الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة

الزغرودة.. إرث عريق من أقصى الحزن إلى أقصى الفرح

لم يقتصر انتشار الزغرودة بالماضي في مصر الفرعونية واليونان القديمة.. إذ استخدمت في دول أخرى ولها تاريخ طويل في عدد منها

كيوبوست

على مرِّ العصور، ابتدعت الشعوب أساليب وممارسات للتعبير عن الحالة الشعورية؛ الفرح والحزن والحاجة والضعف.. إلخ، وكانت واحدة من تلك الأساليب “الزغرودة”، التي رددها الإنسان قديماً لأغراض دينية وروحانية ودنيوية، بينما تستخدمها النساء اليوم في دول شرق أوسطية خلال مناسبات مختلفة تتراوح بين أقصى الفرح وأقصى الحزن.

والزغرودة، هي صوتٌ يصدر بتحريك اللسان بسرعة إلى جهتَي اليسار واليمين مع التصويت، الذي تختلف صيغته من دولةٍ إلى أخرى؛ مثل “لولوليش” أو “ليليليش”.. وهكذا، ويعود أصل الكلمة إلى الفعل “زغرد” بمعنى ردَّدَ الصوت، علماً بأن لها أسماء أخرى كالـ”الزلغوطة” و”الهلهولة”، و”اليباب” و”الغطرفة”.

الأصل

تمكَّنت الزغرودة من تكريس نفسها كأداة للتعبير في عدة دول عربية، إلا أن مصدرها الأصلي لا يزال غير محسوم؛ لكن الأدلة تشير إلى أنها تعود إلى إفريقيا، وتحديداً مصر الفرعونية (3100 ق.م)، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال أقدم دليل مرتبط بالزغرودة، عُثر عليه في هرم أوناس في منطقة أهرامات سقارة؛ حيث كُتب على نقشٍ موجود هناك: “ها أنا الملك أوناس.. وفاتي هي حسب رغبتي، وشرفي فوقي، وأقوم بالتصفيق والزغاريد، وأجلس بين (اليافعين)”.

ويدعم هذا الطرح، رأي عالم المصريات وسيم السيسي، الذي يُرجع الزغرودة إلى مصر الفرعونية؛ فقد ظهرت الزغرودة وكان الغرض منها الوداع، على عكس الانطباع السائد اليوم أنها (الزغرودة) مرتبطة بالفرح بالدرجة الأولى. وحسب السيسي، فقد ودعت النساء الملك “سقنن رع” الثاني، في حربه لتحرير مصر من الهكسوس، بالطبول والموسيقى والرقص الجنائزي والزغاريد.

سيدة تزغرد

ويوجد للزغرودة رديفٌ إغريقي؛ فقد مارس الإغريق القدامى (1500 ق.م) الزغردة التي عُرفت بـ”ololuge” في طقوسهم الدينية، وللتعبير عن البهجة والاحتفاء بالأخبار السارة. وبالمقابل، وظفها الكاتب المسرحي الإغريقي “إسخيليوس” في ثلاثيته “إجاممنون” كأداة للتعبير عن الغضب، وذلك حسب ما جاء في كتاب “A Companion to Greek Tragedy”، للمؤلفة “جوستينا غريغوري”، كما استخدمها الكاتب الإغريقي “سوفوكليس” في تراجيديته “إلكترا”؛ كناية عن الحزن، وفقاً للكاتبة “لورا مكلور”، في كتابها ” Spoken Like a Woman: Speech and Gender in Athenian Drama”.

بينما تشير تقديرات إلى أن الإغريقيين اقتبسوا الزغردة من النساء الليبيات؛ وذلك استناداً إلى قول الشاعر الإغريقي هوميروس: “أظن من جهتي أن الصراخ العالي الذي يُنطق في طقوسنا المقدسة جاء من هناك أيضاً؛ فالمرأة الليبية تقدم كثيراً لمثل هذه الصرخات، وتلفظها بلطفٍ شديد”، وبذلك يمكن إرجاع الزغرودة بكل الحالات إلى شمال إفريقيا.

استخدامات قديمة

ولم يقتصر انتشار الزغرودة بالماضي في مصر الفرعونية واليونان القديمة؛ إذ استُخدمت في عدة دول أخرى، ولها تاريخ طويل في عدد منها، فمثلاً في شبه الجزيرة العربية، قبل الإسلام، كانت النساء تزغرد وتقرع الطبول، في ساحات المعارك برفقة أزواجهن؛ لتشجيعهم وتحميسهم على خوض الحرب بمعنوياتٍ عالية.

اقرأ أيضاً: عبر خاصية جديدة.. “تويتريخاطب النساء العربيات بصيغة المؤنث

كما استُعملت الزغرودة في الهند؛ إذ يعتقد الهنود ضمن موروثهم الشعبي، أن الزغردة تطرد الطاقة السلبية من الجسم، وهم يشتركون بذلك مع المصريين القدامى الذين استخدموها إلى جانب الوداع؛ لطرد الأرواح الشريرة.

بينما يربط البعض صيغة الزغرودة المعتمدة في بلاد الشام “لي لي ليش” باسم آلهة العواصف “ليليث” في بلاد الرافدين، معتبرين أن الصيغة جاءت من الاسم الذي كانت تردده النساء لتجنب شر وغضب ليليث.

بين الفرح والحزن

كونها جزءاً من الموروث الثقافي، فقد ظهرت الزغرودة في جوانب الحياة المختلفة؛ كالسينما مثلاً، فقد صدحت الزغاريد في مشاهد الأفراح في الأفلام المصرية، كانعكاسٍ للواقع؛ إذ تزغرد النساء عند عقد قران الأزواج في مصر ومعظم الدول العربية، وفي بلاد الشام تسبق زغرودة الأفراح ما يُسمى بـ”المهاهاة”؛ إذ تقول إحدى النساء أبيات شعر شعبي مقفى عن جمال العروس ومزايا العريس، وعندما تنتهي تزغرد النساء خلفها مجتمعات، مثلاً:

اويها خدودك طرايا

اويها وزنودك مرايا

اويها تسلم عيون (اسم العريس)

اويها نقاكي من بين الصبايا

مشهد لوصلة “مهاهاة” من مسلسل “باب الحارة”

ولا يقتصر ترديد الزغاريد كنايةً عن الابتهاج في الأعراس فقط؛ إنما عند ولادة طفل أيضاً، ففي المغرب كانت النساء تطلق ثلاث زغاريد عندما تلد المرأة ذكراً، بينما تطلق زغرودة واحدة عندما تلد أنثى، حسب الكاتب المغربي عبدالله الساعدي، في كتابه «المعتقدات الروحية في إفريقيا»، إلى جانب طهور الرضع الذكور، واستقبال الحجاج، والتخرج في الجامعة أو المدرسة…

زغرودة من جنازة الشهيد الفلسطيني باسل الأعرج- مواقع التواصل الاجتماعي

ومع أن غرضها الحديث هو تكريس الفرح، فإن استخدامها الأصلي لم يفارقها تماماً؛ فقد بقيت تُستعمل كطريقة للوداع الذي صممت لأجله، وذلك يحدث في فلسطين؛ حيث تطلق النساء الزغاريد عند وداع الشهيد قبل نقله إلى مثواه الأخير، وهنّ بذلك يَزْفُفْنَه شهيداً تشبيهاً بزفاف العريس.

اقرأ أيضاً: ماذا تعلمنا الملاحم اليونانية عن العلاقة المميزة بين الآباء والأبناء؟

وسبقتهن بذلك نساء ليبيا اللواتي ردَّدْنَ الزغاريد بعد إعدام عمر المختار، أبي المقاومة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي، كما تطلق النساء الزغاريد احتفالاً بالنصر؛ فقد اعتادت النساء الفلسطينيات مع انطلاق الثورة الفلسطينية، الزغردة احتفاءً بالمقاومين.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات