الواجهة الرئيسيةشؤون دولية

الصحراء تغدر بـ”الصحراوي”.. زعيم “داعش” في الصحراء الكبرى يتبدد في سرابها

كيوبوست- عبدالجليل سليمان

ما كان للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، أن يَزُف للشعب الفرنسي خبر مقتله بكل هذه الجزالة وبعض من الغبطة المشوبة بالفخر، قائلاً: “تستعيد ذاكرة البلاد هذه الليلة جميع أبطالها الذين قضوا من أجل فرنسا في منطقة الساحل في عمليتَي سرفال وبرخان، وعائلات الضحايا، وجميع جرحاها، وأن تضحياتهم لم تذهب سُدى”، لولا أن عدنان أبو وليد الصحراوي، زعيم (داعش) في الصحراء الإفريقية، قد كان موضع وجع عظيم وفعلي لباريس. وهذا ما ذهبت إليه أيضاً وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي، عندما وصفت مقتل الرجل بواسطة ضربة جوية من طائرة مُسيَّرة، الخميس 16 سبتمبر الجاري، بالضربة القاضية لتنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى (ISGS)، والتدمير العميق لهذا التنظيم الإرهابي.

حسناً، لماكرون ووزيرة جيوشه حق إبداء مشاعرهما الفياضة والفائضة، إزاء مقتل عدنان أبو وليد الصحراوي، التي جاءت بعد شهرَين فقط من مقتل “أبو بكر شيكاو”، زعيم “بوكو حرام” النيجيرية، وعقب بضعة أيام من تواتر الأنباء عن نية الولايات المتحدة الأمريكية نقل الحرب على الإرهاب من أفغانستان إلى إفريقيا.

اقرأ أيضاً: “لا توجد كابول إفريقية”.. فهل ستُنقل الحرب على الإرهاب إلى إفريقيا؟

صفقة أجنحة الإليزيه

ماكرون وفلورانس بارلي- وكالات

كما أن الرجل الذي جعل أجنحة الإليزيه تصفق فرحاً، وجعل باريس تعيش (خميساً) شرق أوسطياً، كان صعب المنال، متمرساً في القتال، بارعاً في التخفِّي والاختباء، قاتلاً محترفاً وهارباً عتيقاً؛ حتى إن السعر الأمريكي للحصول على معلومات عن مكان وجوده بلغ 5 ملايين دولار، بتسعيرة عام 2019، فمَن هو هذا القاتل المقتول؟

نهاراً وفي قيظ الصحراء الغربية الحارق، وفي عام غير معروف؛ يرجح أنه في بدايات سبعينيات القرن الماضي، احتفل رهط من قبيلة الرقيبات -كعادتهم- بقدوم مولود ذكر؛ لينضم إلى عائلة علي ولد سعيد ولد يماني. اشتعلت مدينة العيون، جنوبي المغرب، فرحاً بهذا اليوم العظيم، وأولمت العائلة الثرية للجميع، معلنةً عن القادم الجديد، وأطلقت عليه اسم “لحبيب”؛ كي يعيش محبوباً بينهم ومُحباً لهم.

اقرأ أيضاً: بعد هزائم ساحقة.. “داعش الموزمبيقي يتقهقر أمام الجيش الرواندي”

إلا أن الأقدار رسمت للطفل طريقاً أخرى؛ فما أنْ شبَّ عن الطوق حتى فرَّ رفقة أُسرته الثرية إلى عمق الصحراء، متجهين إلى معسكرات اللاجئين بالجزائر؛ لينضموا إلى جبهة بوليساريو التي تطالب بالاستقلال عن المملكة المغربية، ويضعوا أموالهم وأنفسهم تحت إمرة زعيم ومؤسس الجبهة، مصطفى سيد ؛ وخلف محمد عبدالعزيز، اللذين ينتميان إلى نفس القبيلة.

في المخيمات، نشأ لحبيب طِفلاً وشبَّ صبياً، درس وقاطع، وفي الأثناء تشبَّع بروح الثورة والتمرد. وما أنْ استوى على ساقَيه رجلاً، حتى التحق بالجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب “بوليساريو”.

العقيدة أوسع من الدولة

مصطفى سيد مؤسس البوليساريو

لكنه لم يلبث غير بعض السنوات حتى ضاق به أُفق بوليساريو، وهو الذي يرنو ويهفو إلى أُفق أوسع من الصحراء وأعمق من البحر. ولأن “العقيدة أوسع من الدولة”، كما كان يحلو له أن يردد، انطلق ضارباً في الصحراء لينضم في 2010 إلى كتيبة طارق بن زياد، التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وسرعان ما انتقل منها إلى تنظيم المرابطين، ثم حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، وهي جماعة جهادية نشطت بدايةً في جنوب الجزائر وشمال مالي، بين عامَي 2011 و2013؛ “معظم منسوبيها خليط من متدينين راديكاليين وتُجار مخدرات يهدفون إلى تأمين حصتهم من إيرادات التهريب عبر الصحراء والساحل بالسيطرة على طرق التهريب”، وفقاً للباحث الفرنسي ماثيو بيليرن.

اقرأ أيضاً: إفريقيا الوسطى.. من الهيمنة الفرنسية إلى السيطرة الروسية!

لقب قاتل

الصحراوي في بداية مشواره الإرهابي- وكالات

ما أنْ التحق لحبيب ولد سعيد، بحركة التوحيد والجهاد، واستقر به المقام في شمال جمهورية مالي، حتى أطلق على نفسه لقباً جديداً؛ لقد أصبح الآن “عدنان أبو وليد الصحراوي”، بل صعد درجات عُليا على سلم الحركة فأصبح أحد كبار قادتها، بل متحدثاً باسمها، وأطلَّ مرات عديدة على وسائل الإعلام الدولية مُفاخراً بانتصاراتها ومهدداً مَن وصفهم بالأعداء، بالويل والثبور وعظام الأمور.

تميَّز الرجل بكاريزما عالية، وقدرة على التأثير، ومهارات غير مسبوقة في التخفي والتأمين، وقدرة على عقد التحالفات وفضّها أيضاً؛ فبحلول عام 2013 أطلق منظمة جديدة تحت عنوان ” مجلس شورى المجاهين”، ودمجها في حركة التوحيد والجهاد التي يتزعمها مختار بلمختار، ودعا إليه تنظيم “المرابطين” مجدداً، فضلاً عن تنظيم “المُلثمين”، وأسسوا معاً تحالفاً واسعاً، تسلَّم بموجبه إمارة تنظيم المرابطين؛ إلا أن قلقه الدائم دفعه إلى التخلي عن كل هذا الجهد عندما أعلن الصحراوي، في 13 مايو 2015، ولاءه لـ”أبو بكر البغدادي”، زعيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، مُطلقاً داعشه الخاص في الصحراء الكبرى، ومتوجاً نفسه أميراً وزعيماً له، بينما تنامى عداؤه مع رصفائه من حلفائه السابقين؛ على رأسهم مختار بلمختار، الذي عارضه بشدة.

اقرأ أيضاً: أبو بكر شيكاو الإرهابي الأكثر وحشية.. هل مات منتحراً؟

تونغو تونغو

مُختار بلمختار زعيم تنظيم المرابطين الإرهابي

نشط “داعش الصحراء الكبرى” بشكل أساسي في المنطقة الحدودية بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر. وأعلن الصحراوي تطبيقه قوانين الشريعة الإسلامية، وجعل الحجاب إلزامياً على النساء، وفرض قَطع الأيدي على اللصوص، وحظر الموسيقى والرياضة والكحول والتبغ.

لم ينتظر الصحراوي، ريثما يكُف عن دواره المكان؛ حتى يتمكن من تسوية الخلافات الحادة مع بلمختار، ورهط من قادة “المرابطين” الكبار، فنصب في أكتوبر 2017 كميناً مُحكماً في بلدة “تونغو تونغو” بجمهورية النيجر، أسفر عن مقتل أربعة عسكريين أمريكيين وأربعة أشخاص من جيش النيجر؛ وهي الحادثة التي وضع الرئيس الأمريكي الأسبق ترامب، جراءها 5 ملايين دولار مقابل رأسه.

مشوار الدم

مفرزة من مقاتلي “داعش الصحراء الكبرى”- وكالات

وفي بيئة تتسم بالقسوة والخوف وعدم اليقين، ما بين طفولة ثرية في مدينة العيون، وشرخ نفسي كبير في الباكر بمعسكرات اللاجئين بالجزائر، وهروب إلى المجهول بين رمال الصحراء وأمواج المحيط، وشراسة المنافسة في أوساط الفصائل المتمردة، ورهق الأيديولوجيات الراديكالية المتطرفة والرافضة للحياة، رسم الصحراوي لنفسه ملامح الزعيم المبجل الشجاع، رغم أن الخوف كان يضرب أوصاله ويسري منه مجرى الدم، فقد روَّع الآمنين والمدنيين في المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، وقتل منهم، وَفق تقارير متطابقة، ما بين ألفَين وثلاثة آلاف شخص. كما هاجم سجن كوتوكالي في النيجر عام 2016، وقتل 7 موظفين يعملون بمنظمة إنسانية فرنسية في أغسطس 2020، وقطع بلا رحمة ولا هوادة أيدي كثيرين ممن اتهمهم بأنهم لصوص؛ خصوصاً في جمهورية مالي، بيد أن كل ذلك أخافه أكثر مما أخاف الناس منه، فأتقن فنون التخفي والهروب. ووفقاً لمقربين منه، كان الصحراوي يقظاً، شديد الحذر، يمشي على رأس أصابعه، ولا يفارقه سلاحه، مهووساً بتأمين نفسه إلى حد أنه تخلى تماماً عن استخدام الهاتف، وتوقف عن إنتاج مقاطع الفيديو والتسجيلات الصوتية التي كان شغوفاً بها. وكان يدرس كل الاحتمالات أثناء حركته؛ حتى بلغ الأمر أن يتحرك وحيداً على دراجة بخارية، كي لا يلفت الانتباه.

اقرأ أيضاً: ترحيب دولي بانضمام الإمارات إلى جهود مكافحة الإرهاب في إفريقيا

وسوسة الرمق الأخير

جنود فرنسيون في إفريقيا- وكالات

عقب الإعلان عن مقتله الخميس 16 سبتمبر، قالت وزيرة الجيوش الفرنسية: “ليست لدينا معلومات عن خليفته في هذه المرحلة؛ لكن ربما لن يكون من السهل العثور على زعيم له نفس وزن الشخص الذي قُتل”؛ لكنها أشارت إلى أنهم سيركزون في المرحلة القادمة على تحييد “إياد أغ غالي”، زعيم حركة أنصار الدين المتشددة في جمهورية مالي؛ حيث نفذت حركته عمليات متفرقة في بلده، وساحل العاج والسنغال، وأن العملية التي قضت على الصحراوي نُفذت في الفترة من 17 إلى 22 أغسطس، عقب القبض، منتصف يوليو الماضي، على العديد من مقاتلي “داعش” في الصحراء الكبرى؛ ما مكَّن القوات الفرنسية من تحديد عدة مواقع يرجح أنه يتحصن فيها، وشاركت في العملية بجانب الطائرات المسيرة (درونز) مروحية مقاتلة وقوات كوماندوز خاصة على الأرض، وقد لقي الصحراوي، الذي كان يستقل دراجة نارية، حتفه بجانب 12 من مرافقيه خلال العملية.

ما بين طفولته المرحة والهادئة في مدينة العيون جنوب المغرب، ورحلة العنت والمشقة بين مضارب مُخيم اللاجئين في الجزائر، ومشوار الدم العدمي في الصحراء والساحل، استثمر الصحراوي حياته في اللا شيء، فتناثر جسده أشلاء بين تضاعيف رمال الصحراء، وتبددت روحه القلقة في سمائها الساخنة، وبمثل ما فعل بحق الأبرياء والعُزَّل نال جزاءه من جنس عمله، ولربما كان حديث “كما تدين تُدان” آخر ما وسوست له به نفسه، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

عبد الجليل سليمان

مراسل السودان

مقالات ذات صلة