستثمارات الضخمة في جهود التعافي من جائحة “كوفيد-19″، وفي قطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية والتكنولوجيا الصديقة للبيئة. أما في الخارج فعليه أن يعكس نهج سلفه ترامب “أمريكا أولاً”، وأن يعيد الولايات المتحدة إلى المسرح العالمي.

ولكن بايدن لن يكون قادراً على أن يحقق كل ذلك، وعليه التركيز بشدة عل الشأنَين الاقتصادي والسياسي المتدهورَين في البلاد، وهذا بالطبع سيكون على حساب جهود البلاد في الخارج؛ ولكن هذا الأمر لن يكون سهلاً، فالولايات المتحدة منخرطة في حروبٍ خارجية منذ عام 1941، وعلى الرغم من محاولات الرئيسَين أوباما وترامب إنهاء هذه الحروب، فلا تزال القوات الأمريكية موجودة في العراق وأفغانستان حتى اليوم. وفي الوقتِ نفسه، عندما أدار الرئيس فرانكلين روزفلت ظهره للخارج في الثلاثينيات ترك المجال لألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية لتقسيم أوروبا وآسيا. ولا يستطيع بايدن ارتكاب الخطأ نفسه، وإفساح المجال للصين الناهضة وروسيا المشاكسة.

اقرأ أيضاً: هل تقف العلاقات السعودية- الأمريكية على مفترق طرق حاسم؟

لذلك يجب على بايدن أن يحقق توازناً دقيقاً؛ فسياسته الخارجية يجب أن تتحلى بالطموح الكافي لضمان مصالح الولايات المتحدة في الخارج، ولكن في الوقت نفسه يجب أن تكون محدودة بما يكفي كي تحظى بالتأييد الداخلي، ولأن تبقى متسقة مع الأولويات المحلية. ولكن تبقى الأولوية دائماً لاستثمار الوقت ورأس المال السياسي، وكثيرٍ من الأموال في التجديد في الداخل. وعلى المدى الطويل، فإن هذا الاستثمار الداخلي سوف يقوي الولايات المتحدة في الخارج؛ ولكن على المدى القصير، فإن ذلك سيفرض قيوداً على سياسة بايدن الخارجية، ومن الأفضل له أن يراعي هذه القيود. ربما تكون أمريكا قد عادت وأصبحت جاهزة لقيادة العالم؛ ولكن هذا الأمر سيكون ممكناً فقط بقدر ما تسمح به الظروف المحلية والدولية. وسيكون من الأفضل لبايدن أن يضع لنفسه أهدافاً واقعية وينجح في تحقيقها، من أن يضع أهدافاً طموحة يعجز عنها وتفقده ثقة الجمهور الأمريكي وثقة حلفاء أمريكا.

سياسة بايدن الخارجية: عودة الاستثنائية الأمريكية- “فاينانشال تايمز”

القيود المحلية 

إن أكبر القيود على سياسة بايدن الخارجية هو السياسة الداخلية. ربما كان ترامب رجل دولة بائساً، إلا أنه استشعر بشكلٍ صحيح أن جزءاً كبيراً من الناخبين الأمريكيين قد سئموا من تشابكات بلادهم الخارجية، وأنهم يرون أن الولايات المتحدة تكرس الكثير من مواردها لحل مشكلات دول أجنبية بدلاً من حل مشكلاتها المحلية. ويجب على بايدن أن يراعي توجه الأمريكيين العام نحو الداخل إذا أراد أن يحافظ على قوته السياسية، كما ينبغي عليه الحفاظ على سيطرته على الكونغرس في الانتخابات النصفية عام 2022، والحفاظ على الاستثمارات المحلية اللازمة لتهدئة السخط المحلي الذي أدى إلى صعود ترامب.

اقرأ أيضاً: ينبغي أن يكون التصدي لـ”وباء المعلومات” الأمريكية أولوية رئيسية لإدارة بايدن

وعلى الرغم من أن معظم الأمريكيين يرحبون بعودة رئيسٍ يدافع عن حقوق الإنسان وعن حلفاء أمريكا الديمقراطيين في الخارج، فإن حشد الدعم الشعبي لسياسة خارجية طموحة ومكلفة سيكون أمراً في غاية الصعوبة. فقد أظهرت استطلاعات للرأي أن نحو ثلاثة أرباع الناخبين الأمريكيين يؤيدون الانسحاب من أفغانستان والعراق، ونحو نصفهم يؤيدون انخراطاً عسكرياً أقل في الخارج. وأظهر استطلاع آخر أن معظم الأمريكيين يرون أن التهديد الرئيسي يأتي من الداخل، ويتمثل في العنف المحلي والتطرف. كما أن اهتمام الشباب الأمريكيين بقضايا تغير المناخ وحقوق الإنسان يفوق كثيراً اهتمامهم بقضايا الأمن التقليدية، ولم تعد التهديدات الجيوسياسية تشغل بال الأمريكيين كما كانت تفعل من قبل.

أيضاً شهدت المواقف من التجارة الحرة تغيراً مماثلاً؛ فحتى وقتٍ قريب كان يفترض أن تؤدي التجارة الحرة والأسواق المفتوحة إلى الازدهار في الداخل والخارج على السواء، وأن يؤدي صعود الطبقة الوسطى إلى تعزيز الديمقراطية حتى في الصين وروسيا. أما الآن فقد أصبحت عبارة التجارة الحرة ممجوجة عند الديمقراطيين والجمهوريين على السواء؛ فالشعور السائد بين الأمريكيين هو أنهم لم يستفيدوا من العولمة وأصبحوا يميلون إلى اتفاقيات أكثر ملاءمة للعمال الأمريكيين.

اقرأ أيضاً: ماذا يريد العالم من جو بايدن؟

يبدو أن بايدن يتفهم حدود قدرته على المناورة بهذا الشأن؛ فأكبر مبادراته بهذا الشأن حتى الآن تقتصر على أمر تنفيذي يوجه الحكومة إلى تشجيع شراء واستخدام المنتجات الأمريكية؛ في محاولة لمواجهة المنافسة الصينية التي تؤدي إلى فقدان الوظائف في الولايات المتحدة.

بايدن يوقع أمراً تنفيذياً يشجع الحكومة على شراء السلع والخدمات الأمريكية- “ديترويت نيوز”

ومن ناحيةٍ أخرى، فإن بايدن مقيد أيضاً عندما يتعلق الأمر بالتزام الولايات المتحدة بالمؤسسات الدولية؛ فالنظام الدولي القائم على المعاهدات التي تمت في منتصف القرن العشرين قد عفَّى عليه الزمن، ولم تعد شبكة التحالفات المتمركزة في الولايات المتحدة تتمتع بالثقل الجيوسياسي ذاته مع توسع نفوذ الصين في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، بالإضافة إلى أن هذه المنظمات لم تعد قادرة على التعامل مع التحديات المعاصرة؛ مثل التغيرات المناخية والصحة العالمية والأمن السيبراني.

اقرأ أيضاً: فوز بايدن وشكل السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط!

وحتى لو رغب بايدن في تجديد البنية المتدهورة لهذه المنظمات، فإنه سيلقى معارضة كبيرة من الجمهوريين الذين تحدث ترامب باسمهم، قائلاً: “لن نسلم هذا البلد أو شعبه بعد الآن لأغنية العولمة الزائفة”. ولذلك فمن غير المرجح أن يوافق مجلس الشيوخ على معاهدات جديدة بهذا الصدد. ويبقى الخيار الوحيد أمام بايدن هو استخدام الأوامر التنفيذية، كما فعل أوباما من قبله في اتفاقية باريس حول المناخ والاتفاق النووي الإيراني. ومع أن هذه الصفقات أفضل من لا شيء، فإنها تبقى ضعيفة ومعرضة لتأثير تغيرات السلطة في الولايات المتحدة؛ ما يسبب الكثير من الشكوك عند الحلفاء والخصوم في مصداقية الولايات المتحدة. لذلك يجب على بايدن أن يعمل على تأمين الدعم الشعبي لاتفاقياته التي سيعقدها؛ لضمان المحافظة عليها في حال عودة الجمهوريين إلى السلطة.

اقرأ أيضاً: كيف تستطيع أوروبا والولايات المتحدة أن تجددا تحالفهما؟

أموال أقل.. مشكلات أكثر

يواجه بايدن أيضاً قيوداً اقتصادية على سياساته الخارجية، فحزمة المساعدات التي اقترحها لدعم انتعاش الاقتصاد بعد الجائحة والبالغة 1.9 تريليون دولار، بالإضافة إلى 900 مليون التي وافق عليها الكونغرس في ديسمبر الماضي، تمثل “أجرأ إجراءات في السياسة الاقتصادية الشاملة التي تهدف إلى ترسيخ الاقتصاد في تاريخ الولايات المتحدة”، وفقاً لوزير الخزانة السابق لاري سامرز. ومع ذلك فهي لا تشكل إلا غيضاً من فيض مما يخطط له بايدن في السنوات الأربع المقبلة؛ حيث من المتوقع أن تضيف هذه الخطط نحو ثمانية تريليونات دولار إلى الديون الأمريكية.

وفي الوقت الراهن، يبدو أنه من المنطقي الاستدانة من أجل إعادة الاقتصاد إلى الوقوف على قدميه، وليس من أجل مهام خارجية. فبوجود الأزمة الاقتصادية الداخلية، وبعد موت أكثر من نصف مليون أمريكي بسبب الجائحة، أصبح من الصعب جداً تبرير بذل الأموال والجهود لتحقيق الاستقرار في أفغانستان. وحتى لو بقيت ميزانية الدفاع عند رقم 750 مليار الحالي، فإن زمن إنفاق ستة تريليونات دولار على حروب غير منتهية في الخارج قد ولَّى إلى غير رجعة. ويجب أن تتركز أولوية بايدن على تخفيف الأعباء العسكرية الخارجية، وإقناع الحلفاء بتحمل أجزاء منها. ومع أن إدارته ربما ستراجع الجدول الزمني الذي وضعه ترامب للانسحاب من أفغانستان والعراق وسوريا، فمن المؤكد أنه سوف يمضي بهذه الجهود إلى جانب تخفيف البصمة العسكرية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. وهذا سوف يساعده على المحافظة على وجود عسكري قوي في المناطق الأكثر أهمية؛ أي أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادي، حيث يبقى الحد من الطموح الروسي والصيني مصلحة حيوية بالنسبة إلى الولايات المتحدة.

الصين ستكون صاحبة الاقتصاد الأكبر عالمياً بحلول عام 2030.. وستبقى الولايات المتحدة هي الأولى بين متساوين في النظام العالمي- “فاينانشال تايمز”

القيود الخارجية

وأخيراً، فإن سياسة بايدن الخارجية تواجه عقبات دولية قوية. وعلى الرغم من وعده بأن الولايات المتحدة “عادت مستعدة لقيادة العالم”، فهو سيواجه حقيقة أن العالم أصبح أقل استعداداً للانقياد؛ فالصين ستكون صاحبة أكبر اقتصاد في العالم بنهاية العقد الحالي، ومبادرة الحزام والطريق سوف توسع كثيراً من نفوذها. وموسكو قد تحالفت مع الصين للحد من نفوذ واشنطن، وهي ترغب في عالمٍ متعدد الأقطاب يتحدى الولايات المتحدة. وتدخلاتها العسكرية في جورجيا وأوكرانيا والشرق الأوسط تصب في هذا الاتجاه. كما أن حكومة تركيا المستبدة بدأت أيضاً بإرسال قوت ومرتزقة إلى القوقاز وليبيا وسوريا وتقف في مواجهة اليونان في التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، وفي ترسيم الحدود البحرية.

اقرأ أيضاً: الإدارة الأمريكية تدرس تعليق المساعدات الإنسانية لليمن

لقد تعهد بايدن بالدفاع عن الديمقراطية في البلاد وفي الخارج؛ ولكن تنامي نفوذ الدول الاستبدادية يعني أن إدارته ستكون بحاجة إلى أن تخطو بحذرٍ شديد حتى في إدانتها انتهاكات الحريات السياسية وحقوق الإنسان؛ لأن الكثير من أولويات بايدن الدولية مثل المناخ والصحة العالمية، وتقييد طموحات كوريا الشمالية النووية، يتطلب بالضرورة العمل مع بكين، وحكومات أخرى غير ديمقراطية، وسوف تحتاج واشنطن إلى العمل مع موسكو من أجل تجنب سباق تسلح جديد، واستعادة سيادة أوكرانيا. وأردوغان يعتبر زبوناً صعباً قد قوض الديمقراطية التركية، ومع ذلك من الضروري التعامل مع أنقرة من أجل تحقيق الاستقرار في منطقة مضطربة. ولن تتمكن الولايات المتحدة من لعب دور قيادي في ما وراء البحار، ما لم ترتب بيتها الداخلي أولاً.

لا بد للولايات المتحدة من التعاون مع الصين في قضايا المناخ والصحة والأمن السيبراني- أرشيف

حتى حلفاء الولايات المتحدة الديمقراطيون التقليديون باتوا يرفضون العودة إلى دور الشركاء الصغار؛ فالرئيس الفرنسي ماكرون يروج لفكرة تمتع أوروبا بما يسميه “الحكم الذاتي الاستراتيجي”، لمنع الاحتكار الثنائي الصيني- الأمريكي. وصرحت وزيرة الدفاع الألمانية برغبتها في أن تكون أوروبا “قادرة على التصرف باستقلالية”، وأن تكون “شريكاً قوياً على قدم المساواة، وليست تحت رعاية أو في حاجة إلى مساعدة الولايات المتحدة”.

ويجب على بايدن أن يسعى للتعامل مع هذه القيود بشكل مباشر من خلال منح الحلفاء نفوذاً أكبر مقابل تحملهم مسؤوليات إضافية. وإذا أرادت الصين من واشنطن أن تعطيها مساحة أكبر، فإن عليها أن تقدم المزيد من المساهمات على الصعيد الدولي في مهمات حفظ السلام والصحة الدولية، وإعادة الإعمار بعد الصراعات على سبيل المثال، وإذا أرادت أوروبا أن تكون شريكاً على قدم المساواة، فإن عليها اكتساب المزيد من القدرات العسكرية والوزن الجيوسياسي. وستكون الولايات المتحدة قادرة، بل يجب عليها أن تتراجع حيث يكون الآخرون مستعدين للتقدم.

اقرأ أيضاً: كيف تتسلل الصين إلى داخل الجامعات الأمريكية؟

إعادة البناء بشكل أفضل 

بعد ترامب و”كوفيد-19″ ليس هنالك أمام بايدن من خيار سوى التركيز على إعادة البناء في الداخل؛ فالإصلاحات الداخلية ضرورية ليس فقط لمنع عودة الليبرالية الغاضبة المدمرة للسنوات الأربع الماضية؛ بل أيضاً لإعادة إرساء الأسس السياسية لنظام الحكم الثابت. وهذا الأمر يتطلب أن يصارح بايدن الأمريكيين بشأن القيود المحلية والدولية الكبيرة التي تواجهها سياسته الخارجية. فبعد أن دمر ترامب مصداقية الولايات المتحدة وبعد خطابه المنفصل عن الواقع، ستكون هذه الصراحة حيوية لاستعادة الولايات المتحدة دورها القيادي؛ حيث سيكون على الولايات المتحدة أن تقود ولكن بلمسة أخف تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الداخلية والعالمية التي حدثت منذ أن تولت القيادة على المسرح الدولي في الأربعينيات من القرن الماضي.

وبينما يشرع بايدن في جهود إصلاح البلاد فإنه محق في رفضه أسلوب ترامب الخاطئ في التعاطي مع العالم؛ ولكنه في نفس الوقت يجب أن يتابع مسيرة ترامب في تصحيح الانخراط المفرط للولايات المتحدة في الخارج على الصعيد العسكري وأن تقليص التزاماتها الخارجية واختيار معاركها بعناية أكبر، ودفع حلفائها لفعل المزيد. ويجب أن يقترن طموح أجندة بايدن الداخلية بتواضع في سياسته الخارجية وهذه هي المعادلة الصحيحة “لإعادة البناء بشكل أفضل” في الوطن وفي الخارج.

♦أستاذ الشؤون الدولية بجامعة جورج تاون وزميل أول في مجلس العلاقات الخارجية

المصدر: فورين أفيرز

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة