الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفةشؤون دوليةمجتمعمقالات

الشباب المتشدِّد في أيرلندا: مدينة “ليمريك” نموذجًا

ترجمات-كيوبوست

 ديفيد يونج

رغم أن تحوَّل الشباب إلى التشدد أمرٌ مستمرٌ، وينتشر بلا هوادة في جميع أنحاء أيرلندا، حتى خارج نطاق المدن الحضرية، فإنَّ الملاحظَ أن هذا التحوَّل الفكري لا يرتبطُ بالأساسِ بدوافعَ فكريةٍ سياسية أو دينية، بل إنَّ محركاتٍ أخرى تقودُ إليها؛ منها تنامي ظاهرة العصابات الإجرامية، وما تشيعه من ثقافةٍ خاصة مرتبطة بها، وأيضًا حالة الحرمان الاجتماعي. ولا تزالُ هذه الدوافعُ، رغم بروزها، أمرًا محلًا للنقاشِ، من أجلِ التوصل إلى العامل الحقيقي الأكثر تأثيرًا والذي يُسرّع من وتيرةِ هذا التحول المجتمعي، ويدفعُ الأفرادَ لهذه الاختياراتِ الجذرية في الحياة.

في الآونةِ الأخيرة، نجح باحثون في كلية لندن الجامعية UCL، وهم جزءٌ من فريق دولي، في تقديمِ أفكارٍ جديدة بشأن ظاهرة التشدد باستخدام تقنيات التصوير العصبي، التي تهدف لرسم خريطة استجابات الدماغ للشباب المتشددين المسلمين في برشلونة، ومراقبة كيفيةِ استجابتهم للتهميش الاجتماعي. وتجدر الإشارةُ إلى أن “السلوك المتطرف المؤيد للجماعة يزداد حدّة على ما يبدو بعد الإقصاء الاجتماعي”، وأن “التطرف يتبع شعورًا بالعزلة عن المجتمع“.

اقرأ أيضًا: ترجمات: نظرةٌ أعمق على شبكة التوعية بالتطرف

وفي حينِ أن “مفهوم التشدد ليس مستقرًا وواضحًا بأيِّ حالٍ من الأحوال، كما يعتقد الكثيرون الذين يعتبرونه أمرًا مسلمًا به”، فإن المصطلحَ يعتمد، في العادة، على عمليةِ تبني نظام معتقدات متطرفة، وتطويرِ الاستعداد لاستخدام العنف أو دعمه أو تسهيله، كوسيلةٍ لإحداث التغيير المجتمعي. فالمفهوم ينطوي على معانٍ أكثر من التعريفِ المعمولِ به: “التنشئةُ الاجتماعية للتطرف التي تتجلى في شكل الإرهاب” أو النزعة الجهادية، وتوفِّر أبحاثُ كلية لندن الجامعية منصةً جديدة، يمكن من خلالها مراقبةُ التشدد في الطبقات المجتمعية التي لا تعاني، بالضرورةِ، التطرفَ والصراعَ الديني، مثل المناطقِ المحرومة في مدينة ليمريك.

وفي هذا الصددِ، يقول الدكتور روبرت إف. هسكيث، المحاضرُ في العدالة الجنائيةِ في جامعة “ليفربول جون مورز”، “لقد اختطفتِ الحربُ على الإرهابِ كلمةَ التشدد، وأصبحت قابلةً للتبديل مع التطرف. لكن التشدَّد يحدثُ في بلداتنا ومدننا كلَّ يومٍ مع انضمام المراهقين والأطفال المهمشين -الذين تُركوا معزولين عن الفرص- إلى عصابات الشوارع”. ويرى هيسكيث أن ميلَ وسائل الإعلام إلى ربط التشدد بالأصولية الدينية والسياسية، قد أدَّى إلى تجاهلِ ثقافة العصابات، وعملية تجنيد الأعضاء الجدد، واعتبار ما يحدثُ أنه تشدد داخل مجتمعاتنا. ويؤكد أن عدمَ المساواة والحرمان الاجتماعي يحفِّزان المجندين الجدد على الانحراف عن التيارِ الرئيس للمجتمع؛ لأنهم يرون أن هناك غيابًا حقيقيًا للفرصِ المتاحة للحصولِ على أيِّ قدرةِ ذات مغزى للتحكم في حياتهم الخاصة.

في أيرلندا، تفيد مؤسسةُ العدالة الاجتماعية، وهي جمعيةٌ خيرية مسجلة في أيرلندا، بأن طفلًا من كلِّ 5 أطفال (دون سن 16 عامًا) يعيشون تحت خط الفقر، مما يعني أن جزءًا كبيرًا من السكان يقيمون على هامش المجتمع السائد. وترتفع هذه الأرقام عند أخذِ العديدِ من المناطق المحرومة اجتماعيًا، في جميع أنحاء البلاد، في الحسبان. ومن بين 79 “منطقة سوداء” (blackspot)، في إشارةٍ إلى المناطق الفقيرة والمضطربة، تم تحديدُها في جميعِ أنحاءِ الدولة، فإن مدينة ليمريك مسؤولةٌ، تاريخيًا، عما يقربُ من ربعِ تلك المناطق، وتُوجد في المدينة ثماني مناطق، من المناطقِ العشرة الأولى منها. ويتمُّ تصنيفُ المناطق السوداء، عادةً، عبر مؤشرِ معدَّلاتِ البطالة التي تتجاوز 27%، غير أنَّ معدلاتِ البطالةِ في هذه الأجزاء من ليمريك تفوق 35%. وعلى النقيضِ من ذلك، اعتبارًا من مايو 2019، سجَّل معدلُ البطالة، على الصعيدِ الوطني في أيرلندا، أقلَّ من 5%، وهو ما يوحي بعودةِ ظهور سوق العمل، عقب عقدٍ من الزمن من التقشفِ القسري؛ بسبب الانهيارِ الاقتصادي الذي ضرب الدولة في عام 2008. ومع ذلك، فمن المرجَّح أن يكونَ هذا مؤشرًا على تعمّق الطبقية الاجتماعية في المجتمع الأيرلندي، وتفاقمِ الإقصاء الاجتماعي، الذي يتضح بشدة في المناطق السوداء، حيث ليمريك الأشد تأثرًا. في المناطقِ التي يتخلَّى فيها المجتمعُ عن الأطفالِ والمراهقين، يمكنُ للعصابات أن تتدخل، وتستميلَ الأفرادَ لارتكابِ أعمالٍ إجرامية.

وهذا هو ما توصَّل إليه البروفيسور شون ريدموند، محلل البيانات في قسم الأطفال، عندما أجرى دراسةً في جامعة ليمريك. في تقريرٍ نُشر في عام 2017، بعنوان “كشف حقيقة ما يجري في جرينتاون”، أظهر هو وفريقُه البحثي أن “الشبكات الإجرامية تلعب دورًا مهمًا في تشجيعِ الأطفال، وإجبارهم على الانخراط في السلوك الإجرامي”. وقد أظهرت دراسةُ ريدموند التي حللت فترة أربع سنوات، كيف تستغلُ العصاباتُ، بشكلٍ منهجي، الأطفالَ الذين لا تتجاوز أعمارهم 11 سنة، عبر الكحول والمخدرات، وإغرائهم باكتسابِ مكانة متميزة داخل مجتمعاتهم.

وخلص ريدموند إلى أن هذه العصابات هي بمنزلة طاعون يصيبُ المجتمعات المحلية في جميع أنحاء أيرلندا، ولا يزال، وتقوم بارتكاب عمليات السطو والسرقة بالإكراه والاتجار في المخدرات. هذه العزلة الاجتماعية عن المجتمع السائد تُعتبر الآن المحرِّك الرئيسَ وراءَ الجرائم التي يرتكبها الشباب. من جانبه، أكد كونور جالاغر، مراسل قسم الجريمة في صحيفة “آيرش تايمز”، تقرير ريدموند وحذَّر من أن جنوحَ الأحداث يُمثِّل مشكلةً في المجتمع الأيرلندي، وذكر بالتفصيلِ كيف “يرتكب الأطفال جريمة واحدة تقريبًا من كل 10 جرائم”.

يمكن وصفُ الموقفَ المناهض للسلطة الذي تبنَّاه الشبابُ في هذه المجتمعاتِ بأنه تشدّد، ذلك أن تهميشَهم من التيار الرئيس، يدفعهم للسعي لإحداثِ تغييراتٍ اجتماعية، يمكن أن يستفيدوا منها، بدءًا من الانضمام للعصابات. ولكن كيف يمكن للقانون والنظام أن ينهارا بهذا الشكل ويسمحا بانتشارِ العصابات والفوضى واللا مبالاة؟

الجواب هو “حالة عدم الاستقرار الناجم عن انهيار المعايير والقيم أو غياب الهدف أو المُثل العليا” في المجتمعات أو الأفراد. وهذا الانفصال عن المجتمع هو ما حدث في عددٍ من العقارات السكنية التي تم بناؤها وفق أسلوبِ “الهندسة الاجتماعية” في مدينة ليمريك. داخل هذا المجتمعات، يفرز هذا الوضع حالةً من اليأس، ويعزّز ثقافةَ الجريمة.

قبل سبعِ سنواتٍ، وبصفتي صحفيًا في صحيفة وطنية، زرتُ المجتمعاتِ المحلية المضطربة في ليمريك، التي تحيط بالجانبين الشمالي والجنوبي من وسط المدينة. ومن المعروف أن كلا الموقعين يعانيان الحرمان، ولهما تاريخٌ عريق يمتد إلى فترة بنائهما في السبعينيات، ويصنفان اليومَ ضمنَ أكثر المناطق المحرومة اجتماعيًا في أوروبا. وقد رافقني نشطاءُ المجتمع المحلي خلال زيارتي، عبر أحيائهم، لرؤية حجم الدمار والخراب الذي أحدثه المجرمون والجانحون الذين يعيشون بينهم. وتعود القصةُ لبرنامج تجديد فاشل، أطلق في عام 2008، ووعد بتخصيص مليارات اليوروهات، لكنه أحدث نتائج عكسية صادمة، من أجل بثّ الحياة في المجتمعات المحلية، والتغلب على الحرمان من التعليم، ووقف موجة الإجرام. وكان من المقرر هدم 3 آلاف منزل وإعادة بنائها. وحتى الآن، تم هدم ما يزيد قليلا على ألف منزل، وتم بناء 260 منزلًا (ليست كلها داخل مناطق التجديد المحددة)، ويُزعم أنه تم ترميم 1,400 منزل في جميع المناطق الأربع المحددة.

اقرأ أيضًا: ما حقيقة العلاقة بين العنصرية والتطرف؟

ويمكن تفهُّم أن المجتمعاتِ المحلية عانت في هذه الفترة تدفقًا غير عادي. وفي هذا الصدد، قدم تومي ديلي، رئيس رابطة سكان حي “مويروس”، رؤيته التحليليةَ للأمرِ في عام 2012 حيث عبَّر كالتالي: “نحن مجرد مجتمعات تُركت لتتحلل وتتعفن. كل ما لديك الآن هو أفراد محبطون. اذهب إلى مويروس وسترى ثقوبًا كبيرة. المنازل مدمرة، في جميع أنحاء المكان.. كان هناك ألف منزل في مويروس. وهُدم 400 منها.. ما فعلوه خطأٌ أخلاقي. إنه عار.. لقد وصفها أحد أعضاء البرلمان الأوروبي بأنها دولة نامية من دول العالم الثالث”. واليوم، يمكن وصف عملية التجديد ببساطة بأنها “إهدار للمال”.

كاثيل مكارثي، رئيس مؤسسة مراقبة تجديد ليمريك، يصر على ما قاله في عام 2012: “لا أعتقد حقًا أن لَدَى الوكالة المسؤولة عن التجديد أيةَ نيّةٍ لمساعدتنا على الإطلاق. لقد جاؤوا للقضاء على هذه المجتمعات. كانت خططهم هي إفراغ تلك المناطق. يمكنك التحدث عن رغبتهم في القضاء على السلوك المعادي للمجتمع، ولكن ما فعلوه لا يسهم في تحقيقِ هذا الهدف. التجديد الاجتماعي يتعلَّق بقيمِ الناس. وهذا الأمر يستغرق سنواتٍ. لو كانوا قد تبنوا هذا النهج، لكان هناك تغيير”. وقبل نهاية فترة توليه منصب الرئيس التنفيذي لوكالة تجديد مدينة ليمريك، وصف بريندان كيني المدينة في العقدِ الأول من القرن الحادي والعشرين بأنها “أقرب إلى الفوضى، في ذلك الوقت، مثلما أي مكان في العالم” واعترف بأنه لم ير أي شيءٍ بهذا السوء.

ونتساءلُ الآن: ماذا حدث منذ أن انتهت الوكالة من عملها في عام 2012؟ للأسف، القليل جدًا. لا تزال البطالةُ والإقصاءُ الاجتماعي، هما الموضوعان المهيمنان على مشهدٍ مشوّه. وما يتم تداوله من أن هناك عملياتِ تجديدٍ للمجتمعات، تبدو من منظورٍ واقعي لا جدوى منها. ربما يتم بناء منازل جديدة في نهايةِ المطاف، ولكن إعادة بناء المجتمعات المحلية سوف يستغرق وقتًا أطول بكثير.

خلال العقدِ الأول من القرن العشرين، استحوذت عائلةُ داندون سيئة السمعة على العناوين الرئيسية، وألقت بظلالها على ليمريك، مما أثار اهتمامَ وسائل الإعلام الوطنية بعالمِ العصابات الإجرامية في ليمريك. تصدرت أنباءُ الاتجار بالمخدرات والقتل العناوينَ الرئيسة، حيث كان عددٌ قليل من العائلاتِ يتنازع على الأراضي في جميع أنحاء المدينة، وهذا ترك خلفه مجتمعاتٍ مرتعدة.

اقرأ أيضًا: 9 طرق يمكن للمجتمع المدني أن يشارك من خلالها في مكافحة التطرف

وتجدر الإشارةُ إلى أن عملياتِ إطلاق النار والنشاط الإجرامي، في وضحِ النهار، قد انخفضت بشكلٍ كبيرٍ منذ ذلك الحين، بفضل زيادة دوريات الشرطة، وتشديد القوانين. غير أن الإجرامَ لم يُستأصل من هذه المجتمعاتِ، بل إنه أبعدُ ما يكون عن ذلك. في تقدير مكارثي، لا يزال التجار الكبار هناك، يعملون بعيدًا عن الأعين، يتجنبون المشاكل التي صاحبت عصابة داندون، ويتحركون بحرية. ويمكن القول إن هذا يمثل وباءً أكثرَ خطورة على المجتمعات؛ لأن تجارة المخدرات، اليوم، أصبحت متداخلةً بشكلٍ أكثر دهاء في نسيج مجتمع ليمريك.

وتعليقًا على هذا الوضعِ، يقول مكارثي: “معدلات التسرب من المدارس، والبطالة، والسلوك المعادي للمجتمع.. كلُّها أمورٌ سيئة بنفسِ القدر الذي كانت عليه من قبل.. في نهايةِ الشارع الذي أسكن فيه، يمكن أن يتجمع أعضاءُ عصاباتٍ يصل عددُهم إلى أربعين شخصًا”. ليس كلُّ هؤلاء المراهقين المتقلبين والمحرومين من المناطق المحيطة، ذلك أن وسائل التواصل الاجتماعي مكّنت الأعضاءَ الأساسيين من جذب أفراد آخرين من جميع أنحاء المدينة والمقاطعات المجاورة للتجمع والمشاركة في الأنشطة المعادية للمجتمع، بدءًا من التخريب إلى الاعتداء على الناس. ويضيف قائلًا: “لذلك، لم يتغير شيء حقًا”.

إذا تُركت مجتمعاتٌ، مثلُ ليمريك، دون أيِّ إحساسٍ بالتحكم الحقيقي في حياتها، فإن التاريخَ، والسجل الصحفي، والبحوثَ الأخيرة، تشير جميعُها إلى إمكانيةِ التنبؤ بأنماطِ السلوك العدائية والعنيفة. احرمِ الأفرادَ من الحصولِ على التعليم، والتنمية الذاتية، وفرص العمل، وآفاقِ حياةٍ ذاتِ معنى، وستجد أن النتائج ستنحرفُ بشكلٍ مأساوي في الاتجاه المعاكس، العَدَمي والأناني، الذي ينتهي بإفراز شباب متشددين جددٍ. سواء كان ذلك في ليمريك أو في أي مكانٍ آخر في العالم.


صحفي أيرلندي

المصدر: عين أوروبية على التطرف

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة