الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون عربية
السودان على حافة الهاوية: احتمال استغلال الإرهابيين لعدم الاستقرار الحالي

كيوبوست- ترجمات
شهد السودان أربع سنوات من عدم الاستقرار السياسي، وقع خلالها انقلابان عسكريان. وقد بلغت هذه المرحلة ذروتها الآن، بعد اندلاع قتالٍ مفتوح في شوارع العاصمة الخرطوم بين فصيلين من المجلس العسكري الذي تولى السلطة. للسودان سجل طويل كمركز للنشاط الإرهابي يعود إلى ثلاثة عقود.
وفي الوقت الذي شهدت فيه السنوات الأخيرة تراجعًا بصورةٍ ما في النشاطات الإرهابية في السودان، فإن الوضع الحالي الذي قد يُنذر بحربٍ أهلية، يمكن أن يوجد ظروفًا تعيد السودان ليشكِّل مركزًا لانطلاق تهديداتٍ إرهابية سواء له أو لجيرانه.
اقرأ أيضًا: “نيويورك تايمز”: جنرالان متنافسان يبددان آمال الانتقال السلمي للسلطة في السودان
موجة الإرهاب الأولى في السودان: القاعدة وإيران
في يونيو 1989، تولى العميد في الجيش السوداني، عمر البشير، السلطة إثر انقلاب، وأطاح بالحكومة المدنية المنتخبة. تحالف البشير مع حسن الترابي، زعيم جماعة الإخوان المسلمين السودانية، الذي أنشأ الجبهة الإسلامية القومية، على غرار جماعة الإخوان المصرية. من الصعب تقييم توازن القوى الدقيق بين البشير والترابي بدقة، ولكن في المرحلة المبكرة حتى منتصف تسعينيات القرن العشرين على الأقل، بدا أن الترابي له اليد العليا.

يوثّق تقرير لجنة 11/9، أن الترابي شخصيًا هو الذي دعا أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة الوليد آنذاك، إلى التمركز في السودان في عام 1989، وهو عرضٌ قبله بن لادن في عام 1991. بن لادن “وافق على مساعدة [النظام السوداني] في الحرب المستمرة ضد الانفصاليين المسيحيين الأفارقة في جنوب السودان، إضافة إلى تشييد بعض الطرق. في المقابل سمح الترابي لبن لادن باستخدام السودان مركزًا لعمليات القاعدة في جميع أنحاء العالم، وللتحضير للجهاد”.
في الواقع، أصبح تنظيم القاعدة متداخلًا مع الدولة السودانية. وإدراكًا لهذه الحقيقة، صنّفت الولايات المتحدة السودان في عام 1993 دولة راعية للإرهاب. وبحلول ذلك الوقت، كان الترابي -الذي كان يتمتع بعلاقاتٍ جيدة مع إيران، مثل العديد من الإخوان المسلمين– قد ساعد في التوسّط في صفقةٍ بين بن لادن والثيوقراطية الإيرانية، ممثلة في عماد مغنية، ضابط في الحرس الثوري الإيراني والقائد العسكري لوحدة حزب الله في لبنان.
كان مغنية إرهابيًا منذ فترة طويلة، بدأ حياته المهنية في سبعينيات القرن العشرين مع منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يتحوّل إلى الحرس الثوري الإيراني، الذي ساعدت منظمة التحرير الفلسطينية في بنائه في لبنان في السنوات التي سبقت الثورة الإسلامية 1978-79 في إيران.

ساعد الترابي في ذلك التقارب، حيث هدف إلى التغلّب على الانقسام السني-الشيعي لإنشاء جبهةٍ إسلاموية مشتركة ضد الغرب. وأراد النظام الإيراني الشيءَ نفسه. ومن ثم بدأت الإمبريالية الإيرانية العمل من خلال هيكل ميليشيا الحرس الثوري الإيراني في جميع أنحاء المنطقة. كان هذا هو سياق اتفاق إيران مع تنظيم القاعدة، تحالفٌ لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا.
أدّى الاتفاق إلى تدريب جهاديي القاعدة في وادي البقاع من قبل الحرس الثوري الإيراني، ما مكّن تنظيم القاعدة من أن يصبح أكثر كفاءة في نشاطاته الإرهابية، طوال تسعينيات القرن العشرين، وزاد من قوته استخدامُه شبكات التسهيل والموارد السودانية، وهو ما ظهر بوضوح في تفجيرات عام 1998، التي استهدفت سفارات شرق إفريقيا.
ورغم عودة بن لادن إلى أفغانستان بحلول وقت هجوم عام 1998، لكن الانتقام الأمريكي استهدف مصنع الشفاء في الخرطوم الذي اتهم باستخدام تمويل القاعدة لتصنيع أسلحة كيميائية في الحرب الأهلية المستمرة من قبل الحكومة السودانية في الجنوب.
ورغم الجدل حول حقيقة تصنيع هذا المصنع لأسلحةٍ كيميائية، فمن الجدير بالذكر أن المسؤولين الأمريكيين المشاركين في القرار لم يترددوا أبدًا في قناعتهم بأن نظام البشير كان متورِّطًا في برنامج غير قانوني لأسلحة الدمار الشامل، وفتح السودان كملعب لرابطة من المارقين الذين يشملون صدام حسين وبن لادن.

سقوط الترابي وحرب دارفور
في عام 2000، اعتقل البشير الترابي، وكان سيعتقله مرات عدة قبل وفاة الترابي في عام 2016. سعى البشير إلى تحقيق هدفين من خلال القيام بذلك: تأمين السلطة الكاملة داخل السودان، واستكشاف طرق لرفع عزلة السودان دوليًا.
وقد جاء ذلك في الوقت المناسب: بعد 11/9، استطاع البشير أن يُروّج لتحركاته ضد الترابي، والإسلامويين المتشددين الذين جمعهم الترابي في السودان، على أنها جزء من “الحرب على الإرهاب”. لكن الانفتاح المحتمل لم يدم طويلًا.
في عام 2003، شنَّ السكان غير العرب، ومعظمهم من المسلمين الأفارقة السود، في منطقة دارفور في السودان، تمردًا بعد سنواتٍ من السياسات التمييزية، ورد نظام البشير بحملةٍ شرسة من المذابح والتطهير العرقي. لم تستخدم الحكومة السودانية جيشها وشرطتها فحسب، بل استخدمت أيضًا تشكيلاتٍ شبه عسكرية من رجال القبائل العربية البدوية المعروفة باسم “الجنجويد”.
قُتل 300,000 شخص في حرب دارفور التي أعلنت الأمم المتحدة رسميًا انتهاءها في أغسطس 2009، على الرغم من استمرار الصراع منخفض الحدة ومبادرات “السلام” المختلفة بعد ذلك بوقتٍ طويل.
قبل خمسة أشهر من “نهاية” الحرب، انتهت أي إمكانية لانخراط المجتمع الدولي مع البشير عندما أصبح أول رئيس دولة في السلطة تتهمه المحكمة الجنائية الدولية: صدرت مذكرة توقيف بتهمة الإبادة الجماعية ضد البشير.
وصل توّرط السودان في الحرب في الجنوب إلى نهايةٍ تامة على الأقل في عام 2011، مع انفصال جنوب السودان، على الرغم من أن الدولة الجديدة انهارت على الفور في حرب أهلية داخلية أعلن بشكلٍ مصطنع انتهاؤها باتفاق سلامٍ في عام 2018.
اقرأ أيضًا: العشرة الدموية من رمضان.. مشاهد مأساوية من اشتباكات الخرطوم
سقوط البشير وفشل عملية الانتقال
بدأ البشير في إعادة توجيه بقايا السودان في عام 2015، وقطع العلاقات مع إيران والانضمام إلى التحالف الذي تقوده السعودية في محاولة لوقف تمدد الحوثيين الإيرانيين في اليمن. في أبريل 2019، بعد ثلاثين عامًا تقريبًا من تولي البشير السلطة، سقط بالطريقة التي صعد بها، من خلال انقلاب عسكري.
على إثر ذلك، شُكِّل مجلس سيادة مؤقت، من الناحية النظرية هو مزيج من المدنيين والضباط العسكريين، يهدف اسميًا إلى الانتقال إلى الديمقراطية. في عام 2020، أيّدت الولايات المتحدة التوجهات الديموقراطية للسودان من خلال إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

سيْطَر على المجلس الانتقالي الجنرال عبد الفتاح البرهان، الذي أمر بقتل المتظاهرين في الخرطوم في يونيو 2019. وعلى نحوٍ حاسم، نُفذت أوامر البرهان من قبل الجنجويد، والتي كان اسمها قد تحوَّل إلى “قوات الدعم السريع” في عام 2013 بقيادة محمد دقلو، المعروف باسم “حميدتي”، الذي ساعد البرهان في الإطاحة بالبشير. وفي أكتوبر 2021، عندما توقف البرهان عن التظاهر بتقاسم السلطة مع المدنيين، وشنَّ انقلابًا ثانيًا لتطهير مجلس السيادة، ساعده حميدتي أيضًا مرة أخرى.
خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية كان الوضع كالتالي: يرأس البرهان رسميًا مجلس السيادة، مع حميدتي نائبًا له. ورغم أن خطوط السلطة الدقيقة بين الرجلين تبدو غير واضحة للمراقبين، لكنها كانت واضحة للبرهان الذي رأى بوضوح حميدتي كأحد الضباط تحت قيادته. هذا الاتفاق غير المستقر هو ما انهار الآن، حيث سعى البرهان إلى وضع قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي رسميًا تحت سيطرته كجزء من الجيش “النظامي”. اتهم البرهان حميدتي بمحاولة القيام بانقلابٍ ضده. ولا يزال من غير الواضح من أطلق النار أولًا.
منذ بدء القتال في 15 أبريل، أثبت حميدتي (أو أي شخص يدير حسابه على تويتر) مهارة كبيرة في الدعاية، وسعى إلى تصوير القتال في الخرطوم على أنه بينه، أي هو الذي يدعم الديمقراطية من جهة، وبين “الكيزان” (“الدولة العميقة” أو فلول نظام البشير)، باعتبارهم عصابة من الضباط “الإسلامويين المتطرفين”.
تجدر الإشارة إلى أنه حتى الآن، قُتل نحو 200 شخص وجرح 800 آخرون في الصراع. وقد تعرّض منزل سفير الاتحاد الأوروبي للهجوم وأُطلق النار على موكب دبلوماسي أمريكي في الخرطوم، في حين أفادت منظمة الصحة العالمية أن العنف ينتشر بسرعة خارج العاصمة.
وانتهك الطرفان وقف إطلاق النار المقترح لمدة أربع وعشرين ساعة، الذي كان من المقرر أن يبدأ في الساعة 18:00 من يوم 18 أبريل.

التهديدات الإرهابية المحتملة
في جميع أنحاء السودان، هناك جهاديون مستعدون لاستغلال الموقف إذا تدهور الوضع. الجدير بالذكر أن أقوى “فرع” لتنظيم القاعدة، حركة الشباب في الصومال، يستطيع شن هجمات على إثيوبيا، على الحدود الجنوبية الشرقية للسودان. لا يمكن استبعاد إمكانية التسلّل من هذا الجانب. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن الصومال في حدِّ ذاته هو حالة ماثلة لما يمكن أن يحدث لبلد ينزلق إلى حربٍ أهلية شاملة، فمنذ انهيار الحكومة الصومالية في عام 1991، كانت هناك حرب مستمرة، وتفتت الدولة، واستولى الجهاديون المتورطون في الإرهاب الدولي على مساحاتٍ كبيرة من الأراضي.
من الواضح أن تنظيم القاعدة لا يزال لديه مصلحة في الجهاد في السودان. قبل أكثر من ستة أشهر بقليل، أصدرت دار نشر جهادية يُعتقد أنها مرتبطة بتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، ومقرها اليمن، كتابًا يتألف من كتابات أبو حذيفة السوداني، مُنظِّر جهادي، “يوفر مُبررًا أيديولوجيًّا لشن الجهاد ضد الدولة السودانية، فضلًا عن المبادئ التوجيهية والقواعد التي يجب على الجهاديين المحتملين اتباعها عند تشكيل كيان [موحد] جديد [لمثل هذه الحرب]”.
قد يبدو تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية بعيدًا بعض الشيء، لكن شبكات تنظيم القاعدة في اليمن وإفريقيا تنسّق وتتقاسم الموارد بشكلٍ وثيق، وإلى الغرب من السودان، في منطقة الساحل، كما ناقش موقع “عين أوروبية على التطرف” ذلك، في ندوة عبر الإنترنت عقدت مؤخرًا، فإن تنظيم القاعدة نشط للغاية.
يوجد لدى السودان الآن منطقة عازلة تتمثل في جنوب السودان، تفصل بينه وبين جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث يوجد فرع قوي على نحوٍ متنام لتنظيم داعش، ولكن مع عدم الاستقرار ونقص قدرة الدولة في جنوب السودان، فإن هذه الحماية لا يمكن عصمها إذا جُذب الجهاديون إلى السودان بسبب الفراغات الأمنية.
ومرة أخرى، يُشكّل داعش تهديدًا على الجزء الغربي من القارة. إذ يقع مقر أقوى فرع لداعش في إفريقيا، تنظيم الدولة الإسلامية في غرب إفريقيا، في نيجيريا، التي تبعد بعض الشيء عن السودان، لكن داعش متكامل بشكلٍ جيد مع وحدات داعش الإفريقية الأخرى، مثل تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى، ومقره الساحل. وكما تطرقنا إليه في ندوتنا الأخيرة عبر الإنترنت، يبدو أن شبكات داعش هذه لديها مخالب في السودان بالفعل.

الخلاصة
ستكون النتيجة المثالية المرجوة للوضع الحالي هي أن يُوضع حدٌّ سريع للعنف بين البرهان وحميدتي، ومشاركة دولية من النوع الذي لم يحدث بشكلٍ واضح قبل عام 2021 للضغط على القادة الحاليين لاستئناف عملية تصل بالسودان إلى شكلٍ أكثر تمثيلًا ومسؤولية من الحكم، بما يحقِّق الاستقرار في الدولة.
البديل، الذي يبدو للأسف أكثر احتمالًا في هذه المرحلة، هو استمرار دوامة العنف التي توجد بيئة -مع مساحات غير خاضعة للحكم، وحوافز رهيبة للفصائل المتحاربة للتعاون مع أي شخص يمكنه تقديم المساعدة- ما يتيح للإرهابيين استغلالها. وهذا أمرٌ خطير للغاية.
المصدر: عين أوروبية على التطرف