الواجهة الرئيسيةترجمات
العالم قبل “كورونا”.. كيف غيرت الأوبئة حياة العاصمة موسكو عبر تاريخها؟

كيوبوست – ترجمات
ترجمة د. نجاة عبد الصمد
◊أوليغ ماتفييف
من إحدى قاعات متحف موسكو انطلقت عبر الإنترنت ندوةٌ عن سلوك الناس في أزمنة الأوبئة بتأثير الذعر، وكيف تتغير حياة المدن بعد كل وباء. شارك في الندوة: ألكسندرا أركيبوفا باحثة أولى في كلية الدراسات الإنسانية، ورانيبا أستاذ في جامعة فلكلور الروسية الحكومية الإنسانية، وبافيل جنيلوريبوف باحث في متحف موسكو.
تعرضت مدينة موسكو العريقة منذ القرن الثاني عشر إلى العديد من الحرائق والفيضانات والأوبئة؛ كان من أخطرها الطاعون عام 1770، والكوليرا عام 1830، والجدري عام 1959.
شاهد: فيديوغراف.. الطاعون في العصر الأموي
وصل الطاعون إلى موسكو مع بداية الحرب الروسية التركية في أواخر القرن الثامن عشر؛ جاء من جهة الجنوب من مدينة بريانسك. اكتشف الطبيب أفاناسي شافونسكي، عدداً من الحالات في مستشفى عسكري كان يقع، آنذاك، في منطقة جبال فيفيدينسكي (ليفورتوفو حالياً). استشعر خطورة المرض وسماه: “الحمى الشريرة”. وأمر بإشعال النيران حول المنطقة بقصد عزلها، وفرض الحجر الصحي على المصابين: صمم لهم ثكنات منفصلة، ووضع حولها حراسة مشددة، فاتهمه الجميع بمحاولة بث الذعر بين الناس، تماماً كما حدث في مدينة ووهان الصينية هذا العام.
كان تعداد سكان موسكو أيامها مئتي ألف نسمة، بدأ فيها طاعون موسكو العظيم من منتزه صوفيا الواقع مقابل الكرملين. كانت هناك منشأة صناعية ضخمة يشتغل فيها آلاف العمال، توفي منهم نحو 130 شخصاً، وهرب الباقون إلى المدينة، ونشروا فيها الوباء والذعر. لم تكن التعليمات التي أعطتها الحكومة للناس كافية؛ أوصت فقط بغسل العملة المعدنية بالخل وتبخير السطوح بدخان العرعر والشيح. توفي شخصٌ بعد أربعة أيام من ظهور المرض، كتبوا في سبب الوفاة “اشتباه بالطاعون”، وأُرسل أقاربه إلى الحجر الصحي، وأنشئت 14 وحدة صحية في أحياء مختلفة من مدينة موسكو، وعزِل جميع المتسولين في بيت صغير. (رسمياً كان عدد المتسولين في موسكو نحو 1400 متسول).

اختبأ جميع المسؤولين من الوباء، ولم تصل جميع الأخبار إلى سانت بطرسبرغ؛ حيث مركز القرار، ثم غادر حاكم موسكو المدينة، وفرّ منها كذلك ممثلو الحكومة.
لم تتوفر الرعاية الطبية، وانخفضت الإمدادات الغذائية انخفاضاً كبيراً.
أُغلقت المصانع والعديد من المحلات التجارية، وارتفعت الأسعار، وتوقفت أشغال السكان، ولم يعد لديهم دخلٌ، ولم يسمح لهم قانونياً ببيع أغراضهم، سادت تجارةٌ محدودة بملابس ومقتنيات الموتى، كما أُغلقت الحمامات وأمكنةُ الغسيل والترفيه والشراب، كما استحالت مغادرة المدينة.
لم تتخذ أية إجراءات بشأن الجامعات، فلم تكن الجامعة تلعب دوراً مهماً في المدينة في تلك الفترة. تباطأ التعليم في المدينة، ولقي بعض الأشخاص حتفهم في الجامعة، وهذا ما ورد في مذكرات جميع المعاصرين لتلك الحقبة.
بدا الناس يائسين، كمن ينتظر معجزة، تزايدت الفوضى بينهم ببطء، ثم بدأت أعمال شغب الطاعون في سبتمبر 1771.
قرعت حشود الناس على جرس برج الإنذار في الكرملين، وتقدم الحشد الغاضب إلى أيقونة أم الرب في كنيسة بوغوليوبسك، توجه إليهم رئيس أساقفتها “أمبروز”، برجاء عدم التعرض إلى الأيقونات، لكنهم مزقوا “أمبروز” إلى أشلاء، مع غيابٍ تام للمؤسسات الحكومية عن المدينة. كان جميع الجنود تقريباً على الجبهات، ولم يبق منهم في موسكو سوى فوج فيليكولوتسك الذي يبلغ عدد جنوده 350 فقط، فموسكو لم تكن العاصمة. ولم يكن فيها رجال شرطة إلى أن برز شخص إيروبكين قائداً لموسكو.
اقرأ أيضًا: الحرب البيولوجية منذ عصر اليونان حتى “كورونا”
جمع إيروبكين 130 جندياً وضابط شرطة وأخذ عدة بنادق. طالب المتمردين بالهدوء قبل أن يأمر بإطلاق الرصاص. استعاد إيروبكين النظام في المدينة بعد موت نحو 200 شخص في أعمال الشغب، وبعد أن تلقى هو نفسه ضربتين قويتين: حجراً في ساقه وجرحاً يحتاج إلى خياطة. هذا ما أطلق عليه المعاصرون “الضرب بالقرب من أسوار الكرملين”، وكانت تلك آخر مظاهر لأعمال الشغب في العصور الوسطى في موسكو، وقامت السلطات بنفسها بقطع جرس الإنذار في بعض الأمكنة؛ كي لا يلجأ المشاغبون إلى استخدامه، علماً بأن رنين الجرس كان أفضل وسيلة إعلام أو طريقة اتصال في العصور الوسطى. جرى التحقيق في القضية، وأعدم أربعة أشخاص بتهمة قتل أمبروز وضُرب الكثيرون بالسياط، ونفي 173 شخصاً إلى سيبيريا. ورغم استخدام جميع أساليب التعذيب السائدة في القرن الثامن عشر؛ فإنهم لم يعثروا على محرضين حقيقيين لانتفاضة الناس. “كان أداءً عفوياً لبشر يائسين”، هكذا وصفت الإمبراطورة يكاترينا موجة الشغب تلك.
انتشرت بين الناس شائعات بأن الوباء فكرة اخترعها الأطباء بأمر من السلطة، أو أنه صناعة عدو خارجي؛ تخريب بولندي مثلاً لاختراق صفوف الشعب الروسي، ولم يكن ممكناً اكتشاف أو ملاحقة مطلقي الشائعات؛ لأن موسكو كلها كانت تعج بالشائعات. لم تكن ثمة وسائل إعلام مطبوعة يومها، وكانت المعلومات الرسمية لا تزال تعلن شفوياً.

لم يكن في موسكو عام 1770 سوى 23 طبيباً، ولم يكن الناس عموماً في القرن الثامن عشر يثقون في الأطباء أو الطب الرسمي بعد، بقدر وثوقهم بالطب الشعبي أو الشعوذة. وكانت الكنيسة، وبالتحديد كهنة الكنيسة، المرجعية الأولى للناس، وكان الناس العاديون أكثر طاعةً لسلطة الكهنة أكثر من سلطة الدولة. وحين أصدر الأطباء دليلاً بالتعليمات الطبية طبعت في مئتي نسخة، تم تداولها وقراءتها في الكنيسة مرتين في اليوم؛ قبل القداس وبعده، وكان لها تأثيرها الكبير، ولو صدرت أبكر قليلاً فلربما كان من الممكن أن تمنع أعمال الشغب.
ثم جاء (المنقذ، حارس الحياة)! أورلوف الأثير لدى الإمبراطورة يكاترينا. وصل من سانت بطرسبرغ إلى موسكو مع رجاله من حرس الجيش الذين انتشروا لأول مرة في شوارع موسكو، وجلب معه أيضاً مئات الآلاف من الروبلات، من مبدأ (إطفاء الحرائق بالمال) كتكتيك معروف لامتصاص النكبات، واستطاع بالفعل، بهذا المال الكثير، أن يعيد الحياة إلى المدينة.
قسم أورلوف أنماط الحجر الصحي للسكان إلى عدة درجات: للمصابين، لأفراد الأسرة، للزوار. كان في موسكو اثنا عشر ألف منزل فرغ ثلاثة آلاف منها من أهلها؛ أي ربع منازل موسكو. لاحظ أورلوف أن السكان يتهربون من الحجر الصحي ويلجأون إلى إخفاء المرضى والجثث في بيوتهم؛ كي لا يُضطروا إذا أبلغوا عنها إلى الخضوع لحجر ينتهك نظام حياتهم المعتاد. ولهذا أمر أورلوف بإحاطة المنازل الفارغة وتمييزها بصلبان حمراء، وحظر بيع الملابس المستعملة، وأعلن عقوبة الإعدام لمن ينهب بيوت الموتى، وعقوبة السجن مع الأشغال الشاقة لمن يخفي المرضى أو جثث الموتى في منزله. وأعطت هذه الإجراءاتُ بمجموعها نتائج عظيمة إلى أن تم القضاء على الطاعون بعد حصده ستين ألف ضحية؛ أي ربع عدد السكان.
وبمساعدة المال الذي جلبه، قدم أورلوف إلى أهالي موسكو فرص العمل: أمر بردم المستنقعات وتصريف المجاري وترميم تحصينات المدينة، وأعاد بناء الطرق. كان العمال يتقاضون ما بين 10- 15 سنتاً في اليوم، هذا مبلغٌ زهيد لكنه أعانهم على البقاء. والتفت أورلوف بعد ذلك إلى ترميم ستة آلاف من المنازل التالفة.
نال أورلوف ميدالية تكريم (هؤلاء أبناء روسيا العظماء) على جهوده في إنقاذ موسكو.
اقرأ أيضًا: قصص عشق عاصفة ونهايات حزينة…كيف عاشت وريثات حكام الاتحاد السوفيتي؟ (1)
هنا لا بد من ذكر دور الطبيب الشهير د.صموئيلوفيتش، العلامة المضيئة في تاريخ موسكو. بحث هذا الطبيب عن العامل المسبب للطاعون. وكان هو نفسه قد أصيب بالتهاب الغدد اللمفاوية لمدة أسبوع، حاول أن يفحص سم الطاعون بمجهر يكبر الصورة 250 مرة. ألف د.صموئيلوفيتش مسحوقاً من خليط النترات والكبريت؛ لتبخير (تعقيم) الأماكن والأشياء الملوثة بجرثومة الطاعون، واستخدم السجناءَ الجرميين المحكومين بالموت لاختبار فعالية منتجه. استعان بهم لإجلاء جثث الموتى بمساعدة خطافٍ طويل الذراع، ثم طهر البيت وملابس المصابين بذلك المسحوق وطلب من عدة رجال من هؤلاء المحكومين أن يقيموا 16 يوماً في المنزل الذي تم تطهيره. فهم المحكومون أنهم ذاهبون إلى الموت، أنهم سيقتلون، لكنهم وعدوا بالإفراج المشروط عنهم أو بتخفيف العقوبة. نجا عددٌ قليلٌ منهم في الفترات المبكرة من التجربة، واستمر تعديل وتطوير تركيبة المسحوق إلى أن نجا الجميع أخيراً، وأطلق سراح المحكومين الناجين من الموت.
ما الذي حدث بعد القضاء على الوباء؟ صارت موسكو أجمل بعد الطاعون، تحولت إلى مدينة أوروبية! أمرت الإمبراطورة يكاترينا بوضع مخططٍ لموسكو التي كانت حتى ذلك الوقت ذات نظام نصف مديني، أقرب إلى القروي، لتخليصها من بقايا مظاهر العصور الوسطى. أعيد تنظيم الشوارع والجادات، وتم ترحيل جميع المقابر التي كانت تجاور الكنائس وتتبع لها وتتجاور كذلك مع الأحياء والبيوت (ليبقَ الأحباءُ المتوفون راقدين في مكان قريب من الأحياء). حرم الدفن في وسط موسكو منذ عام 1771؛ بل واشتدت المنافسة على المقابر “المرموقة” المشيدة بعيداً مثل مقبرة دير دونسكوي. وتم إنشاء السدود وقنوات تصريف المياه، وأصبحت المدينة أكثر أماناً.
…..
لن تنسى موسكو ثلاث ذكريات رهيبة تجرعتها في القرن التاسع عشر: الحريق، والكوليرا، وكارثة خودينكا.
حلّ وباء الكوليرا في موسكو في عامي 1830– 1831، وكذلك حلّ في سان بطرسبرغ ومقاطعات أخرى. من ذلك الزمن تأتينا معلومات موثقة جيداً من عمل وسائل الإعلام: في مجلة “موسكو” الصادرة حينها نقرأ أخبار مراقبة ومتابعة الكوليرا الآتية من نهر الفولغا، وقلق موسكو من تفشي الكوليرا في مقاطعات فولغا وأستراخان وساراتوف.
أيامها كانت روسيا تحت حكم نيكولاس الأول، الإمبراطور الصارم.. فرض الحجر الصحي واهتم بتعبئة السكان الذين كانوا مهيئين للطوارئ أصلاً بعد مكابدتهم أضرار حريق موسكو عام 1812 القريب. استجاب السكان للتعليمات: سنتلقى الوباء، سنطيع نصائح الأطباء ونبقى على قيد الحياة. الكلور وحده هو العلاج المفيد؛ لكن العلاج الأهم هو الروح الحيوية الجريئة الواعية المرحة الحذرة، الروح الحريصة على الآخرين.

كتب بوشكين أيامها إلى جونشاروفا: “أخبرتني شابة من القسطنطينية ذات مرة أن عامة الناس فقط يموتون من الطاعون. هذا مفهوم، لكن على الأشخاص المحترمين الواعين أيضاً أن يحتاطوا؛ فالوعي سوف ينقذهم، وليست حياتهم المنعمة أو نبرة أصواتهم الجميلة”. بوشكين يكتب يومها: “لا أحد منا في أمان، والوعي يحمينا من الوباء”. وكتب غوغول: “سنكون شجعان لكن حذرين، سنثق لا بالشائعات بل بما يصدر عن الحكومة عن مدى خطر الوباء”. وكتبوا كيف سيسهم الصقيع في مقاطعة موسكو في هزيمة المرض.
اقرأ أيضًا: الديكاميرون.. حكايات من زمن الطاعون
كان استعداد المدينة جيداً إذن رغم رعبها من الكوليرا المتوحشة. طوقت موسكو عسكرياً بمنتهى الحزم، وقسمت الشرطة المدينة إلى وحدات؛ تم ذلك بالشراكة بين القطاعين العام والخاص. صدرت الأوامر فعزل الناس أنفسهم طوعاً: أغلقت الجامعات وجميع المؤسسات التعليمية والأماكن العامة، وحُظر الترفيه العام وتوقفت الأعمال والتجارة، وأصبح المرض المعدي قابلاً للسيطرة.
وإذا كان من الممكن في وقت سابق مغادرة موسكو مقابل رسوم، فقد توقفت جميع محاولات اختراق المدينة دخولاً إليها أو هرباً منها. كتب المسكين بوشكين من حيث هو في الحجر الصحي في كياختا بينما يتمنى لقاء ناتاليا نيكولايفنا جونشاروفا، في موسكو: “الكوليرا اللعينة، كل جهودي لم تمكنني من الوصول إلى موسكو، فأنا محاطٌ من جميع الجهات بسلسلة شريرة من الحجر الصحي، لأن مقاطعة نيجني نوفغورود هي مصدر العدوى”. ثم يكتب بوشكين لصديقه: “ولنفرض أنني أستحم بمياه الكلور، وأشرب النعناع ولا أستسلم إلى اليأس..”.
اقرأ أيضًا: جائحات الكوليرا.. تاريخ أسود يأبى الانقطاع
هنا نرى اختلاف التخطيط جوهرياً عنه في طاعون عام 1770؛ إذ كانت سلطات موسكو حينها تختبئ تحت ظل الحكومة في سانت بطرسبرغ، وتضطر إلى استجلاب “المنقذين” والأدوية وكل شيء من سانت بطرسبرغ؛ فقد حاولت موسكو أن تستفيد من دروس وباء الطاعون، أن لا تزعج بطرسبرغ كثيراً أثناء وباء الكوليرا، واجهته بمفردها وبحكمة؛ عبر توعية السكان بمنشورات عن الكوليرا مرتين في اليوم، كما وضعت الكلية الطبية نفسها تحت تصرف لجنة “الكوليرا”.
تطوع عددٌ ضخم من الأشخاص ممن لديهم أساسيات المعرفة الطبية للعمل النشيط في المحاجر، واستعانوا بالبطانيات والكتان والملابس الدافئة؛ لكي يتعافى المصابون. وظهر بعض أشكال التكافل الاجتماعي: جمع المثقفين أحدث أعمالهم وطبعوها تحت شعار “للأيتام”؛ أي أن تذهب جميع عائدات بيعها إلى العائلات المتضررة، وفي المقابل لم يقدم التجار أي عون إلى المستشفيات، وارتفعت أسعار الأدوية. كتب مدير البريد في موسكو بولجاكوف أن رأس الثوم الذي كان يكلف بنساً واحدًا أصبح بسعر 40 كوبيكاً.
وكان الحدث الأهم: زيارة نيكولاس الأول لموسكو. كان يمكنه أن يتجنب زيارة مدينة الكوليرا؛ لكنه كتب إلى الحاكم العام في موسكو: “أنا تحت تصرفك”، وجاء، وطمأنت زيارته الكثيرين: زاد الإمبراطور الإمدادات الغذائية للمدينة، وحاولوا توزيعها وفق برنامج اجتماعي للمساعدات الإنسانية، لكنها لم تأخذ شكل البطاقات المنظمة في عصرنا الحالي.
اقرأ أيضًا: الحرب البيولوجية منذ عصر اليونان حتى “كورونا”
بماذا تعالجوا؟ عولج جميع الطلاب في الجامعة بكميات كبيرة من “كلوريد الجير النتن”، وانتشر في روسيا على نطاق واسع ما يسمى “خل اللصوص الأربعة”: خل التفاح + مرارة طازجة + مريمية + نعناع؛ يحتفظ بها تحت الشمس في زجاجة لأسبوعين، ثم تفتح الزجاجة ويضاف إليها الثوم وتترك لمدة أسبوع، ثم تصفى وتصب في وعاء نظيف. سردت آفدوتيا بونايفا بعض الوصفات الطريفة: “بعض الأشخاص لطخوا أجسامهم بالكامل بدهن القطط، وكان لدى الجميع صبغات من الفلفل الأحمر، كذلك شربوا القطران، وبخر الجميع الغرف بدخان العرعر، وشرب رجل واحد كوباً من دم البقر كل يوم في توقيت معين..”.
وكثير غيرها من الأنظمة الغذائية والعلاجات الشعبية؛ منها علاج الطبيب الشعبي خليبنيكوف: يعطي المريض المنجنيز، ثم يغطيه بأوراق مبللة بالخل ويبخره فيتعرق المريض بشدة، ويتوقف لديه القيء والإسهال. وكتبت مجلة موسكو: “ننقذ ونسعف بمياه القطران وتعفيرنا بالمنجنيز وحمض الكبريتيك والملح”، ونصائح منزلية: “أن لا تكون في غرف ضيقة ورطبة، وأن ترتدي ملابس أكثر دفئاً.”
خرجت موسكو من كوليرا 1830 بعد أن راح ضحيته فقط نحو 4000 شخص، نجا منه الشباب والأقوياء، وكان شاهداً عظيماً على التنظيم بين الحكومة والناس وبين الناس أنفسهم رغم بدائية الأدوية حينها.
يقارن هيرزين كوليرا 1830 في موسكو مع وباء باريس عام 1849 الذي مات الفقراء فيه كأنهم ذباب.
……
يبقى الحديث عن الروعة التي واجهت بها موسكو في عهد خروتشوف، وباء الجدري عام 1959:
كانت الأمراض الرهيبة؛ مثل الكوليرا، والجدري، والطاعون، قد تراجعت في القرن العشرين، وبقيت في بعض الأمكنة في عالمنا. وفي عام 1959 زار فنانٌ سوفييتي شهير دولة الهند على رأس وفد مرافق، واستمتع الفنان بزيارته ما استطاع، (فقد حضر مثلاً طقوس حرق جنازة أحد البراهمة)؛ لكن زيارته انتهت بتراجيديا، فبسبب “شؤون غرامية” عاد الفنان من الهند قبل يوم واحد مما ينبغي، ومن المطار غادر ليوم كامل إلى مكان ما في موسكو حاملاً معه الهدايا، وعاد إلى منزله في موعد عودة الوفد حاملاً الهدايا لزوجته.
بدأ الفنان يسعل في اليوم التالي، وأدخل إلى المشفى بسرعة. سريعاً أدرك علماء الأوبئة في “المدرسة القديمة” أنه “الجدري”! المرض الرهيب والنادر، وسرعان ما اتضح من أين أتى الفنان بالجدري!
اقرأ أيضًا: الإنفلونزا الإسبانية.. أم جميع الأوبئة الحديثة
كان السؤال الكبير: أين كان الفنان في اليوم الأول في موسكو؟ كانت الإجابة على هذا السؤال من نصيب الـKGB (المخابرات السوفييتية) التي كان عليها التدخل بسبب ضراوة الجدري. تطورت القصة البوليسية التي ربما صعب حل لغزها لولا (غريزة المواطن السوفييتي)؛ اهتدت المخابرات السوفييتية إلى المرأة التي ذهب إليها “بطلنا” لتقديم الهدايا، وأخذت بعض هداياه إلى لجنة الفحص، وكذلك أخذت زوجة الفنان هداياه إليها لتفحصها اللجنة أيضاً. وهكذا اجتمعت أمام اللجنة مجموعات متطابقة تقريباً من الأشياء الهندية حاملة الجرثومة.
حدث ذلك عشية رأس السنة الجديدة. توصل جهاز المخابرات السوفييتي إلى سلسلة الأشخاص الذين قدم لهم الفنان هدايا، والذين كانوا على اتصال به. وتم عزلهم جميعاً واستجمعت كل الجهود لتطويق العدوى.
اقرأ أيضًا: روسيا.. الكنيسة في خدمة الدولة
أغلقت موسكو بحظر المركبات من الدخول إليها أو الخروج منها، وكذلك القطارات الكهربائية. أقيمت الحواجز وجرى فحص دقيق للناس والأشياء. بمعجزة تم وقف وباء الجدري قبل أن يتحول إلى كوارث؛ فقد حصد عشرات الأشخاص فقط، ولم ينتشر خارج موسكو.
لم تتناول وسائل الإعلام هذه القصة كما ينبغي، وباستثناء مقالات منفصلة لم تتسرب أية معلومات، وعندما أصبح خطر الوباء حقيقياً صمت الإعلام كلياً عن هذا الموضوع. وأيضاً عندما وقع وباء الكوليرا في أوديسا عام 1970، وبدأ مسؤولو المدينة يصرخون على الشاطئ للإبلاغ عن الكوليرا: “أيها المواطنون، ظهرت حالات كوليرا في شواطئ أوديسا”؛ انزعجت السلطات العليا من هذا النداء ولم تنشر عنه أية معلومات.
المصدر: moslenta.ru