الواجهة الرئيسيةشؤون دولية
السعي وراء الهيمنة.. ألفا عام من الاستراتيجية الكبرى للقوى العظمى
هناك الكثير من الحديث اليوم عن تراجع الولايات المتحدة، وتجدد التنافس بين القوى العظمى، ولكن لا ينبغي أن يكون هناك شكٌّ بأن الولايات المتحدة هي الأقوى في العالم في كل أبعاد القوة التي يمكن قياسها تقريباً..

كيوبوست
تناول الأستاذ الدكتور، كريستوفر فويتس، في كتابه: “السعي وراء الهيمنة- ألفا عام من الاستراتيجية الكبرى للقوى العظمى”، الاستراتيجيات التي اتبعتها خمس من الإمبراطوريات الكبرى، وهي الإمبراطورية الرومانية، وإمبراطورية سلالة تانغ أو “تانج” بالصينية، والإمبراطورية المغولية، والإمبراطورية الإمبريالية الإسبانية، وأخيراً الإمبراطورية البريطانية، للحفاظ على وضعها المهيمن في النظام الدولي.
ويكتسب هذا الكتاب أهمية بالنظر إلى تصاعد الصراع والتوتر بين القوى العظمى في النظام الدولي حالياً، وتحديداً، الولايات المتحدة وروسيا والصين، بسبب سعي بكين وموسكو للدفع إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، في حين تسعى واشنطن للحفاظ على وضعها المهيمن في النظام الدولي.
واستهل فويتس كتابه بمقولة من خطاب عضو مجلس الشيوخ الروماني كاتو قائلاً: “يجب تدمير قرطاج”، حيث أنهى كاتو كل خطابٍ له، بغض النظر عن الموضوع، بهذا الطلب، كما قالها عند الإدلاء بصوته في مجلس الشيوخ، ومن المحتمل أن يكون أصدقاؤه وعائلته قد سمعوا قوله هذا في أكثر من مناسبة، وقد تحققت رغبة السيناتور في عام 149 قبل الميلاد، حينما أعلنت روما الحرب على قرطاج من دون سبب حقيقي، وهو ما يمكن أن نسميه اليوم بالعمل العسكري الاستباقي. وعلى الرغم من أن القرطاجيين تمكنوا من الصمود في وجه الرومان لمدة عامين، فإنهم استسلموا، في النهاية، وحرق الرومان المدينة بشكلٍ كامل للتأكد من أن منافسهم التقليدي لن تقوم له قائمة مجدداً.

وينتقل فويتس إلى السياق الدولي الراهن، إذ يؤكد أن الولايات المتحدة كانت تتصرف في عالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، كما يحلو لها، وارتكبت أخطاء فادحةً كبيرةً وصغيرة، كما تباينت استراتيجيتها بشكلٍ جذري من رئيسٍ إلى آخر، غير أنه تم بشكلٍ ممنهج توجيه خطابٍ للشعب الأمريكي من قبل قادتهم ووسائل إعلامهم، يقوم على نشر الخوف بصورةٍ مبالغ فيها، إلا أن الأمريكيين باتوا يدركون الآن أن التهديدات والمخاطر تحيط بهم من كل مكان، فقد أصبحت الصين أكثر عدوانيةً مع صعودها إلى مصاف الدول الكبرى، بينما يعيد الروس تأكيدهم على قوتهم. كما تتجدد التهديدات النابعة من إيران وفنزويلا، وغيرهما، وهو ما يكشف عن عالمٍ معقد تضاءلت فيها قوة الولايات المتحدة ونفوذها بشكلٍ خطير.
منطق الاستراتيجية الكبرى:
تتطور قواعد السياسة الدولية بمرور الوقت، إذ إن أدواتٍ، مثل الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، والتي كانت متاحةً للرومان والمغول، ليست من الخيارات المطروحة أمام الرؤساء المعاصرين. ولا تختلف الأهداف وحسب، بل كذلك الأولويات الوطنية من حقبةٍ إلى أخرى.
ولذلك، فلن يكون من الممكن أبداً بناء استراتيجية كبرى واحدة وخالدة يمكن أن تنجح في كل عصر. وبدلاً من ذلك، فإن فهم طبيعة الزمن السائد هو أهم المهام الأساسية للاستراتيجيين. وبعبارةٍ أخرى؛ يجب أن يكون هناك أساس نظري للاستراتيجية، حتى وإن كان صانع السياسة نادراً ما استخدم هذه الكلمة من قبل.
ووفقاً لهذا المنظور، فإن الدول المهيمنة هي المطورة والمبتكرة في مجال إرساء النظريات. وتساعد النظريات الدول أيضاً في تفسير محيطها، أو ما يعرف بـ”البيئة الأمنية” المحيطة بها، أو العالم الخارجي، والتي تتشكَّل من خلال القواعد والمعايير السائدة في ذلك الوقت. وعلى هذا النحو؛ لا تُصاغ الاستراتيجية الكبرى في فراغ، إذ إن العالم الخارجي يلعب دوراً مهماً في صياغتها كذلك.
ويُلاحظ أن تقييم التهديدات والفرص في البيئة الأمنية هي عمليةٌ معقدة ومثيرة للجدل، إذ يمكن للأشخاص المختلفين الذين ينظرون إلى نفس الأدلة أن يبنوا تفسيراتٍ شديدة التباين لمحيطهم، فقد يرى البعض التهديدات في كل مكان؛ بينما يشعر الآخرون أنهم لا يقهرون تقريباً، ويعتبرون الجيران فريسةً تنتظر صياداً ذكياً.
ويرتبط إدراك القوة والتهديد ارتباطاً مباشراً، إذ إنه كلما كانت الدولة أقوى، زاد الخطر الذي تستطيع رصده. والدول المهيمنة هي بطبيعتها داعمة للوضع الراهن، وهي سريعة في إقحام نفسها في أي اضطراباتٍ محتملة، ولذا، فإن انعدام الأمن لدى القوة العظمى ليس له حدود طبيعية، ويجب أن يظل مقيداً، حتى لا يؤدِّي إلى مغامراتٍ ذات نتائج عكسية.
الاستراتيجيات الكبرى للسيطرة: الإمبراطورية الرومانية
يمثل كلٌّ من الإمبراطورين الرومانيين تراجان وهادريان النوعين المثاليين للاستراتيجية الرومانية الكبرى؛ أي التأرجح بين العدوان والصبر، أو بين التوسع وضبط النفس. وأصبح من المألوف القول بأن الرومان لم يكن لديهم استراتيجية كبرى. ووفقاً لهذا الرأي، كانت سياستهم الخارجية قائمة على رد الفعل، وليست استباقية، إذ إنهم نادراً ما انخرطوا في التخطيط طويل الأجل، وهو رأيٌ قاصر عن إدراك جوهر استراتيجية الرومان، فقد فكروا بالتأكيد بشكلٍ استراتيجي، وحشدوا الموارد لتحقيق أهدافهم والدفاع عن مصالحهم.
اقرأ أيضاً: الهندسة المدنية الرومانية… دروس للعالم الحديث
وبدلاً من التركيز على الأرض، سعى الرومان عوضاً عن ذلك للسيطرة على الأشخاص الذين يعيشون عليها، فقد كانوا مهتمين بالأعداء، أو الرعايا المحتملين، وليس على الأرض التي احتلوها. وعلى حدِّ تعبير أحد المؤرخين، كانت الجغرافيا السياسية أكثر أهميةً بكثير للرومان (وجميع الشعوب القديمة) من الجغرافيا الطبيعية. ولا يمكن إنشاء إمبراطوريات عظيمة والحفاظ عليها دون تفكيرٍ استراتيجي جاد. وكانت روما الأكثر جديةً في هذا الأمر مقارنةً بأقرنائها.
وتبنى الرومان استراتيجيةً كبرى حكيمة مكَّنتهم من حكم ربع سكان العالم، فقد كان عدد الرومان يقل دائماً عن عدد الأشخاص الذين يسيطرون عليهم، وكانت القدرة على إنجاز المزيد بالقليل هي الفكرة المركزية لدى الرومان، وجوهر استراتيجيتهم الكبرى، والتي عبرها تمكنت من فرض هيمنتها الكاملة على البحر الأبيض المتوسط. ولم يسبقهم أحدٌ إلى تبني هذه الاستراتيجية.
كانت البيئة الأمنية التي عملت فيها روما فوضويةً وتنافسيةً، حيث لم يتم ضمان السلامة أبداً وكان الجيران أعداء محتملين. لم يكن الرومان أكثر وحشيةً أو عدوانيةً من أقرانهم، كانت روما قادرة على تحقيق هدفها المتمثل في غزو العالم، لقد استخدمت أكبر أداة استراتيجية في عصرها؛ كان الجيش الروماني يمثل أداةً تدرس في توفير القوة، لأنه أنجز أكثر بكثير مما يمكن توقعه، إلا أن الحجم الذي كان يفتقره، عوضه بالمهارة، ففي ساحة المعركة، الجودة أكثر أهميةً من الكمية، ربما تكون الإمبراطورية الرومانية قد شيدت أنجح استراتيجية كبرى في التاريخ، ولكن في النهاية، انهارت وسقطت.
وعلى الرغم من أن سقوط الإمبراطورية الرومانية على أيدي أناس أقل تقدماً منهم أذهل المؤرخين على مدار سنوات، فإن سقوطها في القرن الخامس الميلادي، وفقاً للمؤرخ البريطاني، إدوارد جيبون، كان يجب أن يثير التساؤل كيف أنها تمكنت من الاستمرار لهذه الفترة الطويلة، وليس لماذا سقطت.
فقد نجت الإمبراطورية من الحروب الأهلية المتكررة، والانقلابات، والأباطرة الفظيعين و/ أو الأغبياء، والأخطاء المأساوية، والاغتيالات، والأوبئة، والمجاعات، والكوارث الطبيعية، والاضطرابات المستمرة في الخارج القريب، بل إن خمس سنواتٍ متتالية من الصراعات الداخلية في القرن الثالث لم تُسقِط روما. وبدلاً عن ذلك، عادت وظهرت أقوى من ذي قبل في نواحٍ كثيرة، غير أنها انهارت في النهاية.
سلالة تانغ (618-917):
في عهد سلالة تانغ، شهدت الصين عصراً ذهبياً للنشاط الفني والاقتصادي، حيث تقدم الابتكار والاختراع، وعاش الناس في أمانٍ ورخاء، وكانت الصين الأكثر تقدماً وقوةً على الأرض، وظلت كذلك لأكثر من ثلاثمائة عام. وحققت أسرة تانغ القوة من خلال الاعتماد على الإقناع، بدلاً من الإكراه، فتلك الأدوات تكون فعالةً عندما يستخدمها المهرة التكتيكيون، إذ لم تعتمد سلالة تانغ على أقوى جيوش الأرض، بل كانت القوة الناعمة والقوة الاقتصادية والقيادة الثقافية هي الأداة الأساسية التي استخدمتها سلالة تانغ لفرض السيطرة على مناطق نفوذها، وبالتالي كشفت هذه الاستراتيجية عن أن القوة العسكرية ليست شرطاً ضرورياً لتحقيق الأمن والازدهار الوطني.
كان المجتمع الصيني في يومٍ من الأيام مثل كل المجتمعات الأخرى، يسعي إلى النصر في الحرب، غير أن هذا بدأ يتغير خلال عهد أسرة هان، والتي تزامنت تقريباً مع الإمبراطورية الرومانية، وانتشرت في هذه الفترة الأفكار الكونفوشيوسية، والتي نشرت المبادئ السلمية واستنكرت الثقافة العسكرية، وأصبحت أيديولوجية الدولة شبه الرسمية، فقد تم تبني فلسفته تدريجياً من قبل الطبقة الحاكمة، وتسللت هذه الأفكار إلى جميع أنحاء المجتمع.
وكان الأباطرة المؤسسون لأسرة تانغ الكونفوشيوسية يدركون جيداً أن شرعيتهم واحترامهم يكمن في صياغة استراتيجية كبرى تقوم على تقدير العلماء على المحاربين والشعراء وعلى الفاتحين. واعتقدت أسرة تانغ أن من مسؤوليتها تعزيز الفضيلة والاستقامة.
واعتمد آل تانغ على مبدأ “اعرف نفسك وجيرانك” كأول مبدأ في صياغة استراتيجيتهم، وآمنوا أن أسلافهم فشلوا لأنهم لم يفهموا أعداءهم، وبالتالي صارت مناهضة العسكرة جانباً مركزياً في الثقافة الاستراتيجية الصينية. وكان هناك دائماً محاربون في الصين، غير أنهم ركزوا على جانب الأخلاق، ففي حين ركزت معظم الثقافات على قطع الرؤوس لتأمين هيبتها، اعتمد الأباطرة الصينيون بشكلٍ كبير على الأدوات غير العسكرية، وعلى وجه الخصوص ثرواتهم وثقافتهم.
ومع الأولى، يمكنهم مواجهة التهديدات عبر استئجار المحاربين. ومع الأخيرة، يمكنهم إقناع الأعداء المحتملين باتباع قيادتهم.
المغول:
عمل المغول بنجاحٍ مع أنواع التضاريس المختلفة، بما في ذلك الجبال الوعرة في أفغانستان، والغابات في بورما، والصحاري في الشرق الأوسط، كما تغلب سلاح الفرسان أيضاً على مملكة سونج الصينية الجنوبية، والتي كانت عبارة عن خليطٍ من الجبال والحقول والغابات الكثيفة والأنهار الكبرى والمدن المحاطة بالأسوار.
وتمكن تيموجين من توحيد كافة القبائل المغولية تحت سيطرته، وأطلق على نفسه في عام 1189 لقب “جنكيز خان”، والتي تعني “حاكم الكون”. وكان قادراً على العمل ضمن قيود الموارد وتحويل قوة أعدائه إلى نقاط ضعف، وهو ما مكنّه من بناء أكبر إمبراطورية على الإطلاق شهدها العالم.
ولعب عاملان أساسيان في انتصار المغول، فقد قام خان بتقسيم قواته في مواجهة أعدائه، وذلك لمهاجمة عدة أهدافٍ في وقتٍ واحد، وبذلك زاد من حالة الذعر التي أحدثتها وحدات سلاح الفرسان السريعة لديه، مما جعلها تبدو قادرة على الوقوف خارج بوابات أي مدينة في أي وقت. كما كان المغول مدركين دوماً لحجم وتكوين القوات التي يواجهونها، وكذلك مكان وجودهم، بسبب اعتمادهم على الاستخبارات، ولكن العدو لم يكن متأكداً أبداً من مدى قوة الغزاة. كما لم يكن هناك زعيمٌ في التاريخ قادراً على فهم نفسية خصمه والتلاعب بها أفضل من الخان العظيم.

من جهةٍ أخرى، أظهر المغول قدراً هائلاً من المرونة. فقد تعلموا من ممارسات أعدائهم، وكانوا دوماً يبحثون عن الدروس التي يمكن أن تساعدهم في المستقبل. ولعل الأهم من ذلك أنهم تعلموا كيفية تنفيذ الحصار، وتعلموا في سبيل ذلك قواعد الهيدرولوجيا، فقد قام جنكيز وجنرالاته بتحويل النهر الأصفر لإجبار مدينة محاصرة على الاستسلام، ولكنهم أخطأوا في الحسابات وأغرقوا معسكرهم الخاص، غير أنهم لم يرتكبوا الخطأ مجدداً، واستخدموا نفس التكتيك عدة مرات في المستقبل.
ومن الصعب معرفة كيفية وضع المغول لأولوياتهم، غير أن هناك شيئاً واحداً يمكن قوله على وجه اليقين، وهو أن المغول كانت لديهم قائمة أولويات واضحة وجهت اختيارهم للأهداف. فقد هاجموا المحاربين الذين يحترمونهم أكثر من غيرهم، وهم البدو الرحل.
ولذلك جاءت الأولوية لقبائل التتار، وشي شيا وجين قبل الإمبراطوريات العظيمة المستقرة في آسيا الوسطى والصين، إذ إن هذه الإمبراطوريات تتمركز في منطقةٍ جغرافية ولا تتركها، ولذلك كان بإمكان المغول تجاوزهم والعودة إليهم في أوقات فراغهم. وبما أن المجتمعات البدوية يمكن استيعابها بسهولة بعد قهرها، فإنهم ساعدوا في تقوية جيش المغول بدلاً من إضعافه.
وسَعَت الأمة المغولية إلى استيعاب جيرانها المهزومين، ولذلك ظهرت أقوى بعد كل حرب انتصرت فيها. وتمثلت استراتيجية المغول الكبرى في إيمانهم بأنه يمكن الفوز بإمبراطورية على ظهور الخيل، وفقاً لقولٍ مأثور لدى المغول، غير أنه لا يمكن الحكم على صهوة الجياد، فقد أخبر جنكيز أبناءه بأن “غزو الجيش لا يعني غزو الأمة، إذ يمكنك الانتصار على جيشٍ ذي تكتيكاتٍ متفوقة ورجال، لكن لا يمكنك غزو أمةٍ إلا من خلال قهر قلوب الناس”.
وفي حين أن العديد من القوى العظمى استخدمت القسوة كأداة استراتيجية، لم يفعل أي منها ذلك بشكلٍ متعمد، وبذكاء، كما فعل المغول.
ربما لم يكن لدى المغول خبراء اقتصاديون، لكن قادتهم تمتعوا بقدرٍ كافٍ من الذكاء ليدركوا سريعاً أن التجارة جلبت فائدةً كبيرةً بتكلفة قليلة، فقد اكتشف خلفاء جنكيز أيضاً أنه، بمرور الوقت، يمكن أن تكون الضرائب أكثر ربحيةً من النهب.
وعلى الرغم من بذل قصارى جهدهم، فإن محاولات المغول لاستيعاب السكان المحليين لم تقنع أبداً السكان بقبولهم، حيث اتضح أن المجتمعات التي تم غزوها بوحشية تميل إلى أن تكون لها ذكريات طويلة سيئة، وأن تلك الإمبراطوريات التي تُبنى على أسس الإرهاب لا تدوم طويلاً، إذ إن حكم المغول مهما كان قوياً، لا يمكن أبداً أن يكون شرعياً، واتضح أن الناس يفضلون القيادة الخاصة بهم، حتى عندما تكون دولتهم مستبدّة وفاسدة.
شاهد: فيديوغراف.. الاجتياح المغولي والحملات الصليبية
الإمبراطورية العثمانية:
رافقت المفاهيم الخاطئة المتعلقة بالاستراتيجية الكبرى الإمبراطورية العثمانية كامل عمرها. كان الأتراك يشنون الحرب على المسيحية، بحسب معاصريهم، وكما كتب أسقف كرواتي عام 1493 أن العثمانيين كان لديهم “شهية نهمة لذبح المؤمنين، والرغبة الشديدة في الاستيلاء على السلطة في العالم بأسره”.
وفي وقتٍ لاحق، وبعد أربعمائة سنة، أضاف رئيس وزراء بريطاني أنه “منذ اليوم الأسود الأول الذي دخلوا فيه أوروبا، كانوا أكبر عينة معادية للإنسان في الإنسانية”، لكن لا يزال من الشائع العثور على حجج حول العداء الذي لا هوادة فيه للإمبراطورية العثمانية، وقامت شرعية الحكام العثمانيين في حصولهم على لفظ “غزاة”، أو ما بات يعرف باسم “الجهاد”، أي نشر دين الله في وجه الملحدين. وكان ذلك هو الأساس الذي قامت عليه الإمبراطوريات وقتها.

ومن الصعب تخيل كيف يمكن أن تنشأ إمبراطورية، وتستمر ستة قرون، بدون استراتيجية كبرى متماسكة. وتمثلت استراتيجيتهم الأساسية في التسامح، وتقليص مقاومة السكان المحليين، فعلى الرغم من أن أعداءها الأوروبيين صوروها على أنها كافرة، فإن الإمبراطورية العثمانية كانت في الواقع متنوعةً للغاية، كان العثمانيون على حدِّ تعبير عالمة الاجتماع كارين باركي، على استعدادٍ لقبول الاختلاف الواسع في مقابل تحقيق الاستقرار، ونتيجةً لهذه السياسات، تعايشت طوائف دينية وعرقيات مختلفة، في كثيرٍ من الأحيان جنباً إلى جنب، بل كانت الحكومة العثمانية؛ على الأقل في القرن الأول من حكمهم، مكونةً من أقليةٍ من المسلمين، وأغلبيةٍ من المنتمين للطوائف الأخرى، كما أن الجيش العثماني لم يخلُ أبداً من المسيحيين، جنوداً وضباطاً، وإن تم الاحتفاظ بالمناصب العليا في إدارته للمسلمين.
وبينما طردت الدول المسيحية في البحر الأبيض المتوسط المسلمين واليهود، وأحرقت أتباع الطوائف المسيحية “المهرطقة”، كان العثمانيون يبشرون بالتسامح، ويمارسونه. وعرف الناس الذين يعيشون خارج الإمبراطورية بالتأكيد كيف تتم معاملة الأقليات عبر الحدود، كانوا يعرفون أن المسيحيين احتفظوا بأراضيهم وامتيازاتهم في ظل الحكم العثماني. كما عرفوا أن الحدود المحلية لم تتغير عندما تولى العثمانيون الحكم، وأن مناطق المقاطعات الإمبراطورية حافظت بشكلٍ عام على قوانينها المحلية.
اقرأ أيضًا: النظام العالمي القديم.. أصل العلاقات الدولية
ومنذ الأيام الأولى للإمبراطورية، استسلم عددٌ مذهل من دون مقاومة، حتى أنهم انضموا إلى صفوف العثمانيين، كما أن العديد من المسيحيين الأرثوذكس في البلقان تحت الحكم اللاتيني رحبوا بالعثمانيين لأنهم كانوا الأكثر تسامحاً.
ولم يكن المسيحيون وحدهم هم من رحبوا بالجيوش العثمانية، بل المسلمون كذلك، إذ استبدلت سوريا ومصر والعراق بحكامها المحليين العثمانيين، واستوعب العثمانيون السكان المحليين الراغبين في الإدارة الجديدة، واعتمدوا الجوانب الفعالة لأنظمتها، فقد اعترفوا بقيمة منافسيهم، فقبلوا الأرستقراطيات البيزنطية والبلقانية، ونتيجةً لذلك، تم الانتقال من حكمٍ إمبراطوري واحد إلى الآخر بسلاسة.
الإمبراطورية الإسبانية
كتب أحد المؤرخين أن الراصد العارف الذي يوجه بصره إلى إسبانيا سيرى العلامات؛ فليس من قبيل المصادفة أن اللغة الإسبانية هي اللغة الرسمية اليوم في إحدى وعشرين دولةً، مع أكثر من أربعمائة مليون ناطق أصلي.
وكان العالم الذي هيمنت عليه إسبانيا عالماً صراعياً، فقد كان المسيح دائماً حاضراً في الحياة اليومية للناس، ومشاركاً فاعلاً في مجالس الدولة، إذ سيطرت النظم الثيوقراطية على أوروبا في القرن السادس عشر، وتحالفت فرنسا الكاثوليكية مع الأمراء الألمان البروتستانت، والحكام العثمانيين المسلمين، عندما كان ذلك مناسباً، كما فعل بابا روما ذلك في بعض الأحيان.
ولم يحتل الإسبان طريقهم إلى القوة العظمى، وإنما ورثوها نتيجةً لسلسلة من الوفيات المبكرة المفاجئة؛ تشارلز حاكم جنت، وهو الذي أرسى استراتيجية الإمبراطورية الإسبانية، وجد نفسه وريثاً لأراضي هابسبورج في وسط أوروبا في عام 1520، مما جعله الزعيم لأكثر من 1800 ولاية ومدينة وإمارة. وكان الملك يعرف باسم تشارلز الأول في إسبانيا، وتشارلز الخامس في النمسا، وبأي من الاسمين؛ هو من وضع الأسس الاستراتيجية لتربع أربعة أحفاد على العرش.
اقرأ أيضًا: فنون الامتزاج الحضاري: المسيحيون واليهود والمسلمون في تأسيس الثقافة القشتالية
وعلى عكس منافسيها، كان لدى إسبانيا نظام بيروقراطي فعال استفاد منه معظم سكانها الزراعيين، كما تدخلت الحكومة الإسبانية بانتظامٍ في الاقتصاد لدعم صناعاتها الخاصة، وإلحاق الضرر بصناعات منافسيها. وربما كان الأمر الأكثر أهميةً هو أن القوى الأوروبية الإمبريالية، سعَت إلى احتكار موارد مستعمراتها واستخدامها بشكلٍ حصري، فيما سعى الإسبان إلى الاكتفاء الذاتي، واعتبروا أن الاعتماد على سلع أي منافس هي استراتيجية غير مقبولة، وأقامت إسبانيا شراكةً مبكرة بين القطاعين العام والخاص، فقد تم تأجير المناجم إلى جهاتٍ خاصة، كما فرضت الحكومة ضرائب على الدخل، إلا أنه بحلول عام 1532 أصبحت النفقات تفوق دائماً الإيرادات.
ومن أجل تغطية نفقاتهم، اضطر آل هابسبورغ إلى الاقتراض، وشهدت إسبانيا أول تخلف عن سداد الديون السيادية في التاريخ، وتمت إعادة جدولة ديونها، وأعلنت إسبانيا أربع حالات إفلاس في الأعوام 1596 و1607 و1627 و1647.
وغالباً ما كان الجنود أول من شعر بآثار الإفلاس الإمبراطوري، وتتمثل واحدة من العيوب الرئيسية للمرتزقة في أنه عندما لا يتم دفع الأموال إليهم في الوقت المحدد، يتوقف ولاؤهم للدولة.
وبذل تشارلز قصارى جهده لتهيئة ابنه للقيادة، ففي عام 1548، كتب الإمبراطور وصيةً سياسيةً للشاب فيليب مليئة بالنصائح حول كيفية الحكم، وأخبر تشارلز وريثه فيليب أن الهدف الرئيسي للاستراتيجية الإسبانية الكبرى يجب أن يكون الحفاظ على الوضع الراهن. وأعرب عن أسفه لتكلفة الحروب التي خاضها، حيث اضطر للقتال مراتٍ عديدة، وفي أماكن كثيرة، وقد سعى فيليب لاتباع أغلب نصائحه، لكنه لم يشارك والده حماسه من أجل السلام، فخلال فترة حكمه الطويلة، لم يعش الشعب الإسباني أكثر من ستة أشهر متتالية بدون حرب، وأثبت الإسبان أنهم عاجزون عن مقاومة إغراء التدخل في مشكلات جيرانهم، وتزايد جبل الديون الإمبراطورية، كما أن الأعداء الآخرون لم يرحلوا.
الإمبراطورية البريطانية:
لم يكن أيُّ جزءٍ من العالم بعيداً جداً عن البريطانيين، كولومبو في عام 1796، دلهي في عام 1803، كيب تاون في 1806 وواشنطن عام 1814 وبكين عام 1860 والقاهرة عام 1882 ولاسا عام 1903.
وعملت بريطانيا العظمى في ذروة قوتها، وفقاً لاستراتيجيةٍ واضحة المعالم أثبتت ثباتها في بعض الجوانب، وقابليتها للتكيف بشكلٍ ملحوظ على الآخرين، غير أن هذه الرؤية لم تكن محل توافق عام، فقد زعم المؤرخ سيلي في كتابه ذائع الصيت عام 1883 أن البريطانيين شيدوا إمبراطوريتهم بدون منطق أو سبب، ولكن بصورةٍ تدريجية، ومدفوعةً بالمصالح العامة والخاصة. كتب: “يبدو أننا قد غزونا نصف العالم في نوبةٍ من غياب العقل”، ويتفق أغلب المؤرخين مع ذلك الرأي، غير أن هذه الحجة سخيفة، إذ لا يمكن أن يتم تطوير إمبراطورية بدون هدف.
وعلى الرغم من حدوث التوسع في بعض الأحيان من أجل التوسع، كما هو الحال مع جميع الإمبراطوريات، كان البريطانيون بشكلٍ عام يمتلكون مبرراتٍ استراتيجية واضحة وراء غزواتهم. وكانت أولوياتهم واضحةً، كما كانت أهدافهم واضحةً ومفهومةً من قبل الصديق والعدو على حدٍّ سواء، والطرق والوسائل المستخدمة في السعي لتحقيق تلك الغايات تم اتباعها بشكلٍ أو بآخر من قبل أجيالٍ من صناع القرار.
اقرأ أيضًا: هل يمكن أن تصبح بريطانيا جمهورية؟
ولم تكن الاستراتيجية الكبرى لبريطانيا العظمى متسقة فقط ومنطقية، ولكنها واضحة للجميع، مما جعل أفعالها قابلة للتنبؤ إلى حدٍّ كبير. وكانت الإمبراطورية البريطانية مختلفةً عن أي شيءٍ تم تناوله في هذا الكتاب، وذلك لسببٍ واحد؛ وهو أنه لم يكن لدى البريطانيين جيران يخافون منهم.
وبصرف النظر عن بعض المشاكسين في بعض الأحيان، مثل الأسكتلنديين؛ كانت بلادهم حصناً طبيعياً، ونتيجةً لذلك لعبت الجغرافيا دوراً كبيراً في طريقة تفكير وتخطيط البريطانيين.
وتم اتخاذ القرارات الاستراتيجية البريطانية من قبل رجالٍ ينظرون إلى خرائط العالم بدقة، وفي جميع الحالات تقريباً أوصوا بالتوسع، مثل الرومان. وكان الحكام البريطانيين أقل اهتماماً بالمهمة الحضارية للإمبراطورية، وبدلاً عن ذلك، كانوا رجالاً عمليين أُجبروا على حكم الشعوب الأقل، وكان عمق عنصرية الإمبراطورية في قولهم إنه كلما ابتعد المرء عن العاصمة -أي أنه كلما ابتعد المرء عن لندن- قل تفكيره استنارةً.
ومن منظورٍ استراتيجي، تمكن البريطانيون من بناء إمبراطورية قوية، فقد حددوا في وقتٍ مبكر غايات واضحة، وأساليب محددة لتنفيذها، كما بذلوا قصارى جهدهم لحماية دافعي الضرائب، وجعل المستعمرات هي التي تدفع ثمن أمنها (بل وقدرتها على قمعهم).
ولم يكن هذا أمراً شائعاً أبداً بين المحتلين، إذ إن معظم المستعمرات لا تريد الحماية البريطانية، وقد دفع ذلك بالبعض، مثل أولئك الموجودين في أمريكا الشمالية، إلى التمرد. وفي أوقاتٍ أخرى لم يكن ذلك ممكناً، لأن العديد من المستعمرات لم تحقق أبداً الاكتفاء الذاتي.
وظهرت قوة بريطانيا عندما كان العالم يشهد تطوراً اقتصادياً وأخلاقياً وفلسفياً مهماً، حيث غيَّرت الليبراليةُ الإمبراطوريةَ، وكشفت تناقضاتها، وأسقطتها في النهاية، وقد كانت الأفكار وليس الأعداء هي التي لعبت دوراً حاسماً في القضاء على الإمبراطورية في النهاية.
خاتمة: القوة العظمى الحديثة
على الرغم من أن مواطني الولايات المتحدة اليوم قد لا يقدّرون وضعهم تماماً، فإن مؤرخي المستقبل سيضعون الولايات المتحدة بالتأكيد في نفس فئة القوى العظمى الواردة في هذا الكتاب، فقد كان صعودهم غير متوقعٍ وسريع، حيث تحولوا إلى أغنى بلدٍ في العالم. وتجاوز الاقتصاد الأمريكي اقتصاد بريطانيا العظمى في أواخر القرن التاسع عشر، وسرعان ما تُرجمت تلك الثروات إلى قوةٍ عسكرية.
وهناك عوامل رئيسية تفسر هذا الارتقاء السريع إلى مصاف القوى الكبرى، حيث كانت الولايات المتحدة تنعم بقاعدةٍ وفيرة من الموارد الطبيعية المتنوعة، بما فيه الكفاية لتوفر الأساس للنمو خلال العصر الصناعي. ولحسن حظها؛ كانت المستعمرات ضعيفةً، مما أعطى الأمة الجديدة الوقت لاستغلال مواردها هذه. واقترن كل هذا بكفاءة الأنظمة السياسية والاقتصادية التي سمحت للأمريكيين منذ البداية بتعظيم إمكانات أراضيهم ومواهبهم.
لم يكن من الصعب فهم الاستراتيجية الكبرى التي اتبعتها الولايات المتحدة المبكرة، فلقرنٍ ونصف كانت الولايات المتحدة دولة منضبطة، وغير راغبة في الانخراط مع بقية العالم عسكرياً أو سياسياً، كما أنها لم تكن أبداً منعزلة اقتصادياً.
تبنت الولايات المتحدة سياسة ضبط النفس، إذ لم تكن واشنطن مهددة لغيرها، كما أنها لم تتعرض للتهديد، وتجنبت التورط في صراعاتٍ من شأنها أن تصنع أعداء لها وتهدر مواردها.
وقد تغير ذلك مع هجوم بيرل هاربور، إذ إنه بعد هذا الهجوم، لن يكون من السهل على واشنطن تجاهل العالم.
وبنهاية تلك الحرب، كانت الولايات المتحدة قد أنشأت أعظم آلةٍ عسكرية شهدها العالم على الإطلاق. وباتت قوة عظمى عالمية حقاً، وهي حقيقة لا تزال صحيحة حتى اليوم.
وفي حين أن هناك الكثير من الحديث اليوم عن تراجع الولايات المتحدة، وتجدد التنافس بين القوى العظمى، لا ينبغي أن يكون هناك شكٌّ يذكر بشأن أن الولايات المتحدة هي الأقوى في العالم، في كل أبعاد القوة، التي يمكن قياسها تقريباً.
عنوان الكتاب: السعي وراء الهيمنة: ألفي عام من الاستراتيجية الكبرى للقوى العظمى
المؤلف: كريستوفر جيه فيتويز
سنة النشر: مطبعة أكسفورد الجامعية
دار النشر: 2023