الواجهة الرئيسيةتكنولوجياثقافة ومعرفةمقالات
السايبورغ.. مستقبل الهوية والثقافة مع بداية الإنسان الآلة

كيوبوست
د.عبدالرحمن بن عبدالله الشقير♦
السايبورغ هو شخص طبيعي؛ ولكن بعض أعضائه تعمل بالتقنية المتفاعلة مع الدماغ، ويشهد العالم اليوم نمواً متسارعاً في صناعة الرقائق الإلكترونية المزروعة تحت جلد الإنسان، ونمواً في صناعة التحرير الجيني؛ مما سوف يجعل البشرية أمام مستقبل غامض يحكمه أناس مخلوقون طبيعياً، ولكنهم معدلون جينياً أو مزودون بتقنيات تزيد من كفاءة الحواس وأعضاء الجسد، وهذا سوف يجعل العالم أمام مهددات جديدة وخارقة للمألوف لمنظومة القيم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية؛ مما يستدعي تكثيف الدراسات الأخلاقية والقانونية والاجتماعية حول هذه الظاهرة الآخذة في التصاعد.
وقد دخلت العلاقة بين الإنسان والآلة حالة معقدة مع ازدهار صناعة الأجهزة التعويضية، بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تحل محل أحد أعضاء الجسد المفقودة، وقد تقدمت هذه الصناعة بسبب الحروب وحوادث السيارات؛ ولكنَّ القرن الحادي والعشرين يعد بداية حقيقية للتغلب على الحدود بين الجسد والآلة[1].
إلا أن السنوات الأخيرة تشهد التحول الكبير من الإنسان الطبيعي إلى ما يُعرف بالإنسان السايبورغ؛ وهو مصطلح بدأ مع المصابين بعمى الألوان الذين زُرعت لهم رقائق إلكترونية تحسِّن من رؤيتهم، وقد تطورت ودخلت في صناعة جديدة تتحكم بتقنية الجسد، بعد نجاح إمكانية زراعة رقائق إلكترونية صغيرة تحت الجلد، تتفاعل مع أوامر الدماغ وتستجيب لها، ويمكن التحكم بها وتحديثها، ثم صار يقصد به الإنسان الذي نصفه طبيعي ونصفه الآخر يعمل بالتقنية، وهذه هي الشروط الأساسية للسايبورغ.

ويعد نيل هاريسون أول شخص تُزرع في دماغه تقنية لعلاج عمى الألوان عنده؛ ولكن أشهر سايبورغ هو عالم التقنية والعلوم البريطاني بيتر سكوت مورغان، بوصفه أول سايبورغ بالكامل (توفي في يونيو 2022)، وهو عالم تقنية بريطاني ومستشار إداري، ويؤمن بمستقبل التقنية في كل المجالات.
طمس الحدود بين الإنسان والآلة
يكمن الفرق بين الإنسان والآلة في قدرة الإنسان الطبيعي على العيش بإمكانات أقل من الأصل، بينما يعيش الإنسان السايبورغ بإمكانات تفوق الأصل، إضافة إلى زيادة معدل زرع الرقائق الإلكترونية، كبديل عن وظائف أعضاء خلقية كثيرة، وبالتالي فهو إنسان تم تشكيله حسب الطلب.

إن التطور السريع لإنتاج السايبورغ وصل إلى مراحل متقدمة بشكل يجعل الإنسان القادم يستطيع أن يستبدل بملامح جسده ولونه إمكانات خارقة؛ ولكن السايبورغ سيضطر إلى الحياة مثل التطبيقات، حيث يحتاج إلى تحديث النسخ المزروعة داخله باستمرار، وبطاريات شحن متنقلة؛ مما يعني إعادة إنتاج العبودية، ولكنها عبودية لشركات التقنية، وظهور جيل مسلوب الإرادة وعدم القدرة على التطور الذاتي ومحكوم باتفاقيات تحدد أخلاقياته.
التحرير الجيني
دخلت تقنية “التحرير الجيني” Genome Editing، في إنتاج إنسان معدل جينياً؛ وهي عملية تصميم جينات الأشخاص مخبرياً؛ بالقص والإزالة لأي جين يمكن تحديده مسبقاً، وقد بدأت التلاعبات الجينية تجتاح الإنسان بعد نجاح تطبيقها على النبات والحيوان، مما بدأ معها الاقتراب أكثر من مهددات الجنس البشري. كما يمكن لتقنيات “التحرير الجيني” إنتاج نسخ كثيرة لشخص واحد متطابقة من حيث الشكل.
ويتزايد الجدل العلمي حول أخلاقيات استخدامات “التحرير الجيني”، و”تقنية كريسبر- كاس9″، بعد نجاحها على الحيوان وإمكانية تطبيقها على الإنسان مع انخفاض ثمنها وسهولة تغيير الجينات؛ إذ صار من المتوقع وجود حيوان بجينات حيوان آخر؛ بحيث تتغير طبائع الحيوان حسب أدمغة الحيوانات المزروعة فيه؛ مما يجعلنا أمام عالم هجين بين الحيوان والحيوان، وبين الإنسان والحيوان.
ويشير تقرير إلى أن تقنية التحرير الجيني “تستخدم تقنية كريسبر- كاس9 في المختبرات؛ لدمج العيوب الجينومية أو إزالتها لدى الأجنة الحيوانية”. وقد أثار التحرير الجيني جدلاً بسبب وجود تقارير غير مؤكدة تفيد استخدامه على الأجنة البشرية. كما أظهر بعض العلماء قلقاً حول إمكانية استخدام هذه التقنية قبل التأكد من سلامتها من قِبل أطباء الخصوبة، ويتزايد هذا القلق عند معرفتنا أن التغييرات التي تحدثها هذه التقنية متوارثة، وبالتالي ستكون مفروضة على جميع الأجيال المتعاقبة، دون موافقتها([2]). وهذا يعني بالضرورة وجود أخلاقيات وقيم جديدة، تنشأ تبعاً لمصدر تصنيعها، ولا تخضع لأخلاقيات الطب ولا لمعايير دينية واجتماعية ومنطقية.
اقرأ أيضًا: من بينها التركيز وتجنب التكنولوجيا.. نصائح طبيب الأعصاب لحماية الذاكرة!
إن زراعة قطعة من مخ حيوان في مخ رجل سبعيني قعيد ومصاب بالشلل والرعاش كافية لأن تجعله يلعب الجولف دون أي أثر للقطعة الحيوانية المزروعة له. وقد أصبحت هذه حقيقة علمية؛ إذ يمكن اليوم تبادل الأنسجة المخية، ليس فقط بين أفراد النوع نفسه، بل بين الأنواع المختلفة؛ بين الإنسان والحيوان. وبعد خمسين سنة من الآن، سيكون هذا العلم الدقيق؛ علم الإحياء العصبي، قد أحدث ثورة في فهمنا للمخ والتلافيف المخية خلال مراحل النمو، وكيفية نشوئه على مر الزمن([3]).
وسوف تُسهم تقنيات التحرير الجيني في تقدم السايبورغ، وتطوير إمكانية تحويل الإنسان الطبيعي إلى سايبورغ كامل.
اكتشاف الدماغ البشري
يقول راماشاندران، عالم الأعصاب الهندي: يمكن لعلماء المخ والأعصاب الآن البدء في استكشاف إجابات لأسئلة الفلاسفة القدماء حول ماهية العقل، بتقنية تصوير الدماغ ودراسة المرضى، ثم إعادة طرح الأسئلة الصحيحة. وقد تكثفت دراسات علماء الفيزياء حول آليات عمل العقل والمخ والأعصاب، وحصل بعضهم على جوائز نوبل في الفيزياء في هذا المجال، وقد أثمرت هذه الدراسات وصلَ الدماغ بهيكل خارجي يمكِّن المصابين بالشلل الكامل أن يعيشوا حياة طبيعية[4].
ويتوقع ميشي كاكو، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء والمتخصص في دراسات العقل والدماغ، أن يتبنى العلماء “إنترنت الدماغ”؛ بحيث ترسل الأفكار والعواطف إلكترونياً حول العالم، وتصور الأحلام بالفيديو[5]. ومن المؤكد أن معرفة آليات عمل الدماغ تعني إمكانية توجيهه، وتصنيع ما يمكن أن يقوم به، ومن ثَمَّ التحكم بالعواطف والمهارات وأنواع الذكاء، ومستقبل الأخلاق والأسرة والتعليم والصحة.

وتتجه الثورات العلمية في الفيزياء وفي علوم الأحياء وفي التقنية إلى تحديد هوية الإنسان القادم، ونوعية المجتمع الذي سيعيش فيه، والتي تؤكد المؤشرات أنه سوف يكون مجتمعاً ثالثاً جديداً، غير المجتمع الواقعي والمجتمع الافتراضي، وهو مجتمع مزيج بينهما؛ وهو ما يعرف بمجتمع السايبورغ، إلا أن المستقبل سيكون له، وقد تطورت هذه التقنية وأخذت مساراً خاصاً بها، ودخلت مجالات تطوير تقنيات الحواس والأعضاء لأغراض تجميلية وليست علاجية، ثم لأغراض تجارية حسب الطلب، وتوسيع استخدامها في أكثر من حاسة وعضو في الجسد.
نحو مفهوم جديد للجسد
تؤدي منجزات تقنية السايبورغ والتحرير الجيني إلى اغتراب الإنسان عن جسده، فقد أصبح بإمكان أي إنسان أن يجري عمليات تجميل وتغيير لجسده أو لملامح وجهه أو بشرته خلال ساعات. وما سيفقده الإنسان بعد ذلك: صلابة العلاقات القرابية، وينتمي السايبورغ إلى عمله والتقنية والشركة التي طورت جسده أكثر من انتمائه إلى المجتمع، ولن يكون الجسد متقبلاً من صاحبه إذا كانت هناك مجالات سهلة ومنخفضة التكلفة؛ لتغييره بعمليات التجميل المستمرة.
أما تقنية السايبورغ فهي تدخل في عمل الدماغ، بشكل يفقد الإنسان الشعور بأنه إنسان كامل أو سايبورغ؛ بحيث تستجيب اليد أو الرجل الصناعية لتعليمات الدماغ، وتتصرفان بتوجيهاته تقنياً، وفي حال اختراق الجسد، فيمكن توجيه أوامر لليد أو الرجل بالإيذاء أو القتل عن بعد خارج إرادة صاحبهما.
وكلما تقدم تطوير الإنسان إلى السايبورغ، زاد تآكل القيم الإنسانية فيه؛ حيث إن عمليات التجميل أو تغيير الأعضاء أو زرع رقائق إلكترونية لتدعيم الأداء الجسدي والذهني، سوف تقلص قيمة الذكريات والحنين، لتنفصل علاقة الإنسان بصوره التذكارية؛ لأنه سيكون شخصاً آخر.
شاهد: فيديوغراف.. الروبوتات.. هل ستقاسمنا الكوكب؟
السايبورغ.. شكل جديد لتنظيم العلاقات الاجتماعية
توجد شكوك كبيرة في إمكانية النمو العاطفي الطبيعي لدى السايبورغ؛ مما سيؤدي إلى تغير التفاعل الاجتماعي، وعدم الاكتراث بقضايا الهوية والتنمية والعمارة والحضارة والثقافة والأدب والفنون، ولا يعترفون بالولاءات، وسيغلب عليهم هاجس المادة والتقدم العلمي المستمر، كما أنهم بشر؛ ولكنهم لا يحملون هموم البشر مثلنا في قضايا جودة مخرجات التعليم والتخصص، ولن يحملوا هموم الوظيفة والترقيات والصراع في العمل، ولن تعنيهم مسائل الزواج والإنجاب والطلاق والأسرة والأصدقاء والجيران والأقارب؛ وذلك لإيمانهم المطلق بالتقنية، ولانحيازهم لعمليات ترقية الجسد.
إن مسألة تحول التقنية من خدمة الإنسان إلى صناعة الإنسان، وظهور أناس قدموا من كوكب فضائي ليحكم الأرض، لم تعد من الخيال العلمي، بل صارت حقيقة، وبدأت تدخل مستوى التحسينات والجماليات؛ مما يعني أن البشرية ستكون أمام أزمات تتعلق بقوانين السايبورغ، وحقوقهم وواجباتهم، ثم موقفهم من الهوية والولاء والدين والقيم الاجتماعية ورؤية العالم والموت؛ وذلك لأن انتماءهم إلى الآلة والتقدم العلمي هو السمة البارزة في حياتهم حتى الآن؛ فهم -بيولوجياً- أشخاص طبيعيون ولدوا بطريقة طبيعية، ولكنهم ليسوا مثل الأشخاص العاديين بعد أن زُرعت أدمغتهم بتقنية تطوير الحواس وطاقة الجسد، وبالتالي ستكون لهم احتياجات خاصة؛ من حيث العلاج البشري وشحن البطاريات التي بداخلهم وتحديثها، كما أن أعمارهم لم تحسم، ويتوقع أن تمتد إلى مئات السنين مع تقدم التقنية.
كما يؤكد الخبراء أن السايبورغ لن يعيش إلا في البيئات المتطورة تقنياً، وفي بنية تحتية تقنية متكاملة، وسوف يحتاج إلى مشافٍ مجهزة بالطب البشري والطب التقني.

أمن السايبورغ ومستقبله
من المتوقع أن تتطور مراحل التحول من الإنسان إلى السايبورغ، من زراعة شرائح علاجية إلى شرائح بيانات في جسد الإنسان؛ لقراءتها آلياً أثناء تنقله، ولا يحتاج معها إلى حمل الجواز ولا تذاكر وبطاقات مالية، ولا حتى التعرف على المطلوبين، ولا حتى التعريف بالذات؛ حيث إن كل شيء مخزن داخله.
ومن هنا، يبرز السؤال البدهي الأول: مَنْ يسيطر على مَنْ؟
هل الشركات تتحكم في السايبورغ ومن ثَمَّ التحكم في العالم، أم أن شركات تطوير تقنية الجسد “السايبورغ” سوف تخضع لقوانين دولية تراقب نشاطها؟ فإذا كانت شركات التقنية بدأت بدايات عادية، ثم تغولت في المجتمع وفي كل شيء، وصارت لها الهيمنة على كثير من نشاط البشرية، فإنها معرضة أيضاً إلى التدهور بالأسباب التي صعدت بها نفسها؛ لتكون ضحية لبعض منتجاتها، مما يعرض السايبورغ إلى الفناء بأسباب تقنية بسيطة.
من أبرز المسائل الأمنية والمستقبلية التي سوف تنشأ مع انتشار السايبورغ مسائل مثل: جينات الأجيال الجديدة، وقضايا العمل، ومسائل التغير في العلاقات الاجتماعية والقرابية، وأنواع الجرائم والانحرافات المستقبلية، ونوع الأنظمة المالية والسياسية التي ستحكم سلوك الإنسان الطبيعي مع السايبورغ في الوقت نفسه.
وأبرز سمات الجرائم المستقبلية ستكون غامضة، وقد تنتهي جرائم تقليدية وتبرز غيرها؛ حيث إنه من المتوقع أن تنتهي جرائم: الاتجار بالبشر والتجارة بالأعضاء والدعارة والمخدرات والهجرات غير الشرعية، ومن ثَمَّ سوف يضعف دور بصمات الإصبع والعين والوجه بوصفها دليلاً للتعرف على الشخص.
كما يمكن تعطيل العمل بالمنطق في التحقيقات الجنائية؛ نظراً لوجود سمات وإمكانات بشرية بمواصفات خارقة للمنطق، وبالتالي قد تتعطل جميع الأدلة والإثباتات المادية لسهولة إنتاجها ومحاكاتها للواقع المراد تأكيده.
وإذا استطاع الإنسان أن يغير أصابعه أو يده أو عينه، أو يجري عمليات على تفاصيل وجهه، سوف يختفي معها أرشيف ضخم من بصمات التعرف على الشخص، ومن المحتمل أن تتم سرقة بصمات آخرين أو تزويرها، ولن تكون هي دليل التعرف القاطع.
وفي ما يلي سوف نستعرض ملامح من مستقبل البشرية مع صعود السايبورغ، وبداية ظهور إنسان متحول من آلة، وآلة متحولة من إنسان، كما يلي:
اقرأ أيضًا: ترويض شركات التكنولوجيا الكبرى!
رؤية السايبورغ للمجتمع ولأنفسهم
التقطت نسوية السايبورغ التطبيقات التقنية المتطورة، واستندت إليها في إثبات أنها قد تزيد من هيمنة الذكورية؛ ولكنها ترى أيضاً أن هذه التقنيات سوف تسهم في إلغاء الحدود البيولوجية بين الذكر والأنثى، وتعزز دور المرأة وإمكاناتها، كما سوف تسهم في طمس الحدود بين الإنسان والآلة، وطرح هويات جديدة لم تكن موجودة في السابق.
ويبدو من رسالة دونا هاراوي، المؤسسة لنظرية السايبورغ الشهيرة “بيان السايبورغ: العلوم والتكنولوجيا والنسوية والاشتراكية في الثمانينيات” (1985م)، أنها تشعر بالانفصال عن قيم المجتمع الواقعي وثقافته، وتحاول تأكيد حضور السايبورغ، بوصفها امرأة سايبورغ، وهي مقالة مطولة وساخرة، تكثف المقارنة بين الإنسان الطبيعي والسايبورغ.
وقد أعلنت في بيانها أن السايبورغ أناس عاديون مثلنا، ولهم أفكار وآراء في المجتمع، وتطالب بعدم تجاهلهم أو النظر إليهم بوصفهم مخلوقات غريبة، وقد أعلنت مجموعة من المبادئ في رسالتها الشهيرة؛ ومن أبرز أفكارها: تأييدها ثنائية الإنسان والآلة، مع رفض الهيمنة التقنية، وأن السايبورغ سوف يزيل الأفكار الأحادية، وينتج مفاهيم جديدة غير هوية النسوية التقليدية والاشتراكية السائدة.
اقرأ أيضاً: هكذا سيغير الذكاء الاصطناعي مستقبل البشرية
وتميَّز البيان بأنه أدخل علاقة التقنية بالإنسان من منظور ثقافي وأدبي، وقال: إن السايبورغ لا يحلم بالأسرة ولا الوظيفة ولا الموت والجنة، وقلل من أهمية الهوية السياسية والحدود، كما أشار إشارات عابرة إلى موضوعات كثيرة[6].
توجد مجموعة أفلام كثيرة من الخيال العلمي؛ ولكن يوجد فيلمان تمركزت فكرتهما حول ثنائية الإنسان الآلة، والآلة الإنسان، ويبرز معهما سؤال: مَنْ يسيطر على مَنْ؟ ثم تندرج مئات الأسئلة الفلسفية والثقافية.
أولهما فيلم الاستهلال Inception (أنتج 2010م) وهو من أفلام الخيال العلمي، ويحكي قصة جاسوس متخصص في سرقة أفكار الشركات وسحب نسخ من معلومات قيمة من العقل الباطن، بينما هم نائمون ويحلمون، كما يعمل لصالح رجل أعمال ثري يكلفه بزراعة أفكار مغلوطة في أدمغة منافسيه وهم نائمون ويحلمون، لتبدو أنها أفكار من خبراتهم وجهودهم لتفكيك شركاتهم في حال تنفيذها.

والثاني فيلم “المصفوفة” أو “ذا ماتريكس” بأجزائه الثلاثة (أُنتج الأول في مارس 1999، والثاني في مايو 2003، والثالث في نوفمبر 2003)؛ وهو يناقش قضية غضب الإنسان الآلة على الإنسان الطبيعي والانتقام منه بتحويله إلى بطاريات لخدمته، وعمق مخاطر انفلات الثقة بين الإنسان والآلة، في حال سيطرة الإنسان الآلة على الكون.
وعندما أعلن بيل غيتس، في محاضرة عام 2015، مخاطر فيروسات جديدة يمكن لها أن تفرغ الأرض من سكانها، لم يؤخذ كلامه على محمل الجد؛ ولكنه استعيد بقوة بعد جائحة كورونا (كوفيد- 19)، واتهم بأن ما يحدث مؤامرة على البشرية، وأن اللقاحات مزودة بشرائح إلكترونية استخباراتية، ورغم أن العلم يدحض كثيراً من نظرية المؤامرة؛ فإن واقع العلم يشهد تقدماً سريعاً نحو ما هو أخطر وأعمق، ويعيد إنتاج نظرية المؤامرة بأساليب ممكنة تستطيع تفريغ العالم الحالي بعالم معدل جينياً ومصنع تقنياً.

وبالتالي فإن القواسم المشتركة بين أفلام الخيال العلمي والتحرير الجيني في الإنسان والحيوان والنبات، تكمن في مادية القرن الحادي والعشرين والهوس والتنافس على المال فقط، وتدمير منظومة القيم والأخلاق والثقافة والهوية والأمن لصالح مَن يدفع أكثر.
العنصرية الجديدة
لو افترضنا أن السايبورغ سوف يتخلص من جميع القيم والثقافة والهوية، ويتجاوز عنصرية العرق واللون والجنس؛ فإنه -مهما كان- لن يتخلص من العنصرية وسيعيد إنتاجها بما يتلاءم مع طبيعته الجديدة؛ وذلك لأنه كلما وجدت ثنائية اجتماعية للمفاضلة بينهما، فسوف تكون العنصرية حاضرة، فالإنسان العادي سوف يتعامل مع السايبورغ بوصفه آلة، والسايبورغ يرى الإنسان بوصفه ذا إمكانات محدودة.
كما أن الانتماء إلى القوة والعلامات التجارية للشركات المصنعة للرقائق، سيكون أحد موضوعات العنصرية الجديدة، وكل شخص سايبورغ سوف يتعصب لشركته، ويحط من قيمة المنافسين لها.
مستقبل الوظائف والمهن
من الصعب التنبؤ بمستقبل الوظائف والمهن في عام 2040؛ بل لا يمكن التنبؤ بمعايير النجاح، وقد تختفي المعايير والمفاهيم المتعلقة بالنجاح والمنصب والمواهب والمهارات الفردية، بما في ذلك مواهب الشعر والغناء والرياضة والجمال والفنون بجميع أشكالها؛ وذلك لأن المادية ستكون طاغية، والمهارات سوف تعمل بتقنية ترقية الجسد، مما يعني فقدان عنصر الإبهار والإعجاب، وبالتالي فقدان الاهتمام بالآخرين، وستختفي السوق الشعبية التي يعرض فيها أصحاب المهارات والتمايزات مهاراتهم الذهنية والفنية والقيادية.
إلا أنه من المؤكد أن هموم التخرج في الجامعة والوظيفة والراتب والزواج والإنجاب لن تكون في قائمة هموم السايبورغ. كما أن المهارات المعتمدة على الذاكرة والذكاء كالمحاماة لن تكون ميزة باهرة؛ لأن إمكانية تخزين بيانات ضخمة من “جوجل” ستكون متاحة للسايبورغ، ويظهر شكل هذه التقنية في فيلم “اللمبي ثمانية جيجا”، عن المحامي الذي يستظهر سيرة حياة خصومه في ثوانٍ، والتقاط أكاذيبهم، ومن ثَمَّ كسب القضايا.
اقرأ أيضاً: روبوت كتب هذا المقال.. فهل يخيفك هذا الأمر؟
صعود الأناركية
تؤكد نتائج التقدم التقني والعلمي أن التنظيم العالمي الواقعي الآن يتعرض إلى الزوال التدريجي، ويحل محله مستقبل الشركات التقنية، التي من المتوقع أن تتحكم بالعالم من خلال إنتاج بشر مصنعين تقنياً وبيولوجياً ومعدلين جينياً، وبالتالي ستتغير مفاهيم كثيرة في التأثير السياسي والاقتصادي والديني وقوة حضورها في المجتمعات.
نجد الآن مؤشرات واضحة لصعود شركات التقنية العملاقة، وانخفاض علاقة الإنسان بالدولة، وانتشار اللا سلطوية أو الفوضوية، وهي نظرية الأناركية التي كانت تعد من الخيال واللا عقلانية.
وقد برز مع السايبورغ “جماعة الإنسانية العابرة” التي تميل إلى تحقيق القيم المتمركزة حول الرفاهية، بدلاً من التمركز حول سلطة دينية خارجية، والتشكيك في فكرة الشيخوخة والموت، بافتراض أن البشر سيكونون من المعمرين المتمتعين بصحتهم ونشاطهم، وتسعى التقنيات لتحسين القدرات العقلية والجسدية تدريجياً والتنمية الذاتية[7].
آلهة القرن الجديد
هذا العالم الجامح صار فيه الإنسان اليوم مثل الإنسان البدائي؛ حيث يصنع آلهته، ثم يعبدها، ثم يسقط الإنسان وآلهته ونظامه الاجتماعي، وتأتي موجة بشرية جديدة تعيد إنتاج ذاتها؛ مما يجعل من المتوقع أن تبرز آلهة جديدة تلائم القرن الحادي والعشرين، تتمثل في الشركة العملاقة التي سوف تقود الشركات العالمية لإنتاج الرقائق بأصغر حجم ممكن، وأكبر كفاءة في تخزين البيانات ودقة قراءتها في الجسد البشري.
وهذا يعني بالضرورة أن هذه التقنية المادية وحدها هي معجزة العصر، ومن يدفع أكثر يحصل على امتيازات أفضل، والرقائق وصل حجمها الآن إلى قلامة الأظافر أو حبة الأرز، وقد يزرع الإنسان واحدة إلى أكثر من خمسين في جسده، حسب الطلب، ومن المؤكد أن هذه التقنيات سوف تغري كثيراً من البشر على استخدامها، وستكون بأسعار في متناول الجميع، كما هي الحال مع تمكين جميع البشر -تقريباً- من امتلاك هواتف ذكية بالأقساط رغم ارتفاع ثمنها، وبالتالي سيكون ملايين البشر يحيون بالتقسيط، ويموتون لعدم السداد، ويعزز هذا الرأي ما نشاهده في فيلم “المستردون- Repo Men” (أنتج 2010)؛ مجموعة من الأشخاص يعملون لصالح شركات تقنية متخصصة في زرع الرقائق في أجساد الناس بالتقسيط، وترسلهم لسحب البطاريات من الذين لا يسددون؛ مما يعرض حياتهم للموت.

ومن ثَمَّ فإن آلهة القرن الـ(21) تمتلك خصائص إلهية، فهي بتحكمها في السايبورغ يمكن لها أن تحيي وتميت من خلال تعطيل البطاريات وتحديثها وتفعيلها، ولديها جنود أقوياء مصنعون آلياً، ومتفرغون لخدمتها وتحت طوعها، ويذعن أتباعها لتعاليمها، وهي تعرف عنهم أكثر مما يعرفون عن أنفسهم، وترصد ما يسرون وما يعلنون، بل وتتحكم فيهم وتوجههم؛ لامتلاكها قاعدة البيانات، وتصمم لهم مصفوفة من القيم والأخلاقيات الجديدة، بوصفها المرجعية لتفكيرهم.
التنظيم الدولي لتقنية الجسد
أثار ملف تقنية الجسد والجينوم العديد من القضايا الأخلاقية والاجتماعية والقانونية، وما يمكن أن ينتج عن اختراق الخصوصية الجينية للأشخاص، واحتمال إساءة استخدام البيانات من قِبل شركات التأمين، أو اشتراطات فحص جيني محدد من قِبل بنوك وشركات الإقراض والتوظيف، وبدأت بعض الدول -مثل ألمانيا- في إصدار قوانين تنظم العمليات العلاجية وتمنع العمليات السايبورغ لأغراض تجميلية.
وبدأ التفاعل الدولي مع جهود مجلس الأبحاث القومي الأمريكي عدداً من هذه التحديات منذ عام 1988، قبل إطلاق مشروع الجينوم البشري عام 1990 (برنامج البحث الدولي التعاوني لرسم خريطة الجينوم البشري بأكمله، والذي تم الانتهاء منه في عام 2003). تأسس برنامج الآثار الأخلاقية والقانونية والاجتماعية (ELSI) أيضاً في عام 1990 كجزء لا يتجزأ من مشروع الجينوم البشري. كانت مهمة برنامج ((ELSI هي تحديد ومعالجة القضايا التي تثيرها البحوث الجينومية التي قد تؤثر على الأفراد والأُسر والمجتمع.
واعتمدت اليونسكو الإعلان العالمي بشأن الجينوم البشري وحقوق الإنسان (1997)؛ والإعلان الدولي بشأن البيانات الجينية البشرية (2003)؛ والإعلان الدولي لأخلاقيات البيولوجيا وحقوق الإنسان (2005)؛ وتبنى مجلس الاتحاد الأوروبي التوصيات، وأنشأ البروتوكولات الإضافية؛ مثل اتفاقية حماية الإنسان والحقوق والكرامة الإنسانية في مجال علم الأحياء والطب في البحوث الطبية الحيوية المعتمد في 2005، وفُعِّل في 2007، وتم فرض اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)بقرار 2016/679 للبرلمان الأوروبي ومجلس الاتحاد الأوروبي بتاريخ 6 أبريل 2016[8].
اقرأ أيضاً: انتبهوا.. الذكاء الاصطناعي ينام معكم في السرير!
أخيراً
في كل تقنية جديدة تتغير البشرية، وما نراه منها إنما هو رأس الجليد، وعندما تنتج تقنية جديدة؛ فإن استخدامها يبدأ بشكل محدود، وقد يأخذ وقتاً يصل إلى خمسين عاماً حتى يكون حقيقة واقعية، وقد تكيفت المجتمعات مع التطورات الطبية في مجال الأجهزة التعويضية للإنسان، وعدتها ثورة في حينها؛ ولكنها توسعت لتشمل التدخل في جينات الإنسان، وإنتاج إنسان خارق من خلال طريقتَين؛ الأولى: زرع رقائق إلكترونية تزيد من القدرات الفردية في البصر والسمع والذاكرة والتحمل البدني، والثانية: “التحرير الجيني”؛ وهذا يعني إنتاج مجتمع ثالث لا يمثل المجتمع الواقعي رغم أنه بشر طبيعي مثلنا، ولا يمثل المجتمع الافتراضي؛ لأنه ليس روبوتاً “إنساناً آلياً”، وسوف يكون محمَّلاً بمنظومة متكاملة من التفاعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني والتقني.
وتقف البشرية الآن أمام تحدٍّ وجودي وديني وأخلاقي كبير؛ مما يجعلها أمام نظرية الإنسان الذي يريد أن يكون إلهاً صانعاً؛ لينتقل العالم من مرحلة الإنسان الآلة إلى مرحلة الإنسان الإله، ولا يزال الخطاب الديني والقانوني والأخلاقي والأمني في معزل عن تلك التحولات الخطيرة، وربما أنه ينتظرها حتى يصطدم بها بعد انتشارها وهيمنتها على الحياة.
أمام الباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية، طريق جديد وطويل لإنتاج معرفة علمية جديدة كلياً؛ حيث إن ما ينطبق على الإنسان الطبيعي لا ينطبق بالضرورة على السايبورغ القادم، فهو مجتمع جديد يعيش في مجتمعنا الطبيعي؛ ولكن بإمكانات خارقة، وبالتالي يتطلب هذا مراجعة المنظومة الثقافية وإنتاج ثقافة جديدة ومتخيلة في مجالات المجتمع والأدب والقانون، بما تحمله من تفاصيل، والتأثيرات المتوقعة من انهيار الأيديولوجيات السياسية والدينية والاجتماعية.
وقد آن للمنظمات والمؤسسات ومراكز الدراسات العربية المعنية أن تضطلع بمهام تنظيم التعامل التقني والطبي مع مثل هذه التقنيات العلمية، وتكثف الدراسات الاجتماعية والأخلاقية والقانونية حول تأثيرها المستقبلي على الإنسان ومكانته وقيمه وثقافته ودينه وأمنه، بل ووجوده.
المراجع:
1-فرناندو ريفيلو روتا، عدسات السايبورغ: التكنولوجيا والتجسيد، اختبار، مطبوعة دورية، مارس 2015، ص 57
2- الدورية العالمية للعلوم نيتشرnature، النسخة العربية، عدد 32، مايو 2015، ص27
3- جون بروكمان، الخمسون سنة المقبلة: مستقبل العلوم خلال النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، ترجمة فاطمة غنيم، مقالة مارك دي. هاوزر، عقول يمكن استبدالها، الإمارات: هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، ط 1، 2009، ص50
4-ميشيل كاكو، مستقبل العقل: الاجتهاد العلمي لفهم العقل وتطويره وتقويته، ترجمة سعد الدين خرفان، الكويت: سلسلة عالم المعرفة، أبريل 2017، ص 18، 19
5-ميشيل كاكو، مستقبل العقل، مرجع سابق، ص 20
6-دونا هاراوي، بيان السايبورغ، ترجمة أماني أبو رحمة
7-ماكس مور، مبادئ إكستروبية، ضمن كتاب: الإنسان في مهب التقنية، من الإنسان إلى ما بعده، ترجمة محمد إسليم، المغرب: مطبعة بلال، ص 117
8-Gemma A Williams and others, A guide to regulating genomics for health policy-makers, Regulating the unknown, POLICY BRIEF 38, World Health Organization 2020, pp. 11,12.
♦أستاذ علم الاجتماع في جامعة الملك سعود بالرياض