الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

العالم يواجه حرباً عالميةً عنوانها القيم

يميل الصراع القائم على القيم إلى أن يكون صراعاً لا تهاون ولا هوادة فيه، لأن القيم لا تتجزأ.

كيوبوست- ترجمات

يورجن أورستروم♦

يبدأ يورجن أورستروم، الوزير الدانماركي السابق، مقاله في “ذا ناشيونال انترست” بالحديث عن حرب أوكرانيا كمثالٍ على ما سماها “حرب القيم” التي يشهدها العالم هذه الأيام.

يقول: لا نعرف متى وكيف ستنتهي الحرب في أوكرانيا، لكن كل الحروب تنتهي في نهاية المطاف، غير أن الصراعات الكامنة وراء هذه الحرب الحالية لن تنتهي، فهي عالمية ودائمة، وسوف تختلف عن أي نوعٍ من الحروب في العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين.

يرجع هذا لسببين؛ أولاً، تصميم الغرب على الدفاع عن هيمنته على العالم اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً. وثانياً -وهذا يصعب تحديده- الصدام بين منظومتي قِيَم متعارضتين.

في بعض الأحيان يُصوّر هذا على أنه “الديمقراطية مقابل الاستبداد”، لكن هذا المنظور سطحي وغير دقيق، الأمر يتعلق أكثر بالتخلي عن القيم العائلية أو الحفاظ عليها، كما عرفناها منذ عدة آلاف من السنين. ربما يكون من الأدق القول إن الصراع الثاني يدور حول ما إذا كان المرء يقبل أو يرفض الاتجاه العدواني لليبرالية -ما يسميه البعض “اليقظوية”[1]– في ثقافتهم الوطنية.

هذان الصراعان يتصادمان لأسبابٍ تاريخية في أوكرانيا، التي تمثل “أداة استشعار” تلفت انتباهنا إلى ما سيحدد لعبة القوة العالمية لفترةٍ طويلةٍ جداً.

تُشكِّل حرب روسيا وأوكرانيا مخاطر متعددة مترابطة- وكالات

تراجع الغرب منح فرصة للصين

منذ بداية عصر التصنيع، حكم الغرب العالم، ولكن على مدى السنوات السبع والثلاثين الماضية، تغيّر هذا.

دعونا نُلقي نظرةً على الأرقام الاقتصادية “الخام” التالية: في عام 1985، شكّلت الولايات المتحدة 34% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، والاتحاد الأوروبي 21.4%، ليشكل الاثنان مجتمعين 55.4%، ما يعني أن الغرب كان ينتج أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، قبل أقل بقليل من أربعين عاماً. ومع ذلك، ابتداءً من العام الماضي (2022)، تمثل الولايات المتحدة 21.9% بينما يمثل الاتحاد الأوروبي 16.9%. ويمثل الاثنان مجتمعين 38.8%، وهو انخفاض كبير بنسبة 16.6 في المائة.

وبالمثل؛ طرأت تطورات ملحوظة في المجال العسكري والأمني؛ في عام 1985، احتفظ الاتحاد السوفيتي بترسانة عسكرية لا يمكن مقارنتها تماماً بالولايات المتحدة، ولكنها هائلة بما يكفي لإبقاء العالم تحت سيطرة نظام عسكري ثنائي القوة.

 منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، كانت الولايات المتحدة أقوى قوة عسكرية إلى حدٍّ بعيد، لكن القدرات المتنامية للصين والدول متوسطة الحجم في جميع أنحاء العالم تؤدي إلى تآكل التفوق الأمريكي.

من الناحية الثقافية، قد يكون التحوّل أكثر أهميةً؛ في السنوات التي تلت عام 1991، كانت الولايات المتحدة قوةً ثقافيةً عظمى. مرَّ الترفيه والاتصالات والشبكات الاجتماعية والأنشطة الترفيهية التي تحكم الحياة اليومية للناس في جميع أنحاء العالم من خلال منظورٍ أمريكي تمثله شركات ضخمة. وليست “فيسبوك وجوجل وآبل ومايكروسوفت وأمازون”، سوى أحدث هؤلاء.

هناك خلاف حول مدى قرب هذه الشركات من الحكومة الأمريكية وأجندتها، ولكن ما لا يمكن الجدال فيه هو أنها مارست نفوذاً هائلاً على تفكير مليارات الأشخاص وتفضيلاتهم. والآن؛ هذا الموقف يواجه تحدياً، ليس حصرياً، ولكن في المقام الأول، من قبل الشركات الصينية التي أعلنت التحدي. ومع ذلك، تحاول الولايات المتحدة اتخاذ إجراءات لدرء هذا التحدي. “تيك توك”، على سبيل المثال، هو تطبيقٌ لمشاركة الفيديو مملوك للصين مع أكثر من مليار مستخدم بحلول نهاية عام 2022.

اقرأ أيضًا: بعد عام من الحرب في أوكرانيا.. مزيد من البؤس ولا نهاية في الأفق

الغرب يقاوم

يدرك الغرب تراجعه النسبي، وبالتالي، يسعى إلى تعزيز موقفه. ولنتأمل هنا “تيك توك” مرةً أخرى؛ فقد أدّت المخاوف بشأن المخاطر الأمنية -أن المعلومات التي يجمعها التطبيق تُمرّر إلى الحكومة الصينية- إلى حظره في الهند والولايات المتحدة (على أجهزة موظفي الحكومة الفيدرالية) والمفوضية الأوروبية (نفس سياسة الولايات المتحدة). وعلى الرغم من أن هذه الجهود تستند إلى منطقٍ أمني، فإنها تهدف أيضاً إلى حماية القوة والنفوذ الاقتصادي والتكنولوجي.

وبالمثل؛ على الجبهة الاقتصادية/التكنولوجية، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على بيع أشباه الموصلات المتطوّرة إلى الصين في محاولة لإحباط التقدم في تطوير التكنولوجيا الفائقة، خاصةً فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي. وعلى نحوٍ مماثل، يُغلَق الباب أمام استثماراتٍ صينية مختارة في الدول الغربية. وهكذا، نجد أن الحواجز التي تمنع الاستثمار الأجنبي المباشر القادم من الشركات الصينية، خاصةً فيما يتعلق بالتكنولوجيا، ترتفع بسرعة، إضافةً إلى ذلك، فإن قانون خفض التضخم، الذي اعتمده الرئيس جو بايدن ليصبح قانوناً في أغسطس 2022، يرقى إلى العودة إلى السياسة الصناعية الأمريكية في محاولة للتنافس مع الصين اقتصادياً.

مصنع لإنتاج أشباه الموصلات في بكين حيث تقيم الولايات المتحدة تحالفات لمواجهة التقدم التكنولوجي الصيني- أسوشيتد برس

على الصعيد الدولي، يصر الغرب على إعطاء الأولوية للموارد، والسيطرة على الاتصالات العالمية، وتحديد النظام العالمي القائم على القواعد، كما كان الحال بالنسبة لصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، بالإضافة إلى عددٍ كبير من وكالات الأمم المتحدة الخاصة التي اضطلعت بدورٍ أساسي في وضع المعايير والقواعد العالمية.

في هذا النظام، يمكن لبقية دول العالم أن تدّعي النفوذ بما يوازي مكانتها المتنامية. كان هناك شعور منذ فترة طويلة بأن الغرب يدافع عن هذا النظام طالما أنه يصب في مصلحته. ولكن الآن، عندما يدخل عددٌ من الدول غير الغربية في شريحة اقتصادية أعلى، يتلاشى الحماس للقيام بذلك. وتعكس المفاوضات بشأن تغيّر المناخ ذلك.

اقرأ أيضًا: الحرب في أوكرانيا ستنتهي على طاولة المفاوضات

حربٌ بشأن القيم

على مدى العقود الأخيرة، يتحرك الغرب لإحداث تغييرٍ جوهري في نسقه القيمي، إذ يخفّف القيم الراسخة -في المقام الأول، ولكن ليس كلياً، الراسخة في المسيحية- أو يغيّرها ليبني نظاماً قائماً على القيم، ولكن مختلف.

يمكن رؤية ذلك من خلال المناصرة المستمرة لقضية المثليين، التي تؤدي إلى بنية عائلية لم يُسمع بها من قبل، وفي بعض الحالات، كانت غير قانونية قبل مائة أو حتى خمسين عاماً.

بقية العالم لا يحذو حذو الغرب. تلتزم غالبية البلدان خارج المجال الغربي بالقيم “القديمة”. ومع ذلك، فإن هذا يؤدّي على نحوٍ متزايد إلى الخلاف بين الغرب وبقية العالم. لا تكمن المشكلة في أن لدينا منظومتين للقيم؛ بل في أن الغرب يرى أن نظام القيم “الجديد” هذا يجب أن يتبناه أيضاً بقية العالم، وهو نوع ما من موقف “نهاية التاريخ” الثقافي؛ لقد وجد الغرب نظام القيم المطلق.

أما بقية العالم فهو لا يوافق على ذلك، إنهم يعترفون بحق الغرب في تشكيل منظومته القيمية الخاصة في الداخل، ولكن ليس فرضها على الطرف الآخر، فيما يُسمى في بعض الحالات “الإمبريالية الثقافية”، حيث يلقي الغرب على الدول الأخرى المحاضرات، ويطلب منها تبنّي قيم محددة.

تجدر الإشارة إلى أنه حتى داخل المجتمعات الغربية، هناك معارضة -وفي بعض الحالات، معارضة قوية- للقيم الجديدة. في الولايات المتحدة، قد يكون دعم دونالد ترامب والسياسيين الجمهوريين ذوي التفكير المماثل جزئياً، بسبب الاستياء من ثقافة “اليقظوية”.

وخلال الانتخابات الرئاسية الفرنسية في أوائل عام 2022، سلّطت مارين لوبان، الضوء على هذه اليقظوية كتهديدٍ محتمل للثقافة الفرنسية. وفي إيطاليا، تحتفي رئيسة الوزراء جيورجيا ميلوني، التي تتولى منصبها منذ أكتوبر 2022، بالقيم العائلية التقليدية وقالت: “لا للوبي مثليي الجنس ومزدوجي التوجه الجنسي وللمتحولين جنسياً”.

حققت جورجيا ميلوني انتصاراً تاريخياً

عندما نضع هذا في الاعتبار، لا تصبح الحرب في أوكرانيا مفاجِئة. في الواقع، إنها ليست حرباً تقليدية، ولا تتعلق بأمن الدول، ولا حرباً بين نسقين مجتمعيين كما كان الحال قبل عام 1991 مع الولايات المتحدة مقابل الاتحاد السوفيتي. إنها حربٌ أشعل فتيلها نسقان قيميان مختلفان، يواجهان بعضهما الآخر.

في الواقع، روسيا، أو على الأقل جزءٌ كبيرٌ منها، أوروبية جغرافياً، ولكنها في المسائل الثقافية تقف إلى جانب بقية العالم. وهيكلها الاقتصادي لا يتفق مع هيكل الغرب. إضافةً إلى ذلك، فإن سكانها لم يعيشوا أبداً في كنف الديمقراطية. وبالتالي؛ فإن السكان ليسوا عُرضةً لحركة “اليقظوية”.

كما أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية ترفض بشدة القيم الغربية، وتبشر بفضيلة الثقافة الروسية الراسخة فيما يرقى إلى العكس تماماً لثقافة “اليقظوية”. والشعب الروسي يعتبر نفسه مميزاً، وليس متشابهاً في التفكير مع أوروبا. روسيا والروس، على الرغم من كونهم فاعلاً رئيسياً في التاريخ الأوروبي، لم يضطلعوا بدورٍ رئيس في تشكيل نسقها القيمي. عصر النهضة والتنوير والتصنيع، كما خبره الغرب، لم يصل أبداً إلى روسيا. لدى روسيا ثقافتها الخاصة بالتأكيد، ولكنها ليست جزءاً أصيلاً من النسيج الأوروبي.

أوكرانيا مختلفة، أو بالأحرى، جزءٌ كبير من الناس الذين يعيشون هناك، مختلفون، إنهم يشتركون في القيم الغربية، يمكن لجزءٍ كبير من أوكرانيا أن يتتبع جذوره إلى الدول والإمبراطوريات الأوروبية، مثل الكومنولث البولندي-الليتواني، الذي سيطر على جزءٍ كبير من شرق أوروبا الوسطى من 1569 إلى 1795، وبعد ذلك إمبراطورية هابسبورغ حتى عام 1918. ومن المثير للاهتمام أن المعارضة الرئيسة داخل أوكرانيا، والتعاطف مع روسيا والقيم الروسية، موجودٌ في الجزء الشرقي من الدولة، حيث لم تتجذّر أي من هاتين الظاهرتين السياسية والثقافية.

اقرأ أيضاً: ندوة “عين أوروبية على التطرف” بشأن التداعيات العالمية لغزو روسيا لأوكرانيا

هذا الصراع القائم على القيم سيظل معنا لفترةٍ طويلةٍ جداً. في الوقت المناسب، قد يفكك الدول القومية ويولّد نوعاً من الصراع العالمي بين الشعوب بدلاً من الدول. هناك سابقة لهذا؛ حرب الثلاثين عاماً، التي دارت رحاها في أوروبا بين عامي 1618 و1648 بين الكاثوليك والبروتستانت.

لقد كانت الدولة القومية نفسها نتاجاً لحرب الثلاثين عاماً. من الممكن تماماً أن يتلاشى المفهوم نفسه بفعل حربٍ أخرى على القيم. كيف يمكن للدول القومية أن تستمر في كونها الإطار المُحدِّد للسياسة الدولية وتوحيد الناس المنقسمين بشدة حول القيم الأساسية؟

المؤشرات ليست مُبشِّرة، ذلك أن الصراع القائم على القيم يميل إلى أن يكون صراعاً عنيداً، لأن القيم لا تتجزأ، ولا يمكن التوصل إلى حلولٍ وسط، والتعصب يكتسب أرضية “نحن” على حق، و”هم” على خطأ.

[1] المترجم: اليقظوية أو الاستيقاظ (wokeism) هو تيار يدعو الناس ليكونوا متيقظين حيال أي ممارساتٍ عنصرية، علاوة على المطالبة بالعدالة الاجتماعية الهادفة إلى حماية جميع الأقليات غير الممثلة في المجتمع.

♦وزير الدولة السابق لوزارة الخارجية الملكية الدنماركية، ومؤلف كتاب “تحوّل آسيا: من العولمة الاقتصادية إلى الإقليمية”، 2019، وكتاب “تحت ستار الظروف: التكنولوجيا والقيم والتجريد من الإنسانية ومستقبل الاقتصاد والسياسة”، 2016.

المصدر: ذا ناشيونال انتريست

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة